بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 28 أغسطس 2018

التاويل و التفويض ''الجزء الأول''

الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على طه الأمين 
وبعد
التاويل و التفويض
''الجزء الأول''
ما هو التأويل؟
التأويل هو: ''صرف النص عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله''،
فإذا كان المعنى الذي يُصرف إليه موافقاً الكتاب والسنة الصحيحة، فالتأويل غير مذموم،
أما إذا كان هذا المعنى مخالفاً الكتاب أو السنة الصحيحة فإنه تأويلٌ مذموم،
وقد عرّف الإمام تاج الدين السبكي التأويل تعريفاً قريباً من التعريف السابق كما في كتابه 
''جمع الجوامع''الذي كان يُدرَّس إلى عهد قريب في جامعة الأزهر الشريف بمصر
وفيه: ''التأويل هو حمل الظاهر على المحتمل المرجوح''. انتهى.

شروط التأويل
وهـذا التأويل لا يُستعمل إلا بشروط، وهي أن يكون هناك دليل عقلي قاطع
أو سمعي ثابت يُسَوِّغ التأويل،
كما قال ذلك الإمام فخر الدين الرازي،
صاحب التفسير المشهور ومجدد القرن السادس الهجري،
في كتابه ''المحصول'' ما نصه:
''ولا يَسوغُ تأويلُ النص أي إخراجه عن ظاهره بغير دليل عقلي قاطع أو سمعي ثابت''. انتهى. 
فهذا العالم الجليل لم ينفِ جواز التأويل، ولم يعتبر من أوَّل جهمياًّ أو معتزلياًّ 
كما ادَّعى المجسمة المشبهة،
بل إن الرازي قيد جواز التأويل بوجود دليل عقلي قاطع أو نقلي ثابت،
وقال مثل كلام الـرازي القاضـي عيـاض في كتابه ''الشفا بتعريف حقوق المصطفى''،
وقال ''شارح الشفا'' مثل ذلك أيضاً، وكذلك نقل النووي
عن الخطيب البغدادي في كتابه ''المجموع'' كلاماً مشابهاً لكلام القاضي عياض،
وكذلك ذكر القرطبي.

أنواع التأويل ومتى يسوغ استعماله؟
أما أنواع التأويل فنوعان: 
أولا: ''التأويلٌ الإجماليّ''، ويسميه بعض العلماء ''التفويض''. 
ثانيا: هو ''التأويل التفصيلي''.

التفويض أو التأويل الإجمالي
التأويل الإجمالي كان مسلكاً لغالب السلف،
فالغالب عليهم أنهم يؤولونها تأويـلاً إجماليـاً وذلـك بالإيمـان بها
واعتقاد أن لها معنى يليق بجلال الله وعظمته، بلا تعيين ولا تكييف،
وقد قالوا: ''أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف''، كما ورد ذلك عن كثير منهم. 
ولم يصح عن أحد من علماء السلف أنه قال: أمِرُّوا ءايات الصفات على ظاهرها،
فكلمة: ''على ظاهرها'' هذه لم يذكرها أحدٌ قط،
لأن الأخذ على الظاهر في جميع الآيات يؤدي إلى أن القرءان يتعارض،
وكتاب الله يتعاضد أي يتفق ولا يتعارض،
لذلك يُرَدُّ المتشابه من الآيات وهو الذي يحتمل أكثر من معنى إلى المحكم
من الآيات وهو الذي يحتمل معنىً واحداً،
ومستند ذلك قوله تعالى:
''هـُوَ الَّـذِى أَنـزَلَ عَلَيـْكَ الْكـِتَـابَ مِنـْهُ ءَايَاتُُ مُّحْكـَمَـاتٌ هـُنَّ أُمُّ الْكـِتَـابِ وَأُخـَرُ مُتَشَابـِهَـاتُُ''.

التاويل التفصيلي
أما النوع الثاني وهو التأويل التفصيلي، فهو مذهب الخلف،
إذ الغالب عليهم أنهم يؤولونها تفصيلاً بتعيين معانٍ لها
مما تقتضيه لغة العرب ولا يحملونها على ظواهرها
فهم مثل السلف اتفقوا على منع إجراء المتشابه على ظاهره،
وقد سلك بعض السلف مسلك التأويل التفصيلي.

النبي يدعو الله ان يعلم ابن عباس تأويل الكتاب
وكيف يمكن أن يقال إن السلف ما استعملوا التأويل 
وقد ورد في الصحيح عن سيد الكونين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
أنه قدّم له ابن عباس وضوءه فقال:
من فعل هذا؟ قلت أي قال ابن عباس: أنا يا رسول الله، فقال:
''اللهم فقّهه في الدين وعلمه التأويل''.
قال ابن الجوزي:
فلا يخلو إما أن يكون الرسول أراد أن يدعو له أو عليه،
فلا بد أن تقول أراد الدعاء له لا الدعاء عليه،
ولو كان التأويل محظورا لكان هذا دعاءً عليه لا لـه ثـم أقول أي ابن الجوزي:
لا يخلو إما أن تقول إن دعاء الرسول ليس مستجاباً فليس بصحيح،
وإن قلت إنه مستجابٌ فقد تركت مذهبك وبطل قولك:
إنهم ما كانوا يقولون بالتأويل. انتهى كلام ابن الجوزي . 
وقد قال ابن عباس في قوله تعالى:
''وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى العِلْمِ'': أنا ممن يعلم تأويله.
روى عنه ذلك السيوطي في الدر المنثور،
والسيوطي من علماء المسلمين الثقات،
فتبـين لنا ولكل ذي عينين أن الرسول صلى الله عليه وسلم
قد دعا لابن عباس بأن يعلمه الله التأويل،
فلو كان التأويل محظورا أو أنه ليس من صفات الفرقة الناجية 
لما دعا به الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما.

بيان ضلال من يأخذ بظاهر المتشابه
ونضرب الآن مثالاً لمن يُجري الآيات على الظاهر ولا يأخذ بالتأويل 
كيف يُفضي به إلى التعارض،
فقد قال تعالى:
''وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ''،
فالذين يأخذون هذه الآية على الظاهر،
يلزمهم أن الله يكون في جهة فوقٍ من عباده، ولا ظاهر إلا هذا، 
فنقول لهم: إن الله تعالى قال:
''وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ''
فظاهر هذه الآية أن الله مع كل الناس في الارض،
فمن أخذ بظاهر الآيتين قال:
إن الله فوق الناس ومعهم في ءان واحد، هنا يكون قد وقع في التعارض،
إذاً يكون الأخذ في جميع ءايات الصفات على الظاهر مرفوضاً. 
وهـذا مـا قالـه القرطـبي الـعالم الحجة الثقة، فقد قال رضي الله عنه في تفسير ءاية 
''ثـُمَّ اسْتـَوَى إِلَـى السَّمـَآءِ'':
(وقال بعضهم نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة، وهذا قول المشبهة) انتهى. 
فالقرطبي يعزو تفسير مثل هذه الآية على الظاهر للـ''مشبهة''،
وهم فرقة من الفرق الضالة يشبهون الله بخلقه،
والذي أدّاهم إلى التشبيه أنهم أخذوا تلك الآيات على ظاهرها،
وقد قال قاضي القضاة تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى 
عندما تكلم عن التأويل:
(إنما المصيبة الكبرى والداهية الدهيـاء الإمرار على الظاهر والاعتقاد أنه المراد
وأنه لايستحيل على البارئ فذلك قول المجسمة عباد الوثن). انتهى.
فانظروا كيف شنَّع هذا العالم الجليل على من يُمر هذه الآيات على ظاهرها 
ووصفهم بأنهم مجسمة 
كما قال عبدالقاهر البغدادي في كتابه أصول الدين ما نصه:
(المشبهة مجسمة والمجسمة كفار). انتهى. 
إذاً مسلك غالب السلف الإيمان بهذه الآيات كما جاءت 
من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تأويل تفصيلي.

أشهر تأويلات السلف
الآن سنذكـر من أَوَّلَ من السلف ومن الصحابة ومن العلماء المتقدمين.
عبدالله بن عباس ترجمان القرآن 
يؤول الساق على معنى الأمر الشديد 
فنبدأ بمن دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يعلمه الله التأويل
ألا وهو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما المعروف بين العلماء بـ''ترجمان القرءان''،
حيث روى عنه ابن حجر العسقلاني في ''الفتح'' فقال:
وأما الساق فجاء عن ابن عباس في قوله تعالى:
''يـَوْمَ يُكْشـَفُ عـَنْ سَاقِِ'' قال ابن عباس رضي الله عنهما:
عن شدة من الأمر. انتهى.
وقال ابن حجر في نفس الصحيفة معلقاً:
وأسند البيهقي الأثر المذكور عن ابن عباس بـ''سندين'' كل منهما ''حسن''.انتهى.
ونقل ذلك الإمام الحافظ البيهقي واللغوي المفسر أبو حيان في تفسيره.

مجاهد وقتادة
وقد نقل الطبري في تفسيره المشهور عن ابن عباس 
أنه أوّل قوله تعالى: ''وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَـهَا بِأَيْدِِ'' قال: أي بقوة. انتهى.
وكذلك روى الطبري نفس هذا التأويل عن مجاهد وقتادة وغيرهم من السلف. 
وقـد استعمـل ابـن عبـاس التأويـل في قولـه تعـالى:
''فَالْيَوْمَ نَنسَـهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـذَا''،
حيث أوّل النسيان الوارد في هذه الآية بالترك،
إذ أن الله سبحانه وتعالى مُنزه عن النسيان المعهود من البشر،
لأن النسيان المعهود من البشر نقص، والنقص لا يليق بالله جل وعلا،
فلذلك أوّل ابن عباس هذه الآية،
وكذلك نقل الطبري عن مجاهد هذا التأويل،
فهل يقال بعد ذلك إن هؤلاء معتزلة جهمية،
حاشى وكلا بل الذي يرميهم بهذه الصفات لمجرد أنهم استعملوا التأويل فهو متهم في دينه.

الإمام البخاري وسفيان الثوري
البخـاري صاحـب الصحيح المشهور
وهو من السلف الذين ذبّوا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد استعمل التأويل كما هو مدون في صحيحه قوله تعالى:
''كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ'' قال البخاري: 'إلا ملكه'. انتهى.
وثبت تأويل هذه الآية عن سفيان الثوري حيث قال:
'إلا ما ابتُغِيَ به وجه الله من الأعمال الصالحة'. انتهى.

أحمد بن حنبل
وقد ثبت عن الإمام أحمد أنه أوَّل قول الله تعالى:
''وَجَآءَ رَبُّكَ'' (أي جاء ثوابه)، 
رواه عنه البيهقي وقال:هذا إسنادٌ لا غبار عليه. انتهى.

الإمام مالك
ونقل الزرقاني عن الإمام مالك إمام دار الهجرة
أنه أوَّل حديث: ''ينزل ربنا''، بنـزول رحمتـه،
كمـا ذكـر ذلك الزرقاني في شرحه على موطأ مالك،
وقوى نسبة ذلك لمالك ابن حجر في الفتح والنووي في شرح مسلم،
فهل يقال عن هؤلاء الأعلام، الذين هم من كبار علماء السلف الصالح 
إنهم جهمية أو معتزلة لمجرد انهم اولوا تأويلا تفصيليا؟!
أو إنهم ليسوا من الفرقة الناجية لأنهم أوّلوا بعض ءايات وأحاديث الصفات؟!
فيتبين مما نقلناه عن:
ابن عباس وقتادة ومجاهد وسفيان وأحمد والبخاري ومالك
من التأويل، أن المؤول لا يكون ضالاً لمجردّ التأويل
إذا وافق القواعد التي وضعها العلماء للتأويل .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لا يصح الصوم كله فرضه ونفله مقيّده ومطلقه إلا بنية

 قال شيخ المالكية أبو القاسم بن الجلاب في التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس رحمه الله، باب النية في الصوم، (فصل) النية (ولا يصح الصوم كله فر...