ذكر ماشطة بنت فرعون
كانت ماشطة بنت فرعون مؤمنة مسلمة تكتم إسلامها، فبينما هي تمشط شعر ابنة فرعون إذ وقع المشط من يدها فقالت: بسم الله، فقالت ابنة فرعون: “أولك إله غير أبي؟” قالت الماشطة: ربي وربك ورب أبيك هو الله، فأخبرت بنت فرعون أباها بذلك، فدعا بها وبولدها وقال لها: من ربك؟ قالت: ربي وربك الله، فأمر بتنور نحاس فأحمي ليعذبها وأولادها، فقالت: لي إليك حاجة، قال: ما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام اولادي فتدفنها، فقال: لك ذلك، فأمر بأولادها فألقوا في التنور واحدًا واحدًا، وكان ءاخر أولادها صبيًا رضيعًا قال لها: اصبري يا أماه فإنك على الحق، ثم ألقيت في التنور مع ولدها.
ذكر ءاسيا بنت مزاحم
كانت ءاسيا امرأة فرعون من بني إسرائيل وقيل: كانت من غيرهم وكانت مؤمنة تكتم إيمانها، وقد دخل عليها ذات يوم فرعون فأخبرها خبر الماشطة فقالت له ءاسية زوجته: الويل لك! ما أجرأك على الله! فقال لها: لعلك اعتراك الجنون الذي اعترى الماشطة، فقالت له: ما بي جنون ولكني ءامنت بالله تعالى رب العالمين، فأقسم فرعون لتذوقنّ الموت أو لتكفرن بإله موسى، فقالت له: أما أن أكفر بالله فلا والله! فأمر فرعون فمُدَّ بين يديها أربعة أوتاد وعذّبت حتى ماتت، فلما عاينت الموت قالت:{رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}سورة التحريم. ومعنى “عندك” أي في المكان المشرف عندك وهو الجنة.
الآيات التسع التي أرسلها الله تعالى على قوم فرعون جزاءً لكفرهم وتكذيبهم نبي الله موسى عليه السلام
تمادى فرعون في تكذيب موسى وإيذاء بني إسرائيل، فأخبر موسى عليه السلام بوحي من الله تعالى فرعون وقومه بأنه سيوقع عليهم العذاب الشديد جزاء لكفرهم وتكذيبهم ما جاءهم به نبيهم موسى عليه السلام، وقد أرسل الله تبارك وتعالى عليهم أنواعًا من العذاب وصنوفًا من البلاء كانت بمثابة إنذار لهم من الله تعالى ليعودوا إلى رُشدهم ويسيروا على الصراط المستقيم الذي جاءهم به نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام.
وقد كانوا كلما وقع عليهم العذاب جاءوا إلى موسى يطلبون منه أن يسأل ربه أن يرفع عنهم العذاب، ويعِدونه بالإيمان وترك إيذاء المؤمنين من بني إسرائيل، فكان موسى عليه السلام يدعو ربه أن يكشف عنهم العذاب، فإذا كشف الله تعالى عنهم ما نزل بهم من العذاب غدروا بعهدهم واستمروا وعادوا إلى طُغيانهم.
وكانت أظهر هذه الابتلاءات الآيات التسع التي أرسلها الله تعالى على قوم فرعون بسبب كفرهم وطغيانهم، يقول الله تبارك وتعالى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ}سورة الأعراف.
والآيات البينات التسع التي أرسلها الله تعالى على قوم فرعون وأتباعه القبط هي ما يلي:
1- القحطُ والجدب: وهو الذي عَبَّر عنه القرءان بالسنين، وهي أعوام الجدب والقحط التي أصابتهم حيث كان لا يُستغل فيها زرع ولا يُنتفع بضرع.
2- النقص من الثمرات:وهي قِلة الثمار من الأشجار بسبب الجوائح والعاهات التي كانت تصيبها.
3- الطُّوفان: وهو كثرة الأمطار المتلفة للزروع والثمار، وقيل: المراد بالطوفان فيضان نهر النيل عليهم حيث فاض الماء على وجه الأرض ثم ركد فلا يقدرون أن يحرثوا أرضهم ولا أن يعملوا شيئًا حتى جهدوا جوعًا وأصابهم الضيق الشديد.
4- الجراد: وهو معروف، وقد أرسله الله تبارك وتعالى على قوم فرعون بشكل غير معهود، فكان يُغطي الخضراء – الأرض- ويحجب ضوء الشمس لكثرته، وكان لا يترك لهم زرعًا ولا ثمارًا ولا شجرًا حتى قيل: إنه كان يأكل مسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورُهم ومساكنهم.
5- القمل:وهو السوسُ الذي يفسدُ الحبوب، وقيل: هو القمل المعروف، وقيل: هو البعوض الذي أقضّ مضاجعهم ولم يُمكنهم معه الغمض والنوم والقرار.
6- الضفادع: وهي معروفة، وقد كثرت عندهم حتى نغَّصت عليهم عيشَهم، حيث كانت تسقط في أطعمتهم وأوانيهم وتقفزُ على فرشهم وملابسهم وملأت بيوتهم وأطعمتهم وءانيتهم.
7- الدم: حيث صارت مياه ءال فرعون دمًا، فكانوا لا يستقون من إناء ولا من بئر ولا نهر إلا انقلب إلى دم في الحال بقدرة الله، وكذلك كانوا لا يستقون من نهر النيل شيئًا إلا وجدوه دمًا.
8- العصا: وقد تقدم ذكرها أنها كانت من معجزات نبي الله موسى عليه السلام، حيث انقلبت عندما ألقاها عليه السلام حية حقيقية تسعى بقدرة الله تعالى.
9- اليد:وقد تقدم ذكرها أنها من معجزات موسى عليه السلام إذ كان عليه السلام يضع يده في جيبه ثم يخرجها بيضاء من غير سوء ومرض.
يقول الله تبارك وتعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}سورة الإسراء، ويقول الله تعالى:{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ* فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ}سورة الأعراف، يخبر الله تعالى عن كفر قوم فرعون وأتباعه وعن استمرارهم على الجهل والضلال والاستكبار عن تصديق رسوله موسى عليه السلام.
يقول الله تعالى:{فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ}سورة الزخرف، ومعنى قوله تعالى:{فَلَمَّا آسَفُونَا}أي أغضبونا.
قصة هلاك فرعون وجنوده في البحر ونجاة موسى ومن ءامن معه
كذب فرعون وقومه موسى عليه السلام ولم يؤمن منهم إلا القليل يقول الله تعالى:{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ
ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ}سورة يونس.
وتمادى فرعن مع أتباعه القبط في كفرهم وضلالهم وعنادهم وذلك متابعة لملكهم فرعون الذي أمرهم بعبادته وأراد فرعون قتل موسى فقال للملإ ما أخبر الله به في قوله:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}سورة غافر، ولكن رجلًا من ءال فرعون كان يكتم إيمانه خوفًا على نفسه أجابهم:{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ* يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}سورة غافر، ثم تابع هذا المؤمن نصحه لهم:{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ*يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِين مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ * الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}سورة غافر، ولكن كل هذا النصح والإرشاد لم يؤثر في قلب فرعون بل صار يزداد ضلالًا وفسادًا فأمر هامان أن يبني له صرحًا ضخمًا مبنيًا من الآجر المشوي بالنار، فبنى له ذلك الصرح الذي قيل إنه لم ير بناء أعلى منه، قال الله تعالى:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ *أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}سورة غافر،وقال تعالى مخبرًا عن قول فرعون:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ
لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ}سورة القصص.
لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ}سورة القصص.
فلما يئس موسى عليه السلام من إيمانهم وإيمان فرعون دعا عليهم وأمّن على دعائه أخوه هارون عليهما السلام فقال في دعائه:{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ* قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا}سورة يونس، واستجاب الله تعالى لهما فمسخ أموالهم فصارت حجارة على ما قيل، ولما طال الأمر على نبي الله موسى عليه السلام أوحى الله تبارك وتعالى إليه يأمره أن يخرج ببني إسرائيل من أرض مصر ليلاً ويذهب بهم إلى أرض فلسطين، وأمره أن يحمل معه تابوت يوسف بن يعقوب عليهما السلام ويدفنه بالأرض المقدسة، فتجهز موسى عليه السلام ومن معه من المؤمنين وكانوا يزيدون على ستمائة ألف غير الذرية، فخرج بهم في الليل سائرين في طريق البحر الأحمر على خليج السويس، وأخذوا يجدّون في السير حذرًا من فرعون وظلمه وطغيانه، ولما استيقظ فرعون علم بخروج موسى عليه السلام ومن معه من بني إسرائيل من مصر، فجهز جيشًا كبيرًا عرمرمًا حتى قيل كان فيه مائة ألف فارس وكان عدد جنوده يزيد على مليون وستمائة ألف جندي، وتوجّه فرعون بهذا الجيش الكبير طالبًا بني إسرائيل وموسى عليه السلام يتبع ءاثارهم يريد كيدهم والبطش والفتك بهم فأدركهم في اليوم التالي عند شروق الشمس، ولما تراءى الجمعان وعاين كل من الفريقين صاحبه ورءاه ولم يبق إلا المواجهة والمقاتلة، وهنا شعر بنو إسرائيل بالخطر المدلهم فالبحر أمامهم والعدو خلفهم وفرعون وجنوده يريدون الفتك بهم، فضجّوا بالعويل والصياح وقالوا لموسى عليه السلام وهم خائفون: إنا لمدركون.
ولكن نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام كان يعلم أن الله سبحانه وتعالى الذي أمره بالخروج ببني إسرائيل من مصر سينصره فأخذ يسكّن روعهم، ولما تاقم الأمر وضاق الحال واشتد الأمر واقترب فرعون وجنوده من بني إسرائيل وموسى عليه السلام، عند ذلك أوحى الله عز وجل إلى موسى الكليم عليه السلام أن يضرب بعصاه البحر، فأخرج عليه السلام عصاه وضرب بها البحر فانفلق البحر بقدرة الله اثني عشر فرقًا وكان كل فرق كالجبل العظيم وصار فيه اثنا عشر طريقًا لكل سبطٍ طريق يسيرون فيه، وأمر الله موسى عليه السلام أن يَجوزَه ببني إسرائيل فانحدروا فيه مسرعين مبادرين مستبشرين بنصر الله بعد أن أصبح البحر يابسًا ممهّدًا بعد أن رأوا بأمّ أعينهم هذه الآية والمعجزة العظمى التي تحتار لها عقول الناظرين، فلما جاوزه موسى عليه السلام وجاوزه بنو إسرائيل وخرج ءاخرهم منه وانفصلوا عنه، وكان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه ووصولهم إليه، أراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان عليه حتى لا يسلكه فرعون وجنوده، فأوحى الله تعالى إليه أن يتركه على حاله ساكنًا على هيئته لأنه يريد إغراقهم فيه كما قال الله تعالى: {وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا}سورة الدخان، أي ساكنًا على هيئته التي هو عليها.
وامتثل موسى عليه السلام أمر الله وترك البحر على هيئته وحالته، فلما وصل فرعون إلى البحر وانتهى إليه رأى هذه المعجزة والآية الباهرة وعاينها، وهاله هذا المنظر العظيم حيث كان ماء البحر قائمًا مثل الجبال، وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك من أنّ هذه الآية العظيمة من فعل وخلق الله سبحانه وتعالى، ولكنه لم يذعن لقيمة البرهان العقلي على صدق موسى عليه السلام وأخذته العزة بالإثم وأظهر أمام جنوده التجلد والشجاعة، وأخذ يشجع جنده لاقتحام البحر أمامه من أجل أن يفوز هو بالنجاة ولكن لا رادّ لقضاء الله، فقد جاء ملكٌ من السماء قيل: هو جبريل عليه السلام فقاد فرس فرعون جهة البحر، فلما رءاه الجنود قد سلك البحر اقتحموا وراءه مسرعين فلما أصبحوا جميعهم في البحر، وقد هم أولهم بالخروج منه، عند ذلك أمر الله تعالى نبيه وكليمه موسى عليه السلام أن يضرب بعصاه البحر، فلما ضربه موسى عليه السلام بعصاه ارتطم البحر عليهم كما كان وعادت أمواجه هائجة كما كانت، فهلكوا جميعهم بالغرق ولم ينج منهم أحد، والله عزيز ذو انتقام.
قال الله تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ *فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائنِ حَاشِرِينَ* إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ* وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ* وَإِنَّ الَجَمِيعٌ حَذِرُونَ* فَأَخْرَجْنَهُم مِّن جَنَّتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ*كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ* فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ* فَلَمَّا تَرَءا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَبُ مُوسَى إِنَّ لَمُدْرَكُونَ* قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ* فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ*وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ* وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ* ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ* إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}سورة الشعراء، وقال تعالى:{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى* فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ* وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}سورة طه.
فرعون يعلن أنه من المسلمين
قال الله تعالى:{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْفِرْعَوْنُوَجُنُودُهُبَغْيًاوَعَدْوًاحَتَّىإِذَاأَدْرَكَهُ الْغَرَقُقَالَآمَنتُأَنَّهُلاإِلِـهَإِلاَّالَّذِيآمَنَتْبِهِبَنُوإِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ* آلآنَ وَقَدْعَصَيْتَقَبْلُوَكُنتَ مِنَالْمُفْسِدِينَ}سورة يونس.
يُخبر اله تعالى عن كيفية غرق فرعون فإنه لما ضرب موسى عليه السلام بعصاه البحر ارتطم البحر بأمواجه الهائلة على فرعون وجنوده، وجعلت الأمواج الهائجة تخفض فرعون تارة وترفعه أخرى، وبنو إسرائيل ينظرون إليه وإلى جنوده بين الأمواج العاتية وهم يغرقون، وكان هذا البأس الشديد والخطب الجسيم الذي نزل بفرعون وأتباعه أقر لأعين بني إسرائيل، وأشفى لنفوسهم لِمَا عانوا من ظلم وبطش فرعون وجنوده الذين اتبعوه على كفره وضلاله.
وأما فرعون الطاغية فإنه لما كان بين الأمواج الهائمة المدمّرة وأصبح على وشك الغرق وقد عاين ما أحيط به من أسباب الهلاك أعلن وقال: “ءامنت أنه لا إله إلا الذي ءامنت به بنو إسرائل وأنا من المسلمين”، ولم ينفعه إيمانه وإسلامه في تلك اللحظات التي أدرك وعاين فيها الغرق، وهذه هي حالة اليأس من الحياة التي لا يقبل الله تعالى التوبة فيها. يقول الله تبارك وتعالى إخبارًا عن فرعون مصر الطاغية حين أدركه الغرق:{حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ىوَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ*آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَى مِنَ الْمُفْسِدِينَ}سورة يونس.
فائدة: اعلم يا أخي المسلم أنه يشترط لقبول التوبة من ذنب الكفر وما دونه من الذنوب أن تكون قبل الغرغرة – أي قبل وصول الروح إلى الحلقوم- وقبل عذاب الاستئصال وهي حالة اليأس من الحياة، يقول الله تبارك وتعالى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَاحَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَوَهُم ْكُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}سورة النساء، ويقول الله تعالى:{فلمَّا رأوا بأسَنا قالوا ءامنَّا باللهِ وحدهُ وكَفرْنا بما كُنَّا مُشركين* فلمْ يَكُ ينفعهم إيمانهم لمَّا رأوا بأسنا سُنَّتَ اللهِ التي قد خَلَتْ في عبادِهِ وخَسِرَ هُنالكَ الكافرون}سورة غافر، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر” رواه الترمذي وأحمد. ولذلك لا تقبل التوبة لمن أدركه الغرق كفرعون حاكم مصر وكذلك لمن كان في مثل حالته وهي حالة اليأس من الحياة.
فلم يقبل الله سبحانه وتعالى توبة فرعون اللعين حين أدركه الغرق وعلم أنه هالك غرقًا لا محالة، قال تعالى:{ءالآنَ وقدْ عَصَيْتَ قبلُ وكنتَ مِنَ المُفسدين}سورة يونس، فهذه الآية استفهام إنكاري، ونص على عدم قبوله تعالى منه الإيمان والإسلام في مثل هذه الحالة التي وصل إليها، وقد انعقد الإجماع من المسلمين على موت فرعون كافرًا.
ويشترط لصحة التوبة أيضًا أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها لما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إنّ في المغرب بابًا خلقه الله للتوبة مسيرة عرضه سبعون عامًا لا يُغلق حتى تطلع الشمس منه” رواه الترمذي وابن حبان.
فائدة: روى أحمد في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”لما قال فرعون{آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ}قال لي جبريل: لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر فدسسته فيه مخافة أن تناله الرحمة”، رواه الترمذي وابن جرير أيضًا وقال الترمذي: حديث حسن، ورواه الطيالسي وغيره بنحوه. ومعنى “من حال البحر” أي من طيب البحر، وفرعون لا يقولها عن اعتقاد إنما يقولها ليخلص من الغرق.
فائدة: في قصة تابوت يوسف عليه الصلاة والسلام
كان نبي الله موسى عليه السلام قد أمره الله تعالى أن يحمل معه تابوت يوسف بن يعقوب عليهما السلام كما ذكرنا ليدفنه بالأرض المقدسة، فسأل موسى عليه السلام عنه فلم يعرفه إلا إمرأةٌ عجوز فقالت لموسى عليه السلام: أرأيت إن دللتك على قبره أتعطيني كل ما سألتك؟ فأبى عليها وقال: حتى أسأل ربي؟ فأمره الله تعالى عن طريق الوحي أن يعطيها فأتاها فأعطاها، فسألته الجنة قال: نعم، فدنت من النيل وقالت لموسى عليه السلام: إنه في جوف الماء فادع الله تعالى أن يحسر عنه الماء، فدعا الله تعالى فحسر الماء عن القبر وظهر لهم الطريق فمضوا فيه، فقالت له: احفره ففعل موسى عليه السلام واستخرجه صندوقًا من مَرمر فاحتمله عليه السلام معه في خروجه من مصر، رواه ابن حبان. وهذا الحديث قاعدة نافعة لأهل السنة أنه لا يحرم طلب ما لم تجر به العادة من الأنبياء والصالحين كما زعمت الوهابية.
البحر يلفظ جثة فرعون ليكون ذلك ءاية وعبرة لمن اعتبر
لما أنجى الله تبارك وتعالى موسى عليه السلام ومن ءامن معه من بني اسرائيل من كيد فرعون وجنوده، وأغرق فرعون وجنوده في البحر ليكون ذلك ءاية عظيمة على عظيم قدرته تعالى وعلى صدق نبيه موسى علي السلام وعبرةً لمن اعتبر، شك بعض بني إسرائيل في موت فرعون وقالوا: إنا نخاف أن يكون فرعون ما غرق، فدعا موسى الكليم ربه، فأمر الله تبارك وتعالى البحر بإخراجه فرمى به البحر بقدرة الله تعالى على ساحل البحر على مكان مرتفع حتى رءاه بنو إسرائيل وأيقنوا وتحققوا من غرقه وموته وعرفوه بدرع له من لؤلؤ كان فرعون يلبسها ولم يكن لأحد مثلها، وبذلك تحققوا هلاكه غرقًا مع الهالكين، ولهذا قال الله تبارك وتعالى:{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ}أي ننجيك بجدسك مصاحبًا درعك بأن أخرجه البحر وعليه درعه المعروفة به، وقوله تعالى:{لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}سورة يونس، أي لتكون أنت أي يا فرعون ءاية لمن خلفك من بني إسرائيل ودليلًا على عظيم قدرة الله تعالى الذي أهلكك مع الهالكين نتيجة كفرك وتكذيبك موسى عليه السلام.
فائدة: كان هلا فرعون وجنوده في البحر في يوم عاشوراء، فقد روى البخاري عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أنتم أحق بموسى منهم فصوموا”.
ذكر ما حدث من بني إسرائيل بعد هلاك فرعون وجنوده
أنجى الله تعالى موسى عليه السلام ومن معه من بني إسرائيل الذين ءامنوا بما جاء به واتبعوه من كيد فرعون وجنوده وأورث الله تعالى جميع أموال فرعون وحاشيته وأملاكهم بني إسرائيل الذين كانوا يُستضعفون ويظلمون من قبل فرعون وجنوده وأمرائه وجعل العاقبة الحسنى لموسى عليه السلام وللمؤمنين الذين اتبعوه وصدقوه، يقول الله تبارك وتعالى:{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ *وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ}سورة الأعراف.
فائدة: أورث الله سبحانه وتعالى المؤمنين من بني إسرائيل الذين ءامنوا بنبيهم موسى عليه السلام واتبعوه فيما جاء به مشارق أرض الشام ومغاربها بما في ذلك أرض فلسطين المباركة وما حولها ومنحهم ملكها وحكمها.
طلبُ بعض جهلة بني إسرائيل من موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلهًا
بعد أن جاوز نبي الله موسى عليه السلام البحر بمن معه من بني إسرائيل، أتوا على قوم كافرين يعكفون على أصنام لهم قيل: كانت على صور البقر يعبدونها من دون الله عز وجل، فأراد بعض الجهلة الذين ركبهم الجهل والضلال وأظلّهم الشيطان أن يتشبهوا بهؤلاء المشركين الذين مروا بهم مع أصنامهم فقالوا لنبيهم موسى عليه السلام: يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم ءالهة، فغضب موسى عليه السلام غضبًا شديدًا من كلام هؤلاء الذي يدل على عظيم جهلهم، مع ما قد كانوا عاينوا قبل ذلك من ءايات الله تعالى على ما يدل على عظيم قدرته وعلى صدق ما جاءهم به نبيهم موسى عليه السلام، وردّ عليهم نبيهم مستنكرًا لمقولتهم هذه وبيّن لهم أن هؤلاء المشركين الذين يعبدون هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع في هلاك ودمار لا يعقلون ولا يهتدون وعملهم هذا باطل لا يوافق العقل السليم، يقول الله تبارك وتعالى إخبارًا عن هؤلاء الجاهلين وما ردّ عليهم موسى عليه السلام:{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْعَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لهُمْ قَالُواْ يَامُوسَىى اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ َتجْهَلُونَ* إِنَّهَـؤُلاء مُتَبَّرٌمَّاهُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّاكَانُواْ يَعْمَلُونَ}سورة الأعراف.
يتبع إن شاء الله …….
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق