فصل في أن علماء المذاهب الأربعة على التحذير من كلمات الكفر
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن الناسَ إذا رأَوُا المنكر فلَم يغيّروه أوشك أن يعمَّهُمُ الله بعقاب".
نحن نكتب هذه الرسالة عملاً بهذا الحديث لبيان الحقيقة لا لغرض دنيوي رجاء أن ينتفع بها المسترشدون ويكف عن افتراءاتهم المفترون مما نسب إلينا من أننا نكفر الناس. وإننا نقتدي بمن سبقنا من علماء المذاهب الأربعة فإنهم لما علموا بكفريات شاعت على ألسنة الناس ألفوا تآليف فيها بيان الكلمات الكفرية منهم أبو علي عمر بن محمد الإشبيليُّ المالكي الأشعري السَّكوني ألف كتابًا سماه "لحن الخاصة والعامّة" وقد نقل عنه الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه "لطائف المنن والأخلاق" ووصفه بأنه إمام علامة، وكانت وفاة السَّكوني سنة سبعمائة وسبعة عشر من الهجرة والشعراني من أهل القرن العاشر.
وقال الحافظ الفقيه الحنفي اللغوي خاتمةُ اللغويين والحفاظ محمد مرتضى الزبيدي شارح "إحياء علوم الدين" ما نصه:"وقد ألف غير واحد من الأئمة من المذاهب الأربعة رسائل في بيان الكلماتِ الكفرية".اهـ.
وها نحن أسوق عبارة الشعراني فقد قال في كتابه المذكور :"قال الإمام العلامة عمر بن محمد الإشبيلي الأشعري في كتابه المسمى بـ "لحن العوام": وليحذر من العمل بمواضع من كتاب "الإحياء" للغزالي ومن كتاب "النفخ والتسوية" له وغير ذلك من كتب الفقه فإنها إما مدسوسة عليه أو وضعها أوائلَ أمره ثم رجع عنها كما ذكره في كتابه "المنقذ من الضلال". وكذلك يحذر من مواضع من كتاب "قوت القلوب" لأبي طالب المكي نحو قوله: الله تعالى قوت العالم، ومن مواضع في تفسير مكي، ومن مواضع كثيرة في كلام ابن مَيْسرة الحنبلي وقد صنف الناس في الرد عليه.
وليحذر من مطالعة كلام منذر بن سعيد البلوطيّ فإنه مخلوط بكلام أهل الاعتزال لمّا عاشرهم حين رحل إلى بلاد المشرق، ومن مطالعة كتب ابن بَرجان، وكذلك مواضع في تفسير الزمخشري وبعضها كفر صُراح.
وكذلك يحذر من مطالعة كتاب "إخوان الصفا" وهو مشتمل على اثنتين وخمسين رسالة وهو تأليف المجريطي وقد ذكروا أنه كان من الملحدين المجانبين لطريق الإسلام، وكذلك يحذر من مطالعة كلام إبراهيم النظّام وابن الراوندي ومَعْمر بن المثنى، ومن مطالعة قصيدة عبد الكريم الجيليّ التي رَويُّها العين المضمومة ومن جملتها
قطعتَ الورى من نفس ذاتك قطعة * وما أنتَ مقطوع وما أنت قاطع
فإنه لفظٌ لا يجوز إطلاقه على الله تعالى مطلقًا.
ومن مطالعة كتاب "خلع النعلين" لابن قَسِيّ لعُلو مراقيه عن الفهم، وكذلك تائية سيدي محمد وفاء.
وليحذر كل الحذر من مطالعة كتب محمد بن حزم الظاهريّ إلا بعد التضلع من علوم الشريعة لاسيما ما فيها مما يتعلق بأصول الدين وقواعد العقائد والمعاني والحقائق لأنه لم تكن له يد في هذه العلوم وإنما أخذها بالفهم فلم يحسن كلامه فيها.
وكذلك ينبغي أن يحذر من مطالعة كلام الحفيد ابن رشد لأن غالب كلامه في المعتقد فاسد.
وليحذر أيضًا من مطالعة كتب الشيخ محي الدين بن عربي رضي الله تعالى عنه لعلو مراقيها ولما فيها من الكلام المدسوس على الشيخ لاسيما "الفصوص" و"الفتوحات المكية" فقد أخبرني الشيخ أبو طاهر عن شيخه عن الشيخ بدر الدين بن جماعة أنه كان يقول:جميع ما في كتب الشيخ محي الدين من الأمور المخالفة لكلام العلماء فهو مدسوس عليه، وكذلك كان يقول الشيخ مجد الدين صاحب "القاموس" في اللغة. قلت: وقد اختصرت "الفتوحات المكية" وحذفت منها كل ما يخالف ظاهر الشريعة فلما أُخبرت بأنهم دسّوا في كتب الشيخ ما يوهم الحلول والاتحاد ورَد على الشيخ شمس الدين المدني بنسخة "الفتوحات" التي قابلها على خط الشيخ بقُوْنيا فلم أجد فيها شيئًا من ذلك الذي حذفته ففرحت بذلك غاية الفرح فالحمد لله على ذلك.
وليحذر أيضًا من مطالعة كتب عبد الحق بن سبعين لما فيها مما يوهم الحلول والاتحاد والتشبيه وأقوال الملحدين، ومَنَع بعضهم من سماع كلام سيدي عمر بن الفارض في التائية والجمهور على جواز ذلك مع التأويل، فهذه عِدة نصائح وتحذيرات قد سبقْت إليها فزنها بميزان الشرع فإن لم تجد عنها بدًّا فاعمل يا أخي بها.
وعليك بمطالعة كتب الشريعة من حديث وتفسير وفقه والاقتداء بأئمة الدين من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ومقلديهم من الفقهاء والمتكلمين رضي الله عنهم أجمعين. وإياك والاجتماع بهؤلاء الجماعة الذين تظاهروا بطريق القوم في النصف الثاني من القرن العاشر من غير إحكام قواعد الشريعة فإنهم ضلوا وأضلوا بمطالعتهم كتب توحيد القوم من غير معرفة مرادهم، وقد دخل عليّ منهم شخص وأنا مريض ولم يكن عندي أحد من الناس فقلت له: من تكون؟ قال: أنا الله فقلت له: كذبتَ فقال: أنا محمد رسول الله فقلت له: كذبتَ فقال: أنا الشيطان وأنا اليهودي فقلت له: صدقتَ فوالله لو كان عندي أحد يشهد عليه لرفعته إلى العلماء فضربوا عنقه بالشرع الشريف فالحمد لله الذي عافانا وإخواننا من مثل ذلك فالله تعالى يوفق الإخوان ويتولاهم" انتهى.
قال الحافظ أبو زرعة العراقي وليُّ الدين في كتاب "الأجوبة المرضيّة على الأسئلة المكيّة" إن في كتاب "الفتوحات المكية" كفرًا لا يمكن تأويله" اهـ.
ثم قال الشعراني ما نصه:وقد نقل الشيخ محي الدين بن عربي في "الفتوحات المكية
إجماع المحققين على أن مِنْ شرط الكامل أن لا يكون عنده شطح عن ظاهر الشريعة أبدًا بل يرى أن من الواجب عليه أن يُحقّ الحق ويبطل الباطل ويعمل على الخروج من خلاف العلماء ما أمكن. انتهى، هذا لفظه بحروفه.
ومن تأمله وفهمه عرف أن جميع المواضع التي فيها شطح في كتبه مدسوسةٌ عليه لاسيما كتاب "الفتوحات المكية" فإنه وضعه حال كماله بيقين وقد فرغ منه قبيل موته بنحو ثلاث سنين وبقرينة ما قاله في "الفتوحات المكية" في مواضع كثيرة من أن الشطح كلَّه رعونةُ نفس لا يصدرُ قطُ من محقّق، وبقرينة قوله أيضًا في مواضع: من أراد أن لا يضل فلا يَرْم ميزان الشريعة من يده طرفة عين بل يستصحبها ليل نهار عند كل قول وفعل واعتقاد. انتهى.
وبالجملة فلا يحل مطالعة كتب التوحيد الخاص إلا لعالم كامل أو من سَلكَ طريق القوم، وأما من لم يكن واحدًا من هذين الرجلين فلا ينبغي له مطالعة شىء من ذلك خوفًا عليه من إدخال الشُّبه التي لا يكاد الفطن أن يخرجَ منها فضلاً عن غير الفطن ولكن من شأن النفس كثرة الفضول ومحبة الخوض فيما لا يعنيها،وقد وضع بعض العلماء من السلف كتابًا جمع فيه كثيرًا من الكلمات التي ينطق بها العوام مما يؤدي إلى الكفر وحذّر فيه من النظر في جملة من الكتب نصيحةً للمسلمين وقد حُبّب لي أن أذكر طرفًا من ذلك هنا لتجتنب النطق به أو النظر فيه فأقول وبالله التوفيق: مما يقع فيه كثير من الناس قولهم يا من يرانا ولا نراه، وقولهم يا ساكن هذه القبة الخضراء، وقولهم سبحان من كان العُلى مكانَه ونحو ذلك ومثل ذلك لا يجوز التلفظ به لما يورث من الإيهام عند العوام وأن الله في مكان خاص، وإن قال هذا القائلُ: أردتُ بقولي "ولا نراه" عدمَ رؤيتنا له في الدنيا قلنا له: قد أطلقتَ القول والإطلاق في محل التفصيل خطأ وقد أجمع أهلُ السنة على منْع كل إطلاق لم ترد به الشريعة سواء كان في حق الله تعالى أو في حق أنبيائه أو في حق دينه، وكان الشيخ أبو الحسن الأشعري يقول:"ما أطلق الشرع في حقه تعالى أو في حق أنبيائه أو في حق دينه أطلقناه وما منع منعناه، وما لم يرد فيه إذنٌ ولا منعٌ ألحقناه بالممنوع حتى يرِدَ الإذن في إطلاقه" انتهى.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: "ما لم يرد لنا فيه إذن ولا منع نظرنا فيه فإن أوهم ما يمتنع في حقه تعالى منعناه وإن لم يوهم شيئًا من ذلك ردَدْناه إلى البراءة الأصلية ولم يُحكم فيه بمنع أو إباحة" انتهى. فقد اتفق الإمامان على منع كل إطلاق يوهم محظورًا في حق الله تعالى وتبعهما العلماء على ذلك قاطبةً وقد نقلوا فيه الإجماع.
فعُلم من هذه القاعدة أن كل من كان لا يفرق بين ما يوهم إطلاقه محظورًا وبين غيره فلا يجوز له أن يطلق في حق الله تعالى إلا ما ورد به التوقيف والإذن الشرعي حذرًا [من] أن يقع فيما لا يجوز إطلاقه على الله تعالى فيأثمَ أو يكفر والعياذ بالله تعالى.
ومما يقعون فيه أيضًاقولهم يا دليل الحائرين يا دليل من ليس له دليل يا دليلَ الدليل ونحو ذلك وكله لم يرد به شرع فلا ينبغي أن يقال. وكذلك من الخطإ قولهم يا مَن لا يوصف ولا يعرف، فإنه تعالى موصوف معروف من غير تكييف.
ومما يقعون فيه أيضًاقولهم يا من هو في عرشه يرانا لإيهامه الاستقرار وإنما يقال يا مَن استوى على عرشه كما ينبغي لجلاله، وقد أجمع أهلُ الحق على وجوب تأويل أحاديث الصفات كحديث:ينزل ربنا إلى السماء الدنياوخالف في ذلك الكرامية المجسمةُ والحشوية المشبهة فمنعوا تأويلَها وحملوها على الوجه المستحيل في حقه تعالى من التشبيه والتكييف حتى إن بعضهم كان على المنبر فنزل درجًا منه وقال للناس ينزل ربكم عن كرسيه إلى السماء الدنيا كنزولي عن منبري هذا, وهذا جهل ليس فوقه جهل وكل هؤلاء محجوجون بالكتاب والسنة ودلائل العقول". انتهى كلام الشعراني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق