الحمد لله وصلى الله على النبي وءاله وبعد،
يقال: الله تعالى نفى عن نفسه المماثلة لشىء بقوله: {ليس كمثله شىء}، أطلق نفي مماثلة شىء من الخلق له ولم يخص شيئًا دون شىء، فبناءً على ذلك نقول لو كان الله تعالى متصلاً بشىء من صفات الخلق لكان له أمثال لا تحصى ولو كان منفصلاً من شىء لكان له أمثال لا تحصى ولو كان متحركًا لكان له أمثال ولو كان ساكنًا لكان له أمثال ولو كان ساكنًا وقتًا ومتحركًا وقتًا لكان له أمثال لا تحصى ولو كان له حد أي كمية لكان له أمثال لا تحصى فأفهمنا الله تعالى بهذه الآية انه منزه عن هذه الأوصاف
فإن قيل لو كان الله تعالى منتفيًا عنه هذه الأوصاف لم يكن موجودًا، فالجواب: ليس من شرط الوجود أن يمكننا تصوره ففي المخلوق ما لا يمكن تصوره وهو الوقت ( أي الوقت المخلوق ) الذي لم يكن فيه نور ولا ظلام والإيمان بذلك واجب لقول الله تعالى: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور} أي أوجد الظلمات والنور بعد أن كانا معدومين وذلك أن أول المخلوقات الماء والعرش ثم القلم واللوح بدليل حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: "كان الله ولم يكن شىء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شىء" والذكر هو اللوح المحفوظ.
وقوله عليه الصلاة والسلام: "أول ما خلق الله تعالى القلم فقال له اكتب فقال ما اكتب فجرى القلم بما كان وما يكون".
وهــذه أوّلــيـَّــة نـسـبـيـة فــإن الماء والعرش خـُــلِــقـا قبل القلم واللوح المحفوظ
فنعلم من الحديثين أن النور والظلام لم يكونا قبل الأربعة إنما وجدا بعدهم ولا يمكن أحدًا أن يتصور هيأة وقت أي مخلـوق ليس فيه نور ولا ظلام وإنما يتصور العقل وقتًا يوجد فيه أحدُهما دون الآخر، نقول كذلك يصح وجود الله تعالى مع انتفاء هذه الأوصاف كلها عنه، فمن هنا قال أئمة أهل السنة كالإمام أحمد بن حنبل والإمام ذي النون المصري وغيرهما: "مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك" روى ذلك الحافظ الخطيب البغدادي عن الإمام ذي النون المصري في كتابه اعتقاد الإمام المبَجّل أحمد بن حنبل.
وفي معناه قول ابن عباس رضي الله عنه: "تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله". رواه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات بإسناد جيد، لأنه لا يمكن تصوير الله في النفس، ونص على ذلك جماعة من علماء المذاهب الأربعة منهم الإمام الجليل أبو سعيد المتولي أحد أصحاب الوجوه في مذهب الشافعي وهم الطبقة التي تلي الإمام الشافعي، ثم النووي وابن حجر الهيتمي على ذلك، ومن المالكية سيدي أبو عبد الله محمد بن أحمد ميّارة، ومنهم من الحنفية أبو المعين النسفي والعالم الشهير محمود بن محمد القونوي شارح العقيدة الطحاوية بل ذلك يفهم من قول الطحاوي: "تعالى (يعني الله) عن الحدود والغايات" لأن الشىء الذي لا كمية له لا يصح في حقه الإتصال والإنفصال، ومن الحنابلة أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي بل قول الطحاوي المذكور وهو نقلٌ عن السلف كلهم فيه تنزيه الله عن الإتصال والإنفصال لنقله عنهم نفي الحد عن الله
والحد هو الكمية أي الجِرْمُ وهو الذي يُسَمَّى جوهرًا في اصطلاح علماء التوحيد وهو أصغر كمية أصغر جرم لا يقبل الإنقسام وما زاد عليه فهو الجسم، وهو في نهاية القِلّة بحيث لا يقبل الإنقسام سُمّي جوهرًا لأنه أصل الجسم والجوهر في اللغة الأصل ويقال في اصطلاحهم لما زاد على ذلك جسم ومن ليس له كمية لا يوصف بالإتصال والإنفصال.
فإذا تقرر هذا فلا يُهَوِّلنَّكُم قولُ المشبهة: إن القولَ بأن الله موجود من غير ان يكون متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه ولا داخله ولا خارجه نفي لوجود الله.
بل قولوا لهم هذه شبهة بنيتموها على أصل غير صحيح وهو أنكم جعلتم شرط الوجود أن يكون الشىء له اتصال أو انفصال وأن يكون داخل العالم أو خارجه، وهم أي المشبهة، يعترفون أن الله كان موجودا قبل العالم لا داخله ولا خارجه فنحن نقول: كذلك بعد أن خلق العالم هو موجود كما كان لا داخل العالم ولا خارجه فبهذا تكون قد بطَلَت شبهتهم وتموِيْهُهُم.
* نُقُولُ الأئمة العلماء من أهل السنة قــد نــزّهــوا اللهَ عن التحيز في مكان واحد أو في كل مكان وعن الإتصال بالعالم أو الإنفصال وعن الكون ضمن العالم أو خارج العالم.
• نص كلام الإمام عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي في نفي التحيز في المكان والإتصال والإنفصال والإجتماع والإفتراق عن الله تعالى قال في كتابه دفع شبه التشبيه ص40 يحكي قولَ المجَسِم الحنبلي وهو الحسن بن حامد بن علي البغـدادي وهو شيخ المجسّـمة من الحنابلة في وقته قال (يعني ابن حامد المُـجَـسِّـم) وقد ثبت أن الأماكن ليست في ذاته ولا ذاته فيها فثبت إنفصاله عنها ولا بد من بدء يحصل به الفصل فلما قال استوى علمنا اختصاصه بتلك الجهة، قال ولا بد أن يكون لذاته نهايةٌ وغاية يعلمها.
•
• قلتُ هذا رجلٌ لا يدري ما يقول لأنه إذا قَـَــدّر غايةً وفصل بين الخالق والمخلوق فقد حَـدَّدَهُ وأقـَــرَّ بأنه جسم وهو يقول في كتابه إنه ليس بجوهر لأن الجوهر ما يتحيز ثم يثبت له مكانًا يتحَـيـَّـر فيه.
قلت وهذا كلام جهل من قائله وتشبيه محض فما عرف هذا الشيخ ما يجب للخالق تعالى وما يستحيل عليه فإن وجوده تعالى ليس كوجود الجواهر والأجسام التي لا بُـدَّ لها من حَــيِّـز والتحت والفوق إنما يكون فيما يقابل ويُـحاذى من ضرورة المُـحاذى أو أصغر أو مثله وأن هذا ومثله إنما يكون في الأجسام وكل ما يُـحاذى الأجسام يجوز أن يَـمَـسَّـها وما جاز عليه مُـماسة الأجسام ومباينتها فهو حادِث( اي مخلوق له إبتـداء) إذ قد ثبت أن الدليل على حُـدوث الجواهر قـبولها المُـماسةَ والمُـباينة فإن أجازوا هذا عليه قالوا بجواز حُـدُوثه وإن منعوا هذا عليه لم يبق لنا طريق لإثبات حَـدَث الجواهر ومتى قـَـدّرنا مستغنيًا عن المحل ومحتاجًا إلى الحيز ثم قلنا إما أن يكونا متجاورين أو متبانيين كان ذلك محالاً فإن التجاور والتباينَ من لوازم التحيز في المتحيزات.
وقد ثبت أن الإجتماع والإفتراق من لوازم التحيز والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالتحيز لأنه لو كان متحيزًا لم يخل إما أن يكون ساكنًا في حيزهِ أو متحركًا عنه ولا يجوز أن يوصف بحركة ولا سكون ولا اجتماع ولا افتراق ومن جاورَ أو باين فقد تناهى ذاتًا والتناهي إذا اختص بمقدار استدعى مخصصًا وكذا ينبغي أن يقال ليس بداخل في العالم وليس بخارج منه لأن الدخول والخروج من لوازم المتحيزات فهما كالحركة والسكون وسائر الأعراض التي تُحَسّ بالأجرام.
وأما قولهم خلق الأماكن لا في ذاته فثبت انفصاله عنها قلنا: ذاته المقدس لا يقبل أن يخلق فيه شىء ولا أن يحل فيه شىء وقد حملهم الحِسُّ على التشبيه والتخليط حتى قال بعضهم إن ما ذكَر الإستواء على العرش لأنه أقرب الموجودات إليه.
وهذا جهل أيضًا لأن قرب المسافة لا يتصور إلا في جسم ويَعِزُّ علينا كيف يُنْسَبُ هذا القائل إلى مذهبنا ( اي كيف يكون حنبليـّـا مُـتـّــبـِــعًـا للامام أحمـد بن حنبل رضي الله عنه ) ، واحتج بعضهم بأنه على العرش بقوله تعالى: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه" وبقوله: {وهو القاهر فوق عباده} وجعلوا ذلك فوقية حِـسِّـيـَّـة ونسوا أن الفوقية الحسية إنما تكون لجسم أو جوهر وان الفوقية قد تطلق لعلو المرتبة فيقال: فلان فوق فلان ثم أنه كما قال تعالى: {فوق عباده} قال تعالى: {وهو معكم}. فمن حملها على العلم حمل خصمُه الإستواء على القهر وذهبت طائفة إلى أن الله تعالى على عرشه وقد ملأهُ والأشْبَهَ أنه مماس للعرش والكرسي موضِعُ قدميه.
قلت المماسة إنما تقع بين جسمين وما أبقى هذا في التجسيم بقية . اهـ كلام ابن الجوزي ولقد أجاد وشفى وكفى .
* قال الإمام أبو منصور المحدّث الفقيه الشافعي البغدادي الذي وصفه ابن حجر بأنه الإمام الكبير أصحابنا أي الشافعية وهو من جملة مشايخ البيهقي وأجمعَ أصحابنا على إحالة القول أنه في مكان أو في كل مكان ونقل عن الإمام أبي الحسن الأشعري لا يجوز أن يقال إنه في مكان ولا إنه مباين للعالم ولا إنه في جوف العالم لأن قولنا إنه في العالم يقتضي أن يكون محدودًا متناهيًا وقولنا إنه مباينٌ له وخارج عنه يقتضي أن يكون بينه وبين العالم مسافة والمسافة مكان انتهى كلامه في تفسيره الأسماء والصفات
وقال العلامة محمد بن أحمد المشهور بميّارة المالكي في كتابه الدر الثمين في ص29 ما نصه:
• مسألة: سئل الإمام العالم أبو عبد الله سيدي محمد بن جلال هل يقال المولى تبارك وتعالى لا داخلَ العالم ولا خارجَ العالم فأجاب السائلَ: هكذا نسمعه من بعض شيوخنا واعترضه بعضهم بأن هذا رفع للنقيضين وقال بعض فقهائنا في هذه المسألة هو الكل أي الذي قام به كل شىء وزعم أنه للإمام الغزالي وأجاب بعضهم ان هذا السؤال معضِل ولا يجوز السؤال عنه وزعم أن ابن مِقْلاش هكذا أجاب عنه في شرحه على الرسالة فأجاب بأنّ نقول ذلك ونجزُم به ونعتقد انه لا داخل العالم ولا خارج العالم والعجز عن الإدراك إدْراك لقيام الدلائل الواضحة على ذلك عقلاً ونقلاً أما النقل فالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى: {ليس كمثله شىء وهو السميع البصير} فلو كان في العالم أو خارجًا عنه لكان مُماثلاً وبيان الملازمة واضح أما في الأول فلأنه إن كان فيه صار من جنسه فيجب له ما وجب له.
•
• وأما الثاني فلأنه إن كان خارجًا لزم إما اتصاله وإما انفصاله وانفصاله إما بمسافة متناهية أو غير متناهية وذلك كله يؤدي لافتقاره إلى مخصص.
•
• وأما السنة فقوله : "كان الله ولا شىء معه وهو الآن على ما كان عليه".
•
وأما الإجماع فأجمع أهل الحق قاطبة على أن الله تعالى لا جهة له فلا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف.
وأما العقل فقد اتضح لك اتضاحًا كليًا مما مر في بيان الملازمة في قوله تعالى: {ليس كمثله شىء} والإعتراض بأنه رفع للنقيضين ساقط لأن التناقض إنما يعتبر حيث يتصف المحل بأحد النقيضين ويتواردان عليه وأما حيث لا يصح تواردهما على المحل. ولا يمكن الإتصاف بأحدهما فلا تناقض كما يقال مثلاً الحائط لا أعمى ولا بصير فلا تناقض لصدق النقيضين فيه لعدم قبوله لهما على البدلية وكما يقال في الباريء أيضًا لا فوق ولا تحت وقس على ذلك. وقول من قال إنه الكل زاعمًا أنه للغزالي فقضية تنحو منحى الفلسفة أخذ بها بعض المتصوفة وذلك بعيد من اللفظ وما أجاب به بعضهم انه معضل لا يجوز السؤال عنه ليس كما زعم لوضوح الدليل على ذلك وإن صح ذلك عن ابن مقلاش فلا يُـلتفت إليه في هذا الفن لعدم اتقانه طريق المتكلمين إذ كثير من الفقهاء ليس لهم خبرة به فضلاً عن إتــقانه.
* كلام الشافعية في تنزيه الله عن الإتصال والإنفصال:
- قال النووي( ) في باب الردة في كتابه: وتحصل الردة بالقول الذي هو كفر، سواء صدر عن اعتقاد أو عنادٍ أو استهزاء، هذا قول جملي، وأما التفصيل فقال المتولي: من اعتقد قدم العالم، أو حدوث الصانع أو نفى ما هو ثابت للقديم بالإجماع ككونه عالمًا قادرًا أو أثبت ما هو منفى عنه بالإجماع كالألوان أو أثبت له الإتصال والإنفصال كان كافرًا. ا.هـ.
في شرح كلام للغزالي وممن قال بنفي الإتصال والإنفصال بالعالم عن الله الغزالي.
قال ابن حجر- كتاب روضة الطالبين الجزء التاسع ص64 كتاب الردة- ومعنى نفي الإتصال والإنفصال يرجع إلى قول من قال الباريء تعالى لا داخلَ العالم ولا خارجهُ ومن ثمَّ قال الغزالي معناه أن مصححَ الإتصال والإنفصال الجسميةُ والتحيز وهو محالٌ على الباريء فانفكَ عن الضدين كما أن الجمادَ لا هو عالم ولا هو جاهل لأن مُصَحِحَ العلم هو الحياة فإذا انتفتِ الحياة انتفى الضدان. ا.هـ.
* وأما النقلُ عن الحنفية فقد قال أبو المعين ميمون بنُ محمد النسَفي المتوفى سنة 508هـ. قال في تبصرةِ الأدلة - كتاب تبصرة الأدلة ص176 - 177 الجزء الأول وفي المخطوط ص205. في رد قولِ المشبهة إنه تعالى لما كان موجودًا إنا ان يكون داخل العالم وإما أن يكون خارج العالم وليسَ بداخل العالم فكان خارجًا منه وهذا يوجبُ كونَه بجهة منه، قال: والجوابُ أنّ الموصوف بالدخول والخروج هو الجسمُ المتَبعِضُ المتجزىء وأما ما لا تبعض له ولا تجزؤ فلا يُوصف بكونهِ داخلاً ولا خارجًا ثم قال
في إبطال قول المشبهة لما كان الله تعالى موجودًا ان يكون مُماسًا للعالم أو مباينًا عنه وأيَّهما. كان ففيه إثباتُ الجهة إذ ما ذُكرَ مِن وَصف الجسم وقد قامت الدِلالةُ على بطلانِ كونهِ جسمًا ألا ترى أن العَرَض لا يوصف بكونِه مُماسًا للجوهر ولا مباينًا له قال وهذا كله لبيان أن ما يزعمون ليس من لواحِق الوجودِ بل هو من لواحِقِ التبعُضِ والتجزىء والتناهي وهي كلُها محالٌ على القديم تعالى ا.هـ. كتاب تبصرة الأدلة ص176 - ص177 الجزء الأول
يعني أنه ليس من شرط الوجودِ كونُ الموجودِ مماسًا لغيره أو مماسًا له أو مُباينًا أو متصلاً بغيره أو منفصلاً عنه أو داخلاً فيه أو خارجًا عنه إنما هذا من شرط التبعض والتجزىء والتناهي وذلك كله محالٌ على القديم إنتهى الزيادة في الرسالة.
يقال: الله تعالى نفى عن نفسه المماثلة لشىء بقوله: {ليس كمثله شىء}، أطلق نفي مماثلة شىء من الخلق له ولم يخص شيئًا دون شىء، فبناءً على ذلك نقول لو كان الله تعالى متصلاً بشىء من صفات الخلق لكان له أمثال لا تحصى ولو كان منفصلاً من شىء لكان له أمثال لا تحصى ولو كان متحركًا لكان له أمثال ولو كان ساكنًا لكان له أمثال ولو كان ساكنًا وقتًا ومتحركًا وقتًا لكان له أمثال لا تحصى ولو كان له حد أي كمية لكان له أمثال لا تحصى فأفهمنا الله تعالى بهذه الآية انه منزه عن هذه الأوصاف
فإن قيل لو كان الله تعالى منتفيًا عنه هذه الأوصاف لم يكن موجودًا، فالجواب: ليس من شرط الوجود أن يمكننا تصوره ففي المخلوق ما لا يمكن تصوره وهو الوقت ( أي الوقت المخلوق ) الذي لم يكن فيه نور ولا ظلام والإيمان بذلك واجب لقول الله تعالى: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور} أي أوجد الظلمات والنور بعد أن كانا معدومين وذلك أن أول المخلوقات الماء والعرش ثم القلم واللوح بدليل حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: "كان الله ولم يكن شىء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شىء" والذكر هو اللوح المحفوظ.
وقوله عليه الصلاة والسلام: "أول ما خلق الله تعالى القلم فقال له اكتب فقال ما اكتب فجرى القلم بما كان وما يكون".
وهــذه أوّلــيـَّــة نـسـبـيـة فــإن الماء والعرش خـُــلِــقـا قبل القلم واللوح المحفوظ
فنعلم من الحديثين أن النور والظلام لم يكونا قبل الأربعة إنما وجدا بعدهم ولا يمكن أحدًا أن يتصور هيأة وقت أي مخلـوق ليس فيه نور ولا ظلام وإنما يتصور العقل وقتًا يوجد فيه أحدُهما دون الآخر، نقول كذلك يصح وجود الله تعالى مع انتفاء هذه الأوصاف كلها عنه، فمن هنا قال أئمة أهل السنة كالإمام أحمد بن حنبل والإمام ذي النون المصري وغيرهما: "مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك" روى ذلك الحافظ الخطيب البغدادي عن الإمام ذي النون المصري في كتابه اعتقاد الإمام المبَجّل أحمد بن حنبل.
وفي معناه قول ابن عباس رضي الله عنه: "تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله". رواه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات بإسناد جيد، لأنه لا يمكن تصوير الله في النفس، ونص على ذلك جماعة من علماء المذاهب الأربعة منهم الإمام الجليل أبو سعيد المتولي أحد أصحاب الوجوه في مذهب الشافعي وهم الطبقة التي تلي الإمام الشافعي، ثم النووي وابن حجر الهيتمي على ذلك، ومن المالكية سيدي أبو عبد الله محمد بن أحمد ميّارة، ومنهم من الحنفية أبو المعين النسفي والعالم الشهير محمود بن محمد القونوي شارح العقيدة الطحاوية بل ذلك يفهم من قول الطحاوي: "تعالى (يعني الله) عن الحدود والغايات" لأن الشىء الذي لا كمية له لا يصح في حقه الإتصال والإنفصال، ومن الحنابلة أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي بل قول الطحاوي المذكور وهو نقلٌ عن السلف كلهم فيه تنزيه الله عن الإتصال والإنفصال لنقله عنهم نفي الحد عن الله
والحد هو الكمية أي الجِرْمُ وهو الذي يُسَمَّى جوهرًا في اصطلاح علماء التوحيد وهو أصغر كمية أصغر جرم لا يقبل الإنقسام وما زاد عليه فهو الجسم، وهو في نهاية القِلّة بحيث لا يقبل الإنقسام سُمّي جوهرًا لأنه أصل الجسم والجوهر في اللغة الأصل ويقال في اصطلاحهم لما زاد على ذلك جسم ومن ليس له كمية لا يوصف بالإتصال والإنفصال.
فإذا تقرر هذا فلا يُهَوِّلنَّكُم قولُ المشبهة: إن القولَ بأن الله موجود من غير ان يكون متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه ولا داخله ولا خارجه نفي لوجود الله.
بل قولوا لهم هذه شبهة بنيتموها على أصل غير صحيح وهو أنكم جعلتم شرط الوجود أن يكون الشىء له اتصال أو انفصال وأن يكون داخل العالم أو خارجه، وهم أي المشبهة، يعترفون أن الله كان موجودا قبل العالم لا داخله ولا خارجه فنحن نقول: كذلك بعد أن خلق العالم هو موجود كما كان لا داخل العالم ولا خارجه فبهذا تكون قد بطَلَت شبهتهم وتموِيْهُهُم.
* نُقُولُ الأئمة العلماء من أهل السنة قــد نــزّهــوا اللهَ عن التحيز في مكان واحد أو في كل مكان وعن الإتصال بالعالم أو الإنفصال وعن الكون ضمن العالم أو خارج العالم.
• نص كلام الإمام عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي في نفي التحيز في المكان والإتصال والإنفصال والإجتماع والإفتراق عن الله تعالى قال في كتابه دفع شبه التشبيه ص40 يحكي قولَ المجَسِم الحنبلي وهو الحسن بن حامد بن علي البغـدادي وهو شيخ المجسّـمة من الحنابلة في وقته قال (يعني ابن حامد المُـجَـسِّـم) وقد ثبت أن الأماكن ليست في ذاته ولا ذاته فيها فثبت إنفصاله عنها ولا بد من بدء يحصل به الفصل فلما قال استوى علمنا اختصاصه بتلك الجهة، قال ولا بد أن يكون لذاته نهايةٌ وغاية يعلمها.
•
• قلتُ هذا رجلٌ لا يدري ما يقول لأنه إذا قَـَــدّر غايةً وفصل بين الخالق والمخلوق فقد حَـدَّدَهُ وأقـَــرَّ بأنه جسم وهو يقول في كتابه إنه ليس بجوهر لأن الجوهر ما يتحيز ثم يثبت له مكانًا يتحَـيـَّـر فيه.
قلت وهذا كلام جهل من قائله وتشبيه محض فما عرف هذا الشيخ ما يجب للخالق تعالى وما يستحيل عليه فإن وجوده تعالى ليس كوجود الجواهر والأجسام التي لا بُـدَّ لها من حَــيِّـز والتحت والفوق إنما يكون فيما يقابل ويُـحاذى من ضرورة المُـحاذى أو أصغر أو مثله وأن هذا ومثله إنما يكون في الأجسام وكل ما يُـحاذى الأجسام يجوز أن يَـمَـسَّـها وما جاز عليه مُـماسة الأجسام ومباينتها فهو حادِث( اي مخلوق له إبتـداء) إذ قد ثبت أن الدليل على حُـدوث الجواهر قـبولها المُـماسةَ والمُـباينة فإن أجازوا هذا عليه قالوا بجواز حُـدُوثه وإن منعوا هذا عليه لم يبق لنا طريق لإثبات حَـدَث الجواهر ومتى قـَـدّرنا مستغنيًا عن المحل ومحتاجًا إلى الحيز ثم قلنا إما أن يكونا متجاورين أو متبانيين كان ذلك محالاً فإن التجاور والتباينَ من لوازم التحيز في المتحيزات.
وقد ثبت أن الإجتماع والإفتراق من لوازم التحيز والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالتحيز لأنه لو كان متحيزًا لم يخل إما أن يكون ساكنًا في حيزهِ أو متحركًا عنه ولا يجوز أن يوصف بحركة ولا سكون ولا اجتماع ولا افتراق ومن جاورَ أو باين فقد تناهى ذاتًا والتناهي إذا اختص بمقدار استدعى مخصصًا وكذا ينبغي أن يقال ليس بداخل في العالم وليس بخارج منه لأن الدخول والخروج من لوازم المتحيزات فهما كالحركة والسكون وسائر الأعراض التي تُحَسّ بالأجرام.
وأما قولهم خلق الأماكن لا في ذاته فثبت انفصاله عنها قلنا: ذاته المقدس لا يقبل أن يخلق فيه شىء ولا أن يحل فيه شىء وقد حملهم الحِسُّ على التشبيه والتخليط حتى قال بعضهم إن ما ذكَر الإستواء على العرش لأنه أقرب الموجودات إليه.
وهذا جهل أيضًا لأن قرب المسافة لا يتصور إلا في جسم ويَعِزُّ علينا كيف يُنْسَبُ هذا القائل إلى مذهبنا ( اي كيف يكون حنبليـّـا مُـتـّــبـِــعًـا للامام أحمـد بن حنبل رضي الله عنه ) ، واحتج بعضهم بأنه على العرش بقوله تعالى: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه" وبقوله: {وهو القاهر فوق عباده} وجعلوا ذلك فوقية حِـسِّـيـَّـة ونسوا أن الفوقية الحسية إنما تكون لجسم أو جوهر وان الفوقية قد تطلق لعلو المرتبة فيقال: فلان فوق فلان ثم أنه كما قال تعالى: {فوق عباده} قال تعالى: {وهو معكم}. فمن حملها على العلم حمل خصمُه الإستواء على القهر وذهبت طائفة إلى أن الله تعالى على عرشه وقد ملأهُ والأشْبَهَ أنه مماس للعرش والكرسي موضِعُ قدميه.
قلت المماسة إنما تقع بين جسمين وما أبقى هذا في التجسيم بقية . اهـ كلام ابن الجوزي ولقد أجاد وشفى وكفى .
* قال الإمام أبو منصور المحدّث الفقيه الشافعي البغدادي الذي وصفه ابن حجر بأنه الإمام الكبير أصحابنا أي الشافعية وهو من جملة مشايخ البيهقي وأجمعَ أصحابنا على إحالة القول أنه في مكان أو في كل مكان ونقل عن الإمام أبي الحسن الأشعري لا يجوز أن يقال إنه في مكان ولا إنه مباين للعالم ولا إنه في جوف العالم لأن قولنا إنه في العالم يقتضي أن يكون محدودًا متناهيًا وقولنا إنه مباينٌ له وخارج عنه يقتضي أن يكون بينه وبين العالم مسافة والمسافة مكان انتهى كلامه في تفسيره الأسماء والصفات
وقال العلامة محمد بن أحمد المشهور بميّارة المالكي في كتابه الدر الثمين في ص29 ما نصه:
• مسألة: سئل الإمام العالم أبو عبد الله سيدي محمد بن جلال هل يقال المولى تبارك وتعالى لا داخلَ العالم ولا خارجَ العالم فأجاب السائلَ: هكذا نسمعه من بعض شيوخنا واعترضه بعضهم بأن هذا رفع للنقيضين وقال بعض فقهائنا في هذه المسألة هو الكل أي الذي قام به كل شىء وزعم أنه للإمام الغزالي وأجاب بعضهم ان هذا السؤال معضِل ولا يجوز السؤال عنه وزعم أن ابن مِقْلاش هكذا أجاب عنه في شرحه على الرسالة فأجاب بأنّ نقول ذلك ونجزُم به ونعتقد انه لا داخل العالم ولا خارج العالم والعجز عن الإدراك إدْراك لقيام الدلائل الواضحة على ذلك عقلاً ونقلاً أما النقل فالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى: {ليس كمثله شىء وهو السميع البصير} فلو كان في العالم أو خارجًا عنه لكان مُماثلاً وبيان الملازمة واضح أما في الأول فلأنه إن كان فيه صار من جنسه فيجب له ما وجب له.
•
• وأما الثاني فلأنه إن كان خارجًا لزم إما اتصاله وإما انفصاله وانفصاله إما بمسافة متناهية أو غير متناهية وذلك كله يؤدي لافتقاره إلى مخصص.
•
• وأما السنة فقوله : "كان الله ولا شىء معه وهو الآن على ما كان عليه".
•
وأما الإجماع فأجمع أهل الحق قاطبة على أن الله تعالى لا جهة له فلا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف.
وأما العقل فقد اتضح لك اتضاحًا كليًا مما مر في بيان الملازمة في قوله تعالى: {ليس كمثله شىء} والإعتراض بأنه رفع للنقيضين ساقط لأن التناقض إنما يعتبر حيث يتصف المحل بأحد النقيضين ويتواردان عليه وأما حيث لا يصح تواردهما على المحل. ولا يمكن الإتصاف بأحدهما فلا تناقض كما يقال مثلاً الحائط لا أعمى ولا بصير فلا تناقض لصدق النقيضين فيه لعدم قبوله لهما على البدلية وكما يقال في الباريء أيضًا لا فوق ولا تحت وقس على ذلك. وقول من قال إنه الكل زاعمًا أنه للغزالي فقضية تنحو منحى الفلسفة أخذ بها بعض المتصوفة وذلك بعيد من اللفظ وما أجاب به بعضهم انه معضل لا يجوز السؤال عنه ليس كما زعم لوضوح الدليل على ذلك وإن صح ذلك عن ابن مقلاش فلا يُـلتفت إليه في هذا الفن لعدم اتقانه طريق المتكلمين إذ كثير من الفقهاء ليس لهم خبرة به فضلاً عن إتــقانه.
* كلام الشافعية في تنزيه الله عن الإتصال والإنفصال:
- قال النووي( ) في باب الردة في كتابه: وتحصل الردة بالقول الذي هو كفر، سواء صدر عن اعتقاد أو عنادٍ أو استهزاء، هذا قول جملي، وأما التفصيل فقال المتولي: من اعتقد قدم العالم، أو حدوث الصانع أو نفى ما هو ثابت للقديم بالإجماع ككونه عالمًا قادرًا أو أثبت ما هو منفى عنه بالإجماع كالألوان أو أثبت له الإتصال والإنفصال كان كافرًا. ا.هـ.
في شرح كلام للغزالي وممن قال بنفي الإتصال والإنفصال بالعالم عن الله الغزالي.
قال ابن حجر- كتاب روضة الطالبين الجزء التاسع ص64 كتاب الردة- ومعنى نفي الإتصال والإنفصال يرجع إلى قول من قال الباريء تعالى لا داخلَ العالم ولا خارجهُ ومن ثمَّ قال الغزالي معناه أن مصححَ الإتصال والإنفصال الجسميةُ والتحيز وهو محالٌ على الباريء فانفكَ عن الضدين كما أن الجمادَ لا هو عالم ولا هو جاهل لأن مُصَحِحَ العلم هو الحياة فإذا انتفتِ الحياة انتفى الضدان. ا.هـ.
* وأما النقلُ عن الحنفية فقد قال أبو المعين ميمون بنُ محمد النسَفي المتوفى سنة 508هـ. قال في تبصرةِ الأدلة - كتاب تبصرة الأدلة ص176 - 177 الجزء الأول وفي المخطوط ص205. في رد قولِ المشبهة إنه تعالى لما كان موجودًا إنا ان يكون داخل العالم وإما أن يكون خارج العالم وليسَ بداخل العالم فكان خارجًا منه وهذا يوجبُ كونَه بجهة منه، قال: والجوابُ أنّ الموصوف بالدخول والخروج هو الجسمُ المتَبعِضُ المتجزىء وأما ما لا تبعض له ولا تجزؤ فلا يُوصف بكونهِ داخلاً ولا خارجًا ثم قال
في إبطال قول المشبهة لما كان الله تعالى موجودًا ان يكون مُماسًا للعالم أو مباينًا عنه وأيَّهما. كان ففيه إثباتُ الجهة إذ ما ذُكرَ مِن وَصف الجسم وقد قامت الدِلالةُ على بطلانِ كونهِ جسمًا ألا ترى أن العَرَض لا يوصف بكونِه مُماسًا للجوهر ولا مباينًا له قال وهذا كله لبيان أن ما يزعمون ليس من لواحِق الوجودِ بل هو من لواحِقِ التبعُضِ والتجزىء والتناهي وهي كلُها محالٌ على القديم تعالى ا.هـ. كتاب تبصرة الأدلة ص176 - ص177 الجزء الأول
يعني أنه ليس من شرط الوجودِ كونُ الموجودِ مماسًا لغيره أو مماسًا له أو مُباينًا أو متصلاً بغيره أو منفصلاً عنه أو داخلاً فيه أو خارجًا عنه إنما هذا من شرط التبعض والتجزىء والتناهي وذلك كله محالٌ على القديم إنتهى الزيادة في الرسالة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق