الباز الأشهب المنقض على مخالفي المذهب
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام الحافظ العلامة أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن عبد الله بن حماد الجوزي بن أحمد بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن القاسم بن الفطر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم: "اعلم وفقك الله تعالى أني لما تتبعت مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه رأيته رجلاً كبير القدر في العلوم، قد بالغ رحمة الله عليه في النظر في علوم الفقه ومذهب القدماء، حتى لا تأتي مسألة إلا وله فيها نص أو تنبيه إلا أنه على طريق السلف، فلم يصنف إلا المنقول، فرأيت مذهبه خاليًا من التصانيف التي كثر جنسها عند الخصوم.
فصنفت تفاسير مطولة منها "المغني" مجلدات و"زاد المسير" و"تذكرة الأريب"، وغير ذلك.
وفي الحديث كتبًا: منها "جامع المسانيد" و"الحدائق" و"نفي النقل" وكتبًا كثيرة في الجرح والتعديل.
وما رأيت لهم تعليقة في الخلاف إلا أن القاضي أبا يعلى قال: كنت أقول ما لأهل المذاهب يذكرون الخلاف مع خصومهم ولا يذكرون أحمد؟ ثم عذرتهم إذ ليس لنا تعليقة في الفقه، قال: فصنفت لهم تعليقة.
قلت: وتعليقته لم يحقق فيها بيان الصحة والطعن في المردود وذكر فيها أقيسة طردية، ورأيت من يلقي الدرس من أصحابنا من يفزع إلى تعليقة الاصطلام أو تعليقة أسعد أو تعليقة العالمي أو تعليقة الشريف، ويستعير منها استعارات، فصنفت لهم تعاليق منها كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف" ومنها "جنة النظر وجنة الفطر" ومنها "عمدة الدلائل في مشهور المسائل".
ثم رأيت جمع أحاديث التعليق التي يحتج بها أهل المذاهب وبينت تصحيح الصحيح وطعن المطعون فيه، وعملت كتابًا في المذهب أدخلتها فيه، وسميته "الباز الأشهب المنقض على مخالفي المذهب".
وصنفت في الفروع كتاب "المذهَّب في المذهب" وكتاب "مسبوك الذهب" وكتاب "البلغة" وكتاب "منهاج الوصول إلى علم الأصول)، وقد بلغت مصنفاتي مائتين وخمسين مصنفًا.
ورأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح، وانتدب للتصنيف ثلاثة: أبو عبد الله بن حامد، وصاحبه القاضي أبو يعلى، وابن الزاغوني فصنفوا كتبًا شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحس، فسمعوا أن الله تعالى خلق ءادم عليه الصلاة والسلام على صورته، فأثبتوا له صورة ووجهًا زائدًا على الذات، وعينين وفمًا ولهوات وأضراسًا وأضواء لوجهه هي السبحات ويدين وأصابع وكفًا وخنصرًا وإبهامًا وصدرًا وفخذًا وساقين ورجلين.
وقالوا: ما سمعنا بذكر الرأس.
وقالوا: يجوز أن يمس ويُمس، ويدني العبد من ذاته.
وقال بعضهم: ويتنفس.
وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات، فسموها بالصفات تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى ولا إلى إلغاء ما توجبه الظواهر من سمات الحدث، ولم يقنعوا بأن يقولوا صفة فعل، حتى قالوا صفة ذات.
ثم لما أثبتوا أنها صفات ذات قالوا: لا نحملها على توجيه اللغة مثل يد على نعمة وقدرة، ومجيء وإتيان على معنى بر ولطف، وساق على شدة، بل قالوا: نحملها على ظواهرها المتعارفة، والظاهر المعهود من نعوت الآدميين، والشيء إنما يجعل على حقيقته إذا أمكن، فإن صرف صارف حمل على المجاز، ثم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم ويقولون: نحن أهل السنة، وكلامهم صريح في التشبيه.
وقد تبعهم خلق من العوام.
فقد نصحت التابع والمتبوع فقلت لهم: يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل واتباع، وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل يقول وهو تحت السياط: "كيف أقول ما لم يقل".
فإياكم أن تبتدعوا في مذهبه ما ليس منه، ثم قلتم في الأحاديث، "تحمل على ظاهرها" وظاهر القدم الجارحة، فإنه لما قيل في عيسى "روح الله" اعتقدت النصارى أن لله سبحانه وتعالى صفة هي روح ولجت في مريم.
ومن قال: استوى بذاته فقد أجراه مجرى الحسيات، وينبغي أن لا يهمل ما يثبت به الأصل. وهو العقل، فإنا به عرفنا الله تعالى، وحكمنا له بالقِدَم، فلو أنكم قلتم: نقرأ الأحاديث ونسكت ما أنكر عليكم أحد، إنما حملكم إياها على الظاهر قبيح.
فلا تدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي ما ليس منه. فلقد كسيتم هذا المذهب شيئًا قبيحًا حتى لا يقال حنبلي إلا مجسم، ثم زينتم مذهبكم بالعصبية ليزيد بن معاوية، ولقد علمتم أن صاحب المذهب أجاز لعنته، وقد كان أبو محمد التميمي يقول في بعض أئمتكم: لقد شان هذا المذهب شينًا قبيحًا لا يغسل إلى يوم القيامة.[/size]
فصل
قلت وقد وقع غلط المصنفين الذين ذكرتهم في سبعة أوجه: أولها: أنهم سموا الأخبار أخبار صفات، وإنما هي إضافات، وليس كل مضاف صفة، فإنه قال سبحانه وتعالى: {وَنَفَختُ فيهِ مِن رُّوحِي} وليس لله صفة تسمى روحًا، فقد ابتدع من سمى المضاف صفة. الثاني: أنهم قالوا: إن هذه الأحاديث من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله تعالى. ثم قالوا: نحملها على ظواهرها، فوا عجباً ما لا يعلمه إلا الله أي ظاهر له؟ فهل ظاهر الاستواء إلا القعود، وظاهر النزول إلا الانتقال! الثالث: أنهم أثبتوا الله تعالى صفات، وصفات الحق لا تثبت إلا بما يثبت به الذات من الأدلة القطعية. والرابع: أنهم لم يفرقوا في الإثبات بين خبر مشهور كقوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل إلى السماء الدنيا" وبين حديث لا يصح كقوله: "رأيت ربي في أحسن صورة" بل أثبتوا هذا صفة وهذا صفة. الخامس: أنهم لم يفرقوا بين حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين حديث موقوف على صحابي أو تابعي، فأثبتوا بهذا ما أثبتوا بهذا. والسادس: أنهم تأولوا بعض الألفاظ في موضع ولم يتأولوها في ءاخر كقوله: "ومن أتاني يمشي أتيته هرولة". قالوا: هذا ضرب مثل للأنعام. والسابع: أنهم حملوا الأحاديث على مقتضى الحس فقالوا: ينزل بذاته وينتقل ويتحرك، ثم قالوا: لا كما يعقل. فغالطوا من يسمع فكابروا الحس والعقل فحملوا الأحاديث على الحسيات، فرأيت الرد عليهم لازماً لئلا ينسب الإمام إلى ذلك، وإذا سكت نسبت إلى اعتقاد ذلك، ولا يهولني أمر عظيم في النفوس، لأن العمل على الدليل، وخصوصاً في معرفة الحق لا يجوز فيه التقليد. وقدسئل الإمام أحمد رحمه الله عن مسألة فأفتى فيها فقيل: هذا لا يقول بها ابن المبارك فقال: ابن المبارك لم ينزل من السماء، وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: استخرت الله تعالى في الرد على الإمام مالك رحمه الله. ولما صنف هؤلاء الثلاثة كتبًا وانفرد القاضي "أبو يعلى" فصنف الأحاديث التي ذكرتها على ترتيبه، وقدمت عليها الآيات الشريفة التي وردت في ذلك.[/size] |
|
باب ما جاء في القرءان العظيم من ذلك
قال الله تعالى: {وَيَبقى وَجهُ رَبِّكَ ذو الجَلالِ وَالإِكرام}.
قال المفسرون: يبقى ربك، وكذا قالوا في قوله: (يُريدونَ وَجهِهِ). أي يريدونه.
وقال الضحاك وأبو عبيدة في قوله: {كُلُ شَيءٍ هالِك إِلّا وَجهِهِ} أي إلا هو.
وقد ذهب الذين أنكرنا عليهم إلى أن الوجه صفة تختص باسم زائد على الذات.
قلت: فمن أين قالوا هذا وليس لهم دليل إلا ما عرفوه من الحسيات؟ وذلك يوجب التبعيض، ولو كان كما قالوا: كان المعنى: أن ذاته تهلك إلا وجهه.
وقال ابن حامد: أثبتنا لله وجهاً ولا نجوز إثبات رأس.
قلت: ولقد اقشعر بدني من جراءته على ذكر هذا فما أعوزه في التشبيه غير الرأس.[/size]
قلت: ومن
ذلك قوله: {وَلِتَُصْنَع
عَلى عَيني} [سورة طه].
وقوله عز وجلّ: {وَاصْنَعِ الفَلْكَ بِأَعيُنِنا} [سورة هود].
قال المفسرون: بأمرنا، أي بمرأى منا، قال أبو بكر بن الأنباري: أما جمع العين على مذهب العرب في ايقاعها الجمع على الواحد يقول: خرجنا في السفر إلى البصرة، وإنما جمع لأن عادة الملك أن يقول: أمرنا ونهينا.
وقد ذهب القاضي إلى أن العين صفة زائدة على الذات وقد سبقه أبو بكر بن خزيمة فقال في الآية: "لِرَبِنا عَينان ينظر بِهما".
وقال ابن حامد: يجب الإيمان أن له عينين.
قلت: وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه وإنما أثبتوا عينين من دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام: "وإن الله ليس بأعور".
وإنما أراد نفي النقص عنه تعالى، ومتى ثبت أنه لا يتجزأ، لم يكن لما يتخايل من الصفات وجه.
ومنها قوله
تعالى: {لِمَا
خَلَقتُ
بِيَديَّ}.اليد
في اللغة: بمعنى النعمة والإحسان.
قال الشاعر:
مَتى ما تَناخي عِندَ بابِ بَني هاشم *** تَريحي فَتَلقى من فَواضِلَـهُ يَداً
ومعنى قول اليهود لعنهم الله: {يَدُ اللهِ مَغلولَةٌ} أي محبوسة عن النفقة، واليد القوة، يقولون:له بهذا الأمر يد.
وقوله تعالى: {بَل يَداهُ مَبسوطَتانِ} أي نعمته وقدرته.
وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} أي بقدرتي ونعمتي، وقال الحسن في قوله تعالى: {يَدُ اللهِ فَوقَ أَيديهِم}
أي منته وإحسانه. قلت: هذا كلام المحققين.
وقال القاضي أبو يعلى: اليدان صفتان ذاتيتان تسميان باليدين، وهذا تصرف بالرأي لا دليل عليه.
وقال: لو لم يكن لآدم مزية على سائر الحيوانات باليد التي هي صفة لما عظمه بذكرها وأجله فقال {بِِيَدَيَّ}. ولو كانت القدرة لما كانت له مزية، فإن قالوا القدرة لم تثن.
قلنا: بلى قال العرب: ليس لي بهذا الأمر يدان، أي ليس لي به قدرة، وقال عروة بن حزام في شعره:
فَقالا شَفاكَ الله وَالله مالَـنـا *** بِما ضَمَت مِنكَ الضُلوعُ يَدانِ
وقولهم: ميزه بذلك عن الحيوان فقد قال عز وجل: {خَلَقنا لَهُم مِمَّا عَمِلَت أَيدينا أَنعامًا}.
ولم يدل هذا على تمييز الأنعام على بقية الحيوان.
قال الله تعالى: {وَالسَماءُ بَنَيناها بِأَيْدٍ} أي بقوة.
ثم قد أخبر أنه نفخ فيه من روحه، ولم يرد إلا الوضع بالفعل والتكوين، والمعنى: نفخت أنا، ويكفي شرف الإضافة، إذ لا يليق بالخالق سوى ذلك لأنه لا يحتاج أن يفعل بواسطة، فلا له أعضاء وجوارح يفعل بها، لأنه تعالى الغني بذاته، فلا ينبغي أن يتشاغل بطلب تعظيم ءادم مع الغفلة عما يستحقه الباري سبحانه من التعظيم بنفي الأبعاض والآلات في الأفعال، لأن هذه الأشياء صفة الأجسام.
وقد ظن بعض البله أن الله تعالى يمسّ، حتى توهموا أنه مس طينة ءادم بيد هي بعض ذاته، وما فطنوا أنه من جملة مخلوقاته جسمًا يقابل جسمًا فيتحد به ويفعل فيه، أفتراه سبحانه جعل أفعال الأشخاص والأجسام تتعدى إلى أجسام بعيدة، ثم يحتاج هو في أفعاله إلى معاناة الطين؟ وقد ردّ قول من قال هذا بقوله تعالى: {إِن مَثلَ عيسى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكونُ}.
ومنها قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ}.
وقوله تعالى على لسان عيسى: {تَعْلَمُ ما فِيْ نَفْسِي وَلا أََعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}. قال المفسرون: ويحذركم الله إياه، وقالوا: تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك.
وقال المحققون: المراد بالنفس هاهنا الذات ونفس الشيء ذاته.
وقد ذهب القاضي إلى أن لله نفسًا وهي صفة زائدة على ذاته. قلت: وهذا قوله لا يستند إلا إلى التشبيه لأنه يوجب أن الذات شيء والنفس غيرها.
وحكى ابن حامد أعظم من هذا فقال: ذهبت طائفة في قوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فيهِ مِن روحي} إن تلك الروح صفة من ذاته وإنها إذا خرجت رجعت إلى الله تعالى قلت: وهذا أقبح من كلام النصارى فما أبقى هذا من التشبيه بقية.
ومنها قوله تعالى: {لَيْسَ كَمثلِهِ شَيْءٌ).
ظاهر الكلام أن له مثل، فليس كمثله شيء، وليس كذلك، وإنما معناه عند أهل اللغة: أن يقام المثل مقام الشيء نفسه.
يقول الرجل: مثلي لا يكلم مثلك، وإنما المعنى: ليس كهو شيء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق