الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد الأمين وبعد ،
قال الله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءاَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } [سورة الحجرات] أي أنّ المؤمنين هم الذين صَدَّقُوا بوُجودِ الله تعالى وأنَّه لا يُشْبِهُ شيئًا وصَدَّقُوا أنَّ محمَّداً عبدُهُ ورَسولُهُ ، هو آخِرُ نبيٍّ مُرسَل إلى كافَّة العالمين من إنسٍ وجِنّ وأنّه بشرٌ لم يخلَقْ مِن نور وأنّه صادِقٌ في كل ما يُبَلِّغُهُ عن الله ، ولم يَشُكُّوا في ذلك . وقد قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( أفضلُ الأعمالِ إيمانٌ لا شَكّ فيه )) رواه مسلم .
فبمَا أنّ الإيمانَ هو أفضَلُ الأعمالِ عند الله تعالى لأنّه الشىء الذي لا بُدَّ منه حتى يَكونَ عَمَلُ الإنسان مَقْبُولاً ، كان حَرِيًّا بالمسلم أن يَعْرِفَ ما هي الأشياء التي تُخْرِجُ مِن الإسلامِ حتى يتجَنَّبها ويُحافِظ على إيمانه فإنّ مَن لم يَعرِف الشرَّ يَقَع فيه . والشىء الذي يقطَعُ الإسلامَ ويُبْطِلُهُ هو الردَّةُ والعِياذُ بالله تعالى . ومَن وَقَعَ في الردَّةِ فقد خَسِرَ كُلَّ حَسَنَاتِهِ، قال الله تعالى : { ومَن يَّكْفُرْ بِالإِيـمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [ سورة المائدة ] .
ومَصيرُهُ إن ماتَ على الردّة أن يدخلَ النّارَ ويخلد فيها إنْ لم يَرجِعْ إلى الإسلام قبلَ موته .
والردّةُ ثلاثَةُ أقسام : اعتقاداتٌ وأفعالٌ وأقوال
فَمِنَ الأوَّل : الشكُّ في الله أو في رسوله أو في القرءان . ومِن هذا القسم أيضًا أن يعتَقِدَ أنّ اللَّهَ نورٌ بمعنى الضوء أو أنّه رُوحٌ أو اعتقَدَ أنّ سيّدَنا مُحمّداً جُزْءٌ منه ، كذلك مَن اعتقَدَ أنّ المسيحَ جزءٌ من الله فهو ليسَ بِمُسلِم . وقد ذَكَر الولِيُّ الشيخُ عبدُ الغَنـيّ النابلسِيّ : "أنّ من اعتقد أنّ اللَّهَ مَلأَ السمواتِ والأرضَ أو أنّه جسم قاعدٌ فوق العرش فهو كافرٌ وإن زعم أنّه مسلم " وأضاف يقول : " وسببه ( أي الوقوع في الكفر ) الجهلُ عن معرِفَةِ الأمرِ على ما هو عليه" . فمَن تأمَّلَ هذا الكلامَ عَلِم أنَّ الجاهِلَ في مِثلِ هذا لا يُعذَرُ . وكذلك مَن اعتقَدَ أنّ الله جالسٌ على العرش ، لأنّ الله قاهر العرش ومُسَيْطِرٌ عليه ولا يَحتاجُ إليه.
والقسم الثاني الأفعال : كالذي يسجُد لصنَمٍ أو يرمي المصحفَ أو ورقةً فيها اسمُ الله في نجاسةٍ عمدًا . فيجب احترامُ الأوراق التي فيها اسمُ الله ولا يجوز رميُها في مكانٍ مُستقذَر ، ولو لم يقصد الاستخفافَ بما فيها .
والقسم الثالث الأقوال : كالذي يَسُبُّ اللَّهَ تعالى أو ينسبُ له الولَدَ قولاً ولو لم يعتقد ذلك ، وكالذي يَسُبُّ نبيًّا من الأنبياء كمحمّدٍ أو عيسى المسيح أو موسى أو ءادم أوغيرهم ، وكذلك الذي يَشتُمُ ملكًا كجبريل أو ميكائيل أو عزرائيل أو غيرهم ، وكالذي يقول : ( اخلُق لي كذا كما خَلَقَكَ الله ) وكالذي يقول : " إنّ الله حالٌّ في الأشياء داخلٌ فيها " وكذلك كلُّ كلامٍ معناه استخفاف بالله ظاهر في ذلك نوى المعنى أو لم ينوِ . قال إمام الحرمين عبد الملك الجُوَينِيّ أحد كبار العلماء : " اتَّفَقَ الأصوليّون على أن من نَطَقَ بكلمةِ الردّة وزَعَمَ أنَّه أَضْمَرَ تَوْرِيَةً كُفِّرَ ظَاهِرًا وباطنًا ". كذلك قَولُ بعضِ السفهاء : (صُم وصَلّ تركبك القِلّة) كفر ، وكذا قول بعض الناس : (غدا نتدفأ في جهنم) ، أو قال : (أنا كافر) سواء كان مازحًا أو جادًا . واعلموا أن اللَّهَ واجبٌ تعظيمُهُ في حال الرضا وفي حال الغضب ويَحرُمُ الاستخفافُ به في الحالين ، وعلى هذا أَجمَعَ المسلمون .
وقال الإمام النووي في كتابه روضة الطالبين : " لو غضبَ رَجُلٌ عَلَى وَلَدِهِ أَو غُلاَمِهِ فَضَرَبَهُ ضَربًا شَدِيدًا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : أَلستَ مُسلِمًا ؟ فَقَالَ : لاَ ، مُتَعَمِّدًا كفر" . أي مادام بإرادته ولو كان في حال الغضب . وكذلك الذي يُنكِرُ الجَنَّةَ أو النَّار أو البعث أو الحساب في الآخرة ، وكذلك الذي يقول إنَّ الجنة أمورٌ معنوية وليست حِسّية أو قال: النار فيها عذاب رُوحيٌّ وليس حسّيًا وقد نصّ العُلماءُ على أن من وَقَعَ في هذه الألفاظ فقد حَبِطَ عملُهُ إذا قالها بإرادته مختاراً عامداً غير مُكرَهٍ بالقتل ونحوه ولم يَكُن غائبَ العقل . ولم يَقُل العلماءُ إنه يُنظرُ إلى رضاه أو غضبه حين يتكلّم .
ومن فَكَّرَ في قوله تعالى : { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }[ سورة ق ] وعَلِمَ أنَّ معناه أنّ كلّ ما يتكلّمُ بِه الإنسانُ يُسَجِّلُهُ المَلَكَان سواءٌ كان مازحاً أو جادًّا أو في حالة الغضب ، وكان حريصًا على إيمانه فإنَّـهُ يُمْسِكُ لسانَهُ عمَّا لا يرضي اللّهَ عزَّ وجلَّ . ولا تَلْتَفِتُوا إلى بعضِ الجُهَّالِ الذين ليسَ لهم نَصيبٌ في العلم الذين يقولون: الجاهلُ معذور . فهؤلاء إنّما يَفتَحون بابًا للضلال واسعاً وإنما يرغّبون النَّاس بالجهل ، مخالفين بذلك قولَ الله تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ والذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }[ سورة الزمر ] وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( طَلَبُ العِلْمِ ِفَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِم )) (أي وكلّ مسلمة) رواه البيهقي . ولمزيد التأكيد على صِحَّةِ ما ذُكِرَ نَذكرُ قَوْلَ الإمام أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه إذ يقول : " لاَ يُعْذَرُ أَحَدٌ فِي مُوجبَاتِ الكُفْرِ بِالْجَهْل " .
والنصيحةُ التي تُوَجَّهُ إلى من وَقَعَ في شىءٍ من أمور الردَّة أن يُقَالَ له : ارجع إلى الإسلام بالنطق بالشهادتين ـ أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أنَّ مُحَمَّداً رسول الله ـ لأنَّ قولَ أَستغفرُ الله لا ينفعه قبل أن يرجعَ إلى الإسلام ، وعليه أن يتذكّر نعمةَ الله عليه الذي خَلَقَهُ وجَعَلَهُ مُتَكَلِّماً يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ ، فلا يجوز له أن يستخِفّ به أو أن يَعترض عليه فإنَّه إن فعلَ ذلك فهو الخاسر ، والله لا يَضُرُّهُ أحدٌ ولا يَنفَعه أحدٌ فهو غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ ، و الحمد لله ربِّ العالمين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق