بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 3 أغسطس 2018

تفسير لبعض الايات المتشابهات , ولبعض الأحاديث

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله 
اما بعد فقد جمعت لكم تفسير لبعض الايات المتشابهات , ولبعض الأحاديث التي يتخذها الوهابيون بزعمهم ادلة لهم ولكنها ليست كذلك . 


حديث الجارية 


في كتاب سنن النسائي بشرح الحافظ السيوطي 
المجلد الثاني الجزء الثالث , طبعة دار احياء التراث العربي بيروت-لبنان ص 18 


قال : قال الإمام النووي في شرحه على مسلم ما نصه: قوله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالـت في السماء، قال: من أنا قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة هذا الحديث من أحاديث الصفات وفيها مذهبان:ـ
أحدهما: الإيمان به من غير خوض في معناه مع اعتقاد أن الله تعالى ليس كمثله شئ وتنـزيهه عن سمات المخلوقات.
والثاني: تأويله بما يليق به، فمن قال بهذا قال: كان المراد امتحانها هل هي موحدة تـقر بأن الخالق المدبر الفعال هو الله وحده وهو الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء كما إذا صلى المصلي استقبل الكعبة، وليس ذلك لأنه منحصر في السماء كما أنه ليس منحصرا في جهة الكعبة بل ذلك لأن السماء قبلة الداعين كما أن الكعبة قبلة المصلين.اهـ




قول النووي هذا موجود في كتاب صحيح مسلم بشرح الامام النووي الدمشقي الشافعي المتوفى سنة 677 هجرية , المجلد الثالث الجزء الخامس طبع دار الكتب العلمية الطبعة الثانية سنة 1424 هجرية في الصحيفة 22



يستحيل على الله أن يكون متحيِّزا في الأماكن والجهات، ولو كان الله يسكن السماء كما يزعم بعض الناس لكان الله يزاحم الملائكة، وهذا محال، فقد ثبَت عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال :[[(أَطّتِ السماء وحُقّ لها أن تئِطّ، ما فيها موضعُ أربعِ أصابعَ إلّا وملَك واضعٌ جبهتَه ساجدا لله)]]..ا
رواه الترمذي في[(سننه)/كتاب الزهد عن رسول الله]من حديث أبي ذر وحسَّنه..ا
وفيه دليل على أنه يستحيل على الله أن يكون ساكنَ السماء وإلّا لكان مساويا للملائكة مزاحما لهم..ا
.
أخرج مسلم في (صحيحه) عن معاويةَ بن الحَكَمِ السُّلَمِيِّ أنه سأل رسول الله عن جارية كانت له، قال :[[قلت :[[يا رسول الله أفلا أُعتقها؟]]، قال :[[(ائتني بها)]]، فأتيته بها، فقال لها :[[(أين الله؟)]]، قالت :[[في السماء]]، قال :[[(من أنا؟)]]، قالت :[[أنت رسول الله]]، قال :[[(أعتقْها فإنها مؤمنة)]]..]]..ا
أنظر[(صحيح مسلم)/كتاب المساجد ومواضع الصلاة/باب تحريم الكلام في الصلاة]..ا
.
ورواية أبي داود عن أبي هريرة أن الرسول لمّا قال للجارية :[[أين الله]] أشارت إلى السماء بإصبعها، وليس في هذه الرواية أنها قالت {{في السماء}}..ا
أنظر[(سنن أبي داود)/كتاب الأيمان والنذور/باب في الرقبة المؤمنة]..ا
.
ورواية مالك في (الموطَّإ) عن عُبَيْدِ الله بنِ عبدِ الله بنِ عُتْبَةَ بنِ مسعود أن رجلا من الأنصار جاء إلى رسول الله بجارية له سوداء فقال :[[يا رسول الله إن عليَّ رقبةً مؤمنة فإن كنتَ تراها مؤمنة أُعتقُها]]، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :[[(أتشهَدين أنْ لا إله إلّا الله؟)]]، قالت :[[نعم]]، قال :[[(أتشهَدين أن محمدا رسولُ الله؟)]]، قالت :[[نعم]]، قال :[[(أتوقِنين بالبعث بعد الموت؟)]]، قالت :[[نعم]]، فقال رسول الله :[[(أعتِقْها)]]..ا
أنظر[(موطَّأ الإمام مالك)/كتاب العِتق والولاء/باب ما يجوز من العِتق في الرقاب الواجبة]..ا
.
ورواية النَسائي في (السنن) عن أبي سَلَمَةَ عن الشَريدِ بن سُوَيدٍ الثَقَفِيِّ قال :[[أتيت رسولَ الله فقلت :[[إن أمي أوصَت أن تُعْتَقَ عنها رَقَبَةٌ وإن عندي جاريةً نُوبيَّة، أفيجزئ عني أن أعتقَها عنها؟]]، قال :[[(ائتني بها)]]، فأتيتُه بها، فقال لها النبي :[[(من ربك؟)]]، قالت :[[الله]]، قال :[[(من أنا؟)]]، قالت :[[أنت رسول الله]]، قال :[[(فأعتِقْها فإنها مؤمنة)]]..]]..ا
.
إن المتأمل في رواية {{أين الله؟، فقالت : في السماء..}} يجدها مضطربة لأنها جاءت بهذا اللفظ وبلفظ {{أين الله؟، فأشارت إلى السماء}} وبلفظ {{من ربك؟، فقالت : الله..}} وبلفظ {{أتشهَدين أن لا إله الا الله؟، فقالت : نعم..}}..ا
.
ومما يزيد هذه الرواياتِ اضطرابا أن الرجل الذي ادعى أن الجارية السوداء له اختلفت فيه الروايات أيضا
ا[1]فعند مسلم صاحبُ الجارية السوداء هو معاويةُ بنُ الحَكَمِ السُّلَمِيُّ، فهو الذي ادعى أنها له..ا
أنظر[(صحيح مسلم)/كتاب المساجد ومواضع الصلاة/باب تحريم الكلام في الصلاة]..ا
ا[2]وعند مالك صاحبُها هو عُمَرُ بنُ الحَكَمِ، فهو الذي ادعى أنها له..ا
أنظر[(موطأ الإمام مالك)/كتاب العتق والولاء/باب ما يجوز من العتق في الرقاب الواجبة]..ا
ا[3]وعند النَسائي صاحبها هو الشَريدُ بنُ سُوَيدٍ الثَقَفِيُّ، فهو الذي ادعى أنها له..ا
أنظر(سنن النَسائي)/كتاب الوصايا/باب فضل الصدقة عن الميت]..ا
.
ثم إن رواية [[أين الله؟]] مخالفة للأصول لأن من أصول الشريعة أن الشخص لا يُحْكَمُ له بقول [[الله في السماء]] بالإسلام لأن هذا القول يشترك فيه اليهود والنصارى وغيرُهم، وإنما الأصل المعروف في شريعة الله ما جاء في الحديث المتواتر :[[(أُمِرْتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يشهَدوا أنْ لا إله إلا الله وأني رسول الله)]].. رواه خمسةَ عَشَرَ صحابيا.. ولفظ رواية مالك :[[(أتشهَدين أنْ لا إله إلا الله؟)]] موافق للأصول..ا
.
فظهر للمنصف أن حديث الجارية السوداء مضطرب سندا ومتنا، فإن من أراد الدخول في الإسلام يدخل فيه بالنطق بالشهادتين وليس بقول [[الله في السماء]].. وهذا ما عليه الأمة.. سلفُها وخلَفُها.. فكيف يقبل مسلم من نفسه أن يظن في رسول الله أنه حكم بإسلام كافر لمجرد أنه سمعه يقول :[[الله في السماء]]؟.. وأما المشبهة فقد حملوا حديث الجارية على غير مراد الرسول.. والمعنى الحقيقي لهذا الحديث عند من اعتبره صحيحا لا يخالف تنزيهَ الله عن المكان والحد والأعضاء.. فيكون معنى [[أين الله؟]] عند من أخذ بهذا الحديث : ما هو اعتقادك في الله من التعظيم ومن العُلُوِّ ورفعةِ القدر؟.. لأن [[أين]] تأتي للسؤال عن المكان، وهو الأكثر، وتأتي للسؤال عن المكانة أي القدر والمنزلة..ا
.
وأما قول الجارية :[[في السماء]] أو إشارتُها إلى السماء فإنها أرادت بذلك أن الله رفيعُ القدر جدا، وقد فهم الرسول ذلك من كلامها، أي على تقدير صحة تلك الرواية، أي هذا عند من صحح هذا الحديث من أهل السنة..ا
أنظر[(الشرح القويم)/ط6/ص124]لمولانا الشيخ عبد الله الهرري..ا
.
ومن حديث الجارية الذي مر ذكره يُعْلَمُ أن الشخص إذا قال :[[الله في السماء]] وقصد أنه عالي القدر جدّا فلا يكفَّر لأن هذا حالُه مثلُ حال الجارية السوداء، أي على تقدير صحة تلك الرواية، وأما إذا قال :[[الله موجود بذاته في السماء]] فهذا وقع في كفر صريح لأنه أثبت التحيُّز لله..ا
.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :[[(ما السماواتُ السبعُ مَعَ الكُرْسِيِّ ـ أي في جنب الكرسي ـ إلّا كحلْقة ملقاة بأرضٍ فَلاة، وفضل العرش على الكُرْسِيِّ كفضل الفَلاة على الحلْقة)]]..ا
روى هذا الحديثَ الإمامُ ابنُ حِبّانَ في (صحيحه) وصححه..ا
فكيف يكون الله في ما يشبه الحلْقة الملقاة في صحراء واسعة!!..ا
والسماء مخلوقة لله، هو خلقها، لم تكن ثم كانت، هو كان قبلَها، فكيف يَحُلُّ الخالقُ الأزلي في المخلوق الحادث؟!ا
.
فمن زعم أن نبيّا من أنبياء الله تعالى كان يظن أن ربه يسكن السماء فقد كفر بالله، وكذلك لو زعم أن نبيّا من أنبياء الله قال لرجل أو امرأة :{{أين مكان الله؟}} فإنه كافر غير مسلم، لأنه نسب الكفر إلى نبي من أنبياء الله تعالى.. وكيف يستقيم في العقل السليم أن ينسُب نبي من أنبياء الله المكان إلى الله، وما من نبي إلّا وهو يعلم أن نسبة المكان إلى الله تعالى كفر مخرج من الإسلام لا يصِح معه الإيمان!!. إن نسبة المكان إلى الله تعالى خروج عن العقل، فيجب علينا أن نسلِّم للعقل حكمَه بأن الله موجود لا في مكان ولا في جهة، لا يشبه العالم بوجه من الوجوه لا يمَسُّه ولا يعلو عليه بالمسافة ولا يحاذيه ولا يستقر عليه..ا
.
وبالعودة إلى حديث الجارية السوداء نراه يعارض الحديثَ المتواتر الذي رواه خمسةَ عَشَرَ صحابيّا :[[(أُمِرْتُ أن أقاتل الناسَ حتى يشهَدوا أنْ لا إله إلّا الله وأني رسول الله)]].. فهو من أصح الصحيح.. ووجه المعارضة فيه أن فيه الاكتفاءَ بقول [[الله في السماء]] للحكم على قائله بالإسلام، وحديثُ :[[(أُمِرْتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يشهَدوا أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله)]] فيه التصريحُ بأنه لا بد للدخول في الإسلام من النطق بالشهادتين.. فحديث الجارية لا يقاوِم هذا الحديثَ المتواترَ لأن في روايته اضطرابا..ا
وكذلك هناك عدة أحاديث صِحاح لا اختلاف فيها ولا علة تناقض حديث الجارية.. فكيف يؤخذ بظاهر حديث الجارية ويُعْرَضُ عن تلك الأحاديث الصِحاح؟!.. فلولا أن للمشبهة هوًى في تجسيم الله وتحييزه في السماء، كما هو معتقد اليهود والنصارى، لَمَا تشبثوا بحديث الجارية.. ولذلك يرَوْنه أقوى شُبْهَةٍ يجتذبون به ضعفاء الفَهْمِ إلى عقيدتهم عقيدة التجسيم.. فكيف يَخْفَى على ذي لُبٍّ أن عقيدة تحيُّز الله في السماء منافية لقوله تعالى في سورة الشورى ((ليس كمثله شيء))، فإنه على ذلك يَلْزَمُ أن يكون له أمثال كثيرة.. فالسماوات السبع مشحونة بالملائكة، وما فوق هذه السبعِ ملائكةٌ حافّون من حول العرش لا يعلم عددَهم إلّا الله.. وفوقَ العرش الذي هو سقف الجنة يوجد ذلك الكتاب الذي كتب فيه {{إن رحمتي سبقت غضبي}}.. رواه البخاري.. معناه مظاهر رحمتي أكثر من مظاهر غضبي.. فمن حمَل حديثَ الجارية على ظاهره وظن اللهَ في جهة فوق فقد أثبت لله أمثالا لا تُحصى.. فتبين بذلك أن هؤلاء المشبهة مخالفون لقول الله تعالى في سورة الشورى ((ليس كمثله شيء)).. ولا يسلَم من إثبات الأمثال لله إلّا من نزه اللهَ عن التحيز في المكان والجهة مطلقا..ا
والحمد لله رب العالمين..ا




26-أحبابنا الكرام، لم يكن سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجارية السوداء أين الله سؤالا عن الجهة أو المكان، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعرف خلق الله بالله سبحانه و تعالى وهو يعلم أن الله تعالى موجود بلا مكان لا يسكن السماء ولا يجلس على العرش. وإليكم ما يقول السّندي في حاشيته على شرح الحافظ جلال الدين السيوطي على "سنن النسائي". في هذا الكتاب الذي هو المجلد الثاني، الجزء الثالث، من طبع دار إحياء التراث العربي، في الصحيفة 18 يقول الإمام السنديّ : "قول النبي عليه الصلاة والسلام : أين الله، قيل معناه في أي جهة يتوجه المتوجهون إلى الله تعالى، وقولها : في السماء، أي في جهة السماء يتوجهون، والمطلوب معرفة أن تعترف بوجوده تعالى لا إثبات الجهة لله". فيا أحبابنا الكرام هذا ما عليه أئمة الإسلام وهذا ما نحن عليه والحمد لله رب العالمين.


قوله تعالى : أأمنتم من في السماء


يقول النووي في كتاب صحيح مسلم بشرح النووي في الجزء الخامس طبع دار الكتب العلمية الطبعة الثانية سنة 1424 هجرية في الصحيفة 22 


قال القاضي عياض : لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله تعالى * (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الارض) * ونحوه ليست على ظاهرها بل متأولة عند جميعهم )) انتهى


ومما هو معروف في النحو افراد ضمير الجمع قال الله تعالى ومنهم من يستمع اليك "سورة الانعام وقوله تعالى ومنهم من يستمعون اليك "سورة يونس وقوله تعالى ومنهم من ينظر اليك "سورة يونس 43. وكذلك يحمل قوله تعالى " أأمنتم من في السماء ان يخسف بكم الأرض "على الملائكة أو جبريل كما قال ابن عطية في تفسيره والرازي في تفسيره وابن حيان في تفسيره البحر والقرطبي في تفسيره الجامع والنسفي في تفسيره وغيرهم



قال القرطبي في تفسيره : قوله تعالى: "أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض" قال ابن عباس: أأمنتم عذاب من في السماء إن عصيتموه. وقيل: تقديره أأمنتم من في السماء قدرته وسلطانه وعرشه ومملكته. وخص السماء وإن عم ملكه تنبيها على أن الإله الذي تنفذ قدرته في السماء لا من يعظمونه في الأرض. وقيل: هو إشارة إلى الملائكة. وقيل: إلى جبريل وهو الملك الموكل بالعذاب.



قلت: ويحتمل أن يكون المعنى: أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون. "فإذا هي تمور" أي تذهب وتجيء. والمور: الاضطراب بالذهاب والمجيء. قال الشاعر: 
رمين فأقصدن القلوب ولن ترى دما مائرا إلا جرى في الحيازم
جمع حيزوم وهو وسط الصدر. وإذا خسف بإنسان دارت به الأرض فهو المور. وقال المحققون: أمنتم من فوق السماء؛ كقول: "فسيحوا في الأرض" [التوبة: 2] أي فوقها لا بالمماسة والتحيز لكن بالقهر والتدبير. وقيل: معناه أمنتم من على السماء؛ كقوله تعالى: "ولأصلبنكم في جذوع النخل" [طه: 71] أي عليها. ومعناه أنه مديرها ومالكها؛ كما يقال: فلان على العراق والحجاز؛ أي وإليها وأميرها. والأخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة منتشرة، مشيرة إلى العلو؛ لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل معاند. والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت. ووصفه بالعلو والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود لأنها صفات الأجسام. وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء لأن السماء مهبط الوحي، ومنزل القطر، ومحل القدس، ومعدن المطهرين من الملائكة، وإليها ترفع أعمال العباد، وفوقها عرشه وجنته؛ كما جعل الله الكعبة قبلة للدعاء والصلاة، ولأنه خلق الأمكنة وهو غير محتاج إليها، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان. ولا مكان له ولا زمان. وهو الآن على ما عليه كان. .


قوله تعالى: "أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا" أي حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل. وقيل: ريح فيها حجارة وحصباء. وقيل: سحاب فيه حجارة. انتهى


وقال البغوي في تفسيره : فقال: 16- "أأمنتم من في السماء"، قال ابن عباس: أي: عذاب من في السماء إن عصيتموه، "أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور"، قال الحسن: تتحرك بأهلها. وقيل: تهوي بهم. والمعنى: أن الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تلقيهم إلى أسفل، تعلو عليهم وتمر فوقهم. يقال: مار يمور، أي: جاء وذهب. 
17- "أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً"، ريحاً ذات حجارة كما فعل بقوم لوط. "فستعلمون"، في الآخرة وعند الموت، "كيف نذير"، أي إنذاري إذا عاينتم العذاب. 
18- "ولقد كذب الذين من قبلهم"، يعني كفار الأمم الماضية، "فكيف كان نكير"، أي إنكاري عليهم بالعذاب. وقال ابن جرير في تفسير : القول فـي تأويـل قوله تعالى:{أَأَمِنتُمْ مّن فِي السّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِي السّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ }.
يقول تعالى ذكره: أأَمنْتُمْ مَنْ فِي السّماءِ أيها الكافرون أنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فإذا هِيَ تَمُورُ يقول: فإذا الأرض تذهب بكم وتجيء وتضطرب أمْ أمِنْتُمْ مَنْ فِي السّماءِ وهو الله أنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِبا وهو التراب فيه الحصباء الصغار فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ يقول: فستعلمون أيها الكفرة كيف عاقبة نذيري لكم, إذ كذبتم به, ورددتموه على رسولي.


 قال القاضي ابو بكر بن العربي المالكي في العارضة قوله في السماء اخبار كما تقدم عن غاية الرفعة ومنتهى الجلالة لا عن محل استقر فيه قال :  بلغنا السماء مجدنا وحدودنا     وانا لنرجو فوق ذلك مظهرا                                                                         


ولم يحل بالسماء ولكنه اراد ما ذكرناه أ.هـ




وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ : أَمِنْتُمْ مَنْ فَوْق السَّمَاء ; كَقَوْلِهِ : " فَسِيحُوا فِي الْأَرْض " [ التَّوْبَة : 2 ] أَيْ فَوْقهَا لَا بِالْمُمَاسَّةِ وَالتَّحَيُّز لَكِنْ بِالْقَهْرِ وَالتَّدْبِير . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَمِنْتُمْ مَنْ عَلَى السَّمَاء ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوع النَّخْل " [ طَه : 71 ] أَيْ عَلَيْهَا . وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مُدِيرهَا وَمَالِكهَا ; كَمَا يُقَال : فُلَان عَلَى الْعِرَاق وَالْحِجَاز ; أَيْ وَالِيهَا وَأَمِيرهَا . وَالْأَخْبَار فِي هَذَا الْبَاب كَثِيرَة صَحِيحَة مُنْتَشِرَة , مُشِيرَة إِلَى الْعُلُوّ ; لَا يَدْفَعهَا إِلَّا مُلْحِد أَوْ جَاهِل مُعَانِد . وَالْمُرَاد بِهَا تَوْقِيره وَتَنْزِيهه عَنْ السُّفْل وَالتَّحْت . وَوَصْفه بِالْعُلُوِّ وَالْعَظَمَة لَا بِالْأَمَاكِنِ وَالْجِهَات وَالْحُدُود لِأَنَّهَا صِفَات الْأَجْسَام . وَإِنَّمَا تُرْفَع الْأَيْدِي بِالدُّعَاءِ إِلَى السَّمَاء لِأَنَّ السَّمَاء مَهْبِط الْوَحْي , وَمَنْزِل الْقَطْر , وَمَحَلّ الْقُدْس , وَمَعْدِن الْمُطَهَّرِينَ مِنْ الْمَلَائِكَة , وَإِلَيْهَا تُرْفَع أَعْمَال الْعِبَاد , وَفَوْقهَا عَرْشه وَجَنَّته ; كَمَا جَعَلَ اللَّه الْكَعْبَة قِبْلَة لِلدُّعَاءِ وَالصَّلَاة , وَلِأَنَّهُ خَلَقَ الْأَمْكِنَة وَهُوَ غَيْر مُحْتَاج إِلَيْهَا , وَكَانَ فِي أَزَلِهِ قَبْل خَلْق الْمَكَان وَالزَّمَان . وَلَا مَكَان لَهُ وَلَا زَمَان . وَهُوَ الْآن عَلَى مَا عَلَيْهِ كَان. َ .انتهى



اعلم أرشدنا الله وإياك، أن الله تبارك وتعالى خلق السماء وجعلها مسكنا للملائكة. هذا “تفسير البحر المحيط” للإمام أبي حيان الأندلسي الذي توفي سنة 745هـ.



في الكتاب طبع دار الكتب العلمية الطبعة الأولى سنة 1422هـ، في الصحيفة 296 يفسر قول الله تبارك وتعالى : (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء). فيقول : “من في السماء هذا مجاز وقد قام البرهان العقلي على أنه تعالى ليس بمتحيز في جهة ثم قال : لكن خص السماء بالذكر لأنها مسكن ملائكته” ثم قال : “وقيل جبريل وهو الملك الموكل بالخسف وغيره وقيل « من » بمعنى علا والمراد بالعلو القهر والقدرة لا بالمكان“.اهـ.



كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان. سبحان الذي يغير ولا يتغير. هذا كتاب "صحيح مسلم" بشرح الإمام النووي الدمشقي الشافعي المتوفى 677هـ. في الجزء الخامس طبع دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية سنة 1424هـ في الصحيفة 22 يقول النووي: "قال القاضي عياض: لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء). ونحوه ليست على ظاهرها بل متأوَّلة عند جميعهم". والله تعالى أعلم وأحكم.




في كتاب "تفسير القرطبي" للإمام أبي عبد الله القرطبي الذي توفي سنة 671هـ. هذا المجلد هو المجلد التاسع، الجزء الثامن عشر، طبع دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية سنة 1424هـ. في الصحيفة 141 هذا الإمام يفسر قول الله سبحانه وتعالى : (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء). فيقول : "قيل هو إشارة إلى الملائكة، وقيل إلى جبريل وهو الملك الموكل بالعذاب. قلت : ويحتمل أن يكون المعنى خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون". انتهى كلام القرطبي، وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة، والحمد لله رب العالمين.



الحديث: ارحموا أهل الأرض يرحمْكُم أهلُ السّماءِ




 بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،

الحديث الذي رواه الترمذي : "الراحِمونَ يرحمهم الرحمنُ ارْحموا مَنْ في الأرض يرحمكم من في السماء"، مفسَّر بالرواية الأخرى لهذا الحديث " ارحموا أهل الأرض يرحمْكُم أهلُ السّماءِ "  رواه الإمام أحمد وصححه الحاكم(بشواهده).


 فهذه الروايةُ تُفسِّرُ الروايةَ الأولى لأنَّ خير ما يُفسر به الحديث الواردُ بالواردِ كما قال الحافظ العراقي في ألفيته: وخيرُ ما فسرته بالوارد.


 ثم المرادُ بأهل السماء الملائكة، ذكر ذلك الحافظ العراقي في أماليهِ عقيبَ هذا الحديث، ونص عبارته: واستدلَّ بقوله: "أهل السماء" على أنَّ المرادَ بقوله تعالى في الآيةِ: {ءأمِنتُم مَن في السماء} الملائكة" اهـ، لأنه لا يقال لله "أهل السماء".


و"مَنْ" تصلحُ للمُفردِ وللجمعِ فلا حجةَ للمجسمة في الآية، ويقال مثلُ ذلك في الآيةِ التي تليها وهي: {أم أمِنتُم من في السماءِ أن يُرسِلَ عليكُم حاصِبًا} فـ"من" في هذه الآية أيضًا أهل السماء، فإن الله يسلطُ على الكفار الملائكة إذا أرادَ أن يُحِلّ عليهم عقوبتَه في الدنيا كما أنهم في الآخرة هم الموكلون بتسليطِ العقوبة على الكفار لأنهم خزنةُ جهنم وهم يجرُّونَ عنقًا من جهنم إلى الموقفِ ليرتاعَ الكفارُ برؤيته.


وتلك الروايةُ التي أوردها الحافظ العراقي في أماليهِ هكذا لفظها: "الراحمون يرحمهم الرحيمُ ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء". وإسنادها حسن ، ولا يجوز أن يقال عن الله أهل السماء فتُحمَلُ روايةُ "من في السماء" على أن المراد بها أهلُ السماء أي الملائكة، وكذلك يُحملُ قوله تعالى: {ءَأمِنتُم من في السماءِ أن يخسِفَ بكُمُ الأرضَ} [سورة الملك/16] على الملائكة، ومعروفٌ في النحوِ إفرادُ ضميرِ الجمع، قال الله تعالى: {ومنهُم مَّن يَستَمِعُ إليكَ} [سورة الأنعام/25] وقال تعالى: {ومنهم من يستمعونَ إليك} [سورة يونس/42] وقال تعالى: {ومنهم من ينظرُ إليك} [سورة يونس/43].


وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "ارحموا من في الأرض" معناه بإرشادهم إلى الخير بتعليمهم أمور الدين الضرورية التي هي سببٌ لإنقاذهم من النار وبإطعامِ جائِعِهم وكِسوةِ عاريهم ونحو ذلك. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "يرحمكم أهل السماء"، فأهلُ السماء هم الملائكة وهم يرحمون من في الأرض أي أن الله يأمُرُهم بأن يستغفروا للمؤمنين، كما قال تعالى :" [وَالمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] {الشُّورى:5}، وقال سبحانه: [الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ] {غافر:7} ، ويُنـزلون لهم المطر وينفحونهم بنفحاتِ خيرٍ ويُمِدونهم بمدد خيرٍ وبركة، ويحفظونهم على حسبِ ما يأمرهم الله تعالى.


قال العلامة السندي ( ت 1138 هـ) في حاشيته على مسند أحمد (ج4/297) : (يَرْحَمْكُمْ) بالجزم على جواب الأمر، ويمكن الرفع على الاستئناف بمنـزلة التعليل على معنى: يرحمكم إن رحمتم، (أَهْلُ السَّمَاءِ) أي: سكان السماء من الملائكة الكرام، ورحمتهم بالاستغفار لهم وللدعاء، وتفسيره بالله بعيد " اهـ


وقال الإمام النووي (ت 676): قال القاضي عياض المالكي (ت544): لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدِّثهم ومتكلِّمهم ونظَّارهم ومقلِّدهم أنَّ الظَّواهر الواردة بذكر الله في السَّماء كقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16] ونحوه ليست على ظاهرها بل متأوّلة عند جميعهم اهـ ذكره في كتابه شرح صحيح مسلم ، الجزء الخامس في الصحيفة 22.


قال الإمام القرطبي ( ت671): في تفسيره في قول الله تعالى: " أأمنتم من في السماء ": وقيل: هو إشارة إلى الملائكة. وقيل: إلى جبريل وهو الملك الموكل بالعذاب. قلت: ويحتمل أن يكون المعنى: أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون. اهـ ثم قال : والمراد بها توقيره وتنـزيهه عن السفل والتحت. ووصفه بالعلو والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود لأنها صفات الأجسام. وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء لأن السماء مهبط الوحي، ومنـزل القطر، ومحل القدس، ومعدن المطهرين من الملائكة، وإليها ترفع أعمال العباد، وفوقها عرشه وجنته كما جعل الله الكعبة قبلة للدعاء والصلاة، ولأنه خلق الأمكنة وهو غير محتاج إليها، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان. ولا مكان له ولا زمان. وهو الآن على ما عليه كان" اهـ.  انظر كتاب تفسير القرطبي المجلد 9 الجزء 18 صحيفة 141.


قال الإمام الرَّازيُّ ( ت604) : واعلم أن المشبهة احتجوا على إثبات المكان لله تعالى بقوله: { ءامِنتم مَّن فِى ٱلسَّمَاء } ، والجواب عنه أن هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين، لأن كونه في السماء يقتضي كون السماء محيطاً به من جميع الجوانب، فيكون أصغر من السماء، والسماء أصغر من العرش بكثير، فيلزم أن يكون الله تعالى شيئاً حقيراً بالنسبة إلى العرش، وذلك باتفاق أهل الإسلام محال، ولأنه تعالى قال: { قُل لّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ قُل لِلَّهِ }[الأنعام: 12] فلو كان الله في السماء لوجب أن يكون مالكاً لنفسه وهذا محال، فعلمنا أن هذه الآية يجب صرفها عن ظاهرها إلى التأويل ".  انظر كتاب التفسير الكبير( ج15 جزء30 ص61).


وقال أيضا في كتابه التفسير الكبير المجلد 13 الجزء 25 الصحيفة رقم 194: " ولو تدبر الإنسان القرءان لوجده مملوء من عدم جواز كونه في مكان" اهـ.


ويردُّ على المجسمة بإيراد الآية: {ونُفِخَ في الصورِ فَصَعِقَ مَن في السمواتِ ومن في الأرضِ إلا من شاء الله} [سورة الزمر/68] فيقال لهم: هل تزعمون أن الله يُصعق، وكذا يُردُّ عليهم بإيراد الآية: {يومَ نَطوي السماءَ كطيِّ السِّجِلِّ للكُتُبِ} [سورة الأنبياء/104].


ثمَّ لو كانَ الله ساكنَ السماءِ كما يزعمُ المجسمة لكانَ الله يزاحِمُ الملائكةَ وهذا مُحال، فقد ثبتَ في الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن ماجه والبزار من حديث أبي ذر مرفوعا " أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وعليه ملك ساجد " الحديث، وفي الحديث الذي أخرجه الطبراني من حديث جابر مرفوعا " ما في السموات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد " وللطبراني نحوه من حديث عائشة. وفيه دليلٌ على أنه يستحيل على الله أن يكونَ ساكنَ السماءِ وإلا لكانَ مساويًا للملائكةِ مزاحِمًا لهم.


فائدة : كِلاَ اللَّفْظَيْنِ (أَهْلُ السَّمَاءِ ، مَنْ فِي السَّمَاءِ) مَحْفُوظَانِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ أَبِي قَابُوسَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، مَرْفُوعًا .


فَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ -أَيْ سُفْيَانَ- بِلَفْظِ (أَهْلُ السَّمَاءِ) ، وَ هُمْ :


1- أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ .


2- عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ .


3- عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ .


4- مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ .


5- عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ .


6- إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الطَّالْقَانِيُّ .


7- مُحْمُودُ بْنُ آَدَمَ .


وَ رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ أَيْضًا بِلَفْظِ (مَنْ فِي السَّمَاءِ) ، وَ هُمْ :


1- أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ .


2- عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ .


3- مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيُّ .


4- عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْحَكَمِ .


5- مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْقُرَشِيُّ .


6- خَالِدُ بْنُ نِزَارٍ .


وهذَا الحدِيثُ يُسمَّى ((المُسَلسَلُ بِالأوَّلِـيَّةِ))، وهُو حديثٌ درجَ المُحدِّثون عَلَى الافْتِتاحِ بِهِ فِي سَمَاعِهِم وإسْمَاعِهِم لِمَا فِيهِ مِنْ تَسَلْسُلِ الأوَّلِـيَّة.  وقد لَهجَتْ به ألسِنةُ المُحدِّثينَ (بِشَرْطِهِ) فافتتحُوا به مَجالِسَ التَّحدِيثِ والأمَالِي، وضمَّنُوه مَسمُوعَاتِهم وإجَازاتِهِم، بل صنَّفوا فيه المُصنفَات الكثِيرة، ونظمُوا فيه الأشْعَار الطَّريفة، واستخرجُوا منه الكثير من الفَوائد الإسناديَّة والمتنيَّة.


ومعنى مسلسل بالأولية أن يقول الراوى حدثنا فلان وهو أول حديث سمعته منه قال حدثنا فلان وهو أول حديث سمعته منه..إلى ءاخره.


وقد قال الحافِظُ ابن ناصرالدِّين الدِّمشقِيُّ في كتابِهِ ((مجالِسُ في تفسِير قول اللَّه تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِم)): ((هذا الحديثُ له ألقابٌ بحسَبِ الوجُوه الَّتي روينَاهُ منْهَا، فهُو حديثٌ صحيحٌ، حسنٌ، فردٌ، مُسلسلٌ من وجهين، مُعلٌّ من وجوهٍ، مُختلَفٌ في إسنادِهِ من وجُوهٍ، مرفُوعٌ، موقُوفٌ من وجْهٍ، مُنقطِعٌ على قولٍ مرجُوحٍ، مُعنعنٌ )).


وقال في موضعٍ آخر : ((هذا الحديث له ألقابٌ بحسَبِ طُرقِهِ الَّتي رويناها منه، فهو حديثٌ صحيحٌ، وحسنٌ، وضعيفُ الإسناد من وجه، وفردٌ، ومُعلٌّ من وجوهٍ، ومرفُوعٌ، وموقُوفٌ من وجْهٍ، ومُسلسلٌ بالأوَّليةِ: مقطُوعُ التسلسُلِ، وموصُول التسلسُلِ من غير انقطاعٍ، كما رويناهُ، ومُعنعنٌ، لقولِ سُفيانَ فيه: عن عمرِو بن دينار، عن أبي قابوسَ، عن عبداللَّه بن عَمرٍو)).




وقد قال الحافظ محمد بن علي بن طولون في "الاربعون في فضل الرحمة والراحمين "وبسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: "الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء وفي رواية ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء "، ورواه  بلفظ يرحمكم أهل السماء , الإمام عبد الله بن المبارك في مسنده والحافظ والحميدي في مسنده  و الحافظ العراقي في اماليِّهِ بلفظ "يرحمكم أهل السماء .واعلم  أنه لا يجوز ان يقال عن الله أهل السماء فتحمل رواية الترمذي في جامعه "يرحمكم من في السماء "على معنى الملائكة بدليل ما رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً: "إذا تكلّم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجرّ السلسلة على الصفا". وعند الطبراني من حديث النواس بن سمعان مرفوعا: "إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله فإذا سمع بذلك أهل السماء....الحديث وعند ابن مردويه من حديث ابن مسعود: "إذا تكلم الله بالوحي يسمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان....الحديث. وهو في الاسماء والصفات للبيهقي وخلق أفعال العباد للبخاري .



شرح حديث النزول 
الحمد لله ورضي الله عن الإمام الشافعي وأحمد وأبي حنيفة ومالك ورضي الله عن علماء أهل السنة الأجلاء. أحبابنا الكرام، هذا كتاب "شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك"، تأليف محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المصري الأزهري المالكي المتوفى سنة 1122هـ. هذا الكتاب طبع دار الحديث القاهرة سنة 1427هـ. في الصحيفة 44 يتكلم عن حديث النزول يقول: "وكذا حكى عن مالك أنه أوله بنزول رحمته وأمره أو ملائكته، كما يقال فعل الملك كذا أي أتباعه بأمره، ولو صح ذلك عن مالك لكان معناه أن الأغلب في الاستجابة ذلك الوقت، وقال البيضاوي : لما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه". اهـ. هذا ما عليه مالك وهذا ما عليه علماء أهل السنة والجماعة، وهذا والحمد لله ما نحن عليه.



-قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (ينزل ربنا إلى السماء الأولى). وفي رواية أخرى لهذا الحديث رواها الإمام النسائي في كتاب عمل اليوم والليلة، قال سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم : (ينزل ملك بأمر ربنا). وهذا معنى الحديث، وهذا مراد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا كتاب "صيد الخاطر" تأليف الإمام أبي الفرج عبد الرحمان ابن الجوزي المتوفى سنة 597 هـ، طبع دار الكتاب العربي طبعة 1424 هـ، يقول في الصحيفة 312 : "فترى أقواما يسمعون أخبار الصفات فيحملونها على ما يقتضيه الحس، كقول قائلهم ينزل بذاته إلى السماء وينتقل وهذا فهم رديء، لأن المنتقل يكون من مكان إلى مكان، ويوجب ذلك كون المكان أكبر منه ويلزم منه الحركة وكل ذلك محال على الحق عز وجل". هذا ما عليه أئمة الإسلام والحمد لله رب العالمين.


الحمْدُ للّهِ ربِّ العالَمينَ والصّلاةُ والسّلامُ على سيّدِنَا مُحَمَّد أشرَفِ المُرسَلينَ. وبعد، فقد ظهر في أيامنا هذه من ينسب نفسه إلى السلف الصالح، ويضرب القرءان بعضه ببعض، والحديث الشريف بعضه ببعض لشدة جهلهم وعمايتهم ويصفون الله بالجسمية والجهة والجلوس والانتقال نزولا بالحركة وصعودا وغير ذلك مما لا يجوز نسبته إلى الله تعالى مما هو من علامات الحدوث.


 أما السلف الصالح فقد كانوا ينفون عن الله المكان والحركة والسكون والانتقال وسائر صفات المخلوقين، وكل هذا يعطيه قول الله سبحانه وتعالى: ] ليس كمثله شيء[ [1] .


قال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي ) ت ٤٥٨ هـ( صاحب السنن [2] : يجب أن يعلم أن استواء الله سبحانه وتعالى، ليس باستواء اعتدال عن اعوجاج، ولا استقرار في مكان، ولا مماسة لشيء من خلقه، لكنه مستو على عرشه كما أخبر بلا كيف بلا أين، بائن من جميع خلقه، وأن إتيانه ليس بإتيان من مكان إلى مكان، وأن مجيئه ليس بحركة، وأن نزوله ليس بنقلة، وأن نفسه ليس بجسم، ووأن وجهه ليس بصورة، وأن يده ليست بجارحة، وأن عينه ليست بحدقة، وإنما هذه أوصاف جاء بها التوقيف فقلنا بها، ونفينا عنها التكييف، فقد قال: ]ليس كمثله شيء[ وقال ]ولم يكن له كفوا أحد[ وقال ]هل تعلم له سميا[. ا.هـ.


وأما حديث النزول الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما، ولفظ البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وأبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة رضي الله عنه رسول الله قال: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له)) [3] ، فلا يجوز أن يحمل على ظاهره لإثبات النزول من علو إلى سفل في حق الله تعالى.


قال النووي في شرحه على صحيح مسلم [4] : "هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيه مذهبان مشهوران للعلماء: أحدهما وهو مذهب السلف وبعض المتكلمين أنه يؤمن بأنها حق على ما يليق بالله تعالى وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد، ولا يتكلم في تأويلها مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن صفات المخلوق وعن الانتقال والحركات وسائر سمات الخلق، والثاني مذهب أكثر المتكلمين وجماعات من السلف وهو محكي هنا عن مالك والأوزاعي على أنها تتأول على ما يليق بها بحسب مواطنها، فعلى هذا تأولوا هذا الحديث تأويلين أحدهما: تأويل مالك بن أنس وغيره، معناه تنزل رحمته وأمره وملائكته، كما يقال فعل السلطان كذا إذا فعله أتباعه بأمره، والثاني: أنه على الاستعارة ومعناه الإقبال على الداعين بالإجابة واللطف." انتهى كلام النووي.


ويبطل ما ذهبت إليه المشبهة من اعتقاد نزول الله بذاته إلى السماء الدنيا أن بعض رواة البخاري ضبطوا كلمة )يُنزِل( بضم الياء وكسر الزاي، فيكون المعنى نزول المَلَك بأمر الله الذي صرح به في رواية النسائي من حديث أبي هريرة وأبي سعيد من أن الله يأمر ملكا بأن ينزل فينادي، فتبين أن المشبهة ليس لها حجة في هذا الحديث.


وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه على البخاري [5] "وقال ابن العربي النزول راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته بل ذلك عبارة عن مَلَكه الذي ينزل بأمره ونهيه." ثم قال: "والحاصل أنه تأوله بوجهين: إما بأن المعنى ينزل أمره أو الملك بأمره، وإما بأنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحوه. وحكى ابن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي يُنزِل ملَكا قال الحافظ ويقويه ما رواه النسائي  من طريق الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد )) أن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب له((  الحديث، وحديث عثمان بن أبي العاص عند أحمد )) ينادي مناد هل من داع يستجاب له((  الحديث، قال القرطبي وبهذا يرتفع الإشكال…


 وقال البيضاوي: ولما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه، فالمراد نور رحمته." انتهى كلام الحافظ ابن حجر.    


وفي شرحه على موطإ الإمام مالك [6] نقل الزرقاني ما نقله ابن حجر عن ابن العربي وابن فورك وزاد ما نصه: "وكذا حكى عن مالك أنه أوله بنزول رحمته وأمره أو ملائكته كما يقال فعل الملِك كذا أي أتباعه بأمره." انتهى كلام الزرقاني.


قال رئيس القضاة الشافعية في مصر في زمانه بدر الدين بن جماعة )ت ٧٢٧ هـ( في كتابه "إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل" [7] ما نصه: " اعلم أن النزول الذي هو الانتقال من علو إلى سفل لا يجوز حمل الحديث عليه، لوجوه:


الأول: النزول من صفات الأجسام والمحدَثات ويحتاج إلى ثلاثة: منتقِل، ومنتقَل عنه ومنتقَل إليه، وذلك على الله تعالى محال.


الثاني: لو كان النزول لذاته حقيقة لتجددت له في كل يوم وليلة حركات عديدة تستوعب الليل كله، وتنقلات كثيرة، لأن ثلث الليل يتجدد على أهل الأرض مع اللحظات شيئا فشيئا، فيلزم انتقاله في السماء الدنيا ليلا نهارا، من قوم إلى قوم، وعوده إلى العرش في كل لحظة على قولهم، ونزوله فيها إلى سماء الدنيا، ولا يقول ذلك ذو لب وتحصيل.


الثالث، أن القائل بأنه فوق العرش، وأنه ملأه كيف تسعه سماء الدنيا، وهي بالنسبة إلى العرش كحلقة في فلاة، فيلزم عليه أحد أمرين: إما اتساع سماء الدنيا كل ساعة حتى تسعه، أو تضاؤل الذات المقدس عن ذلك حتى تسعه، ونحن نقطع بانتفاء الأمرين." انتهى كلام ابن جماعة.


وقال الحافظ المتبحر عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي في كتابه "الباز الأشهب" [8] بعد ذكر حديث النزول ما نصه: "إنه يستحيل على الله عزَّ وجلَّ الحركة والنقلة والتغيير. وواجب على الخلق اعتقاد التنزيه وامتناع تجويز النقلة وأن النزول الذي هو انتقال من مكان إلى مكان يفتقر إلى ثلاثة أجسام جسم عال وهو مكان الساكن وجسم سافل وجسم ينتقل من علو إلى أسفل وهذا لا يجوز على الله قطعا".


وقال أبو بكر بن العربي المالكي في شرحه على الترمذي [9] ما نصه: "ثم إن الذي يتشبث بظاهر ما جاء في حديث النزول في الرواية المشهورة أن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول هل من داع فأستجيب له من الثلث الأخير إلى الفجر، هو جاهل بأساليب اللغة العربية، وليس له مهرب من المحال الشنيع كما نص عليه الخطابي، ويلزم على ما ذهب إليه من التشبث بالظاهر أن يكون معنى قوله تعالى: ]وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة[ أن ءادم وحواء التي لم تكن نبية قط سمعا كلام الله الذاتي الذي ليس بحرف ولا صوت مساويين لموسى على زعم المشبهة المتمسكين بالظواهر، فلو كان الأمر كذلك لم يبق لنبي الله موسى مزية، وذلك أن الله عزَّ وجلَّ قال: ]وكلم الله موسى تكليما[  فخص موسى بوصف كليم الله"


وقال القسطلاني في شرحه على البخاري عند ذكره لهذا الحديث [10] : "هو نزول رحمة ومزيد لطفٍ وإجابة دعوة وقبول معذرة، لا نزول حركة وانتقال لاستحالة ذلك على الله فهو نزول معنوي" ثم قال "نعم يجوز حمله على الحسي ويكون راجعا إلى ملَكه الذي ينزل بأمره ونهيه"


وروى البيهقي بإسناده عن الإمام إسحاق بن راهويه وهو من أئمة السلف أنه قال [11] : "سألني ابن طاهر عن حديث النبي e -يعني في النزول- فقلت له النزول بلا كيف"


وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي ) ت ٤٥٨ هـ( صاحب السنن في كتابه "الأسماء والصفات" عند ذكر هذا الحديث [12] : " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال سمعت أبا محمد أحمد بن عبد الله المزني يقول: حديث النزول قد ثبت عن رسول الله e من وجوه صحيحة وورد في التنزيل ما يصدقه وهو قوله تعالى: ]وجاء ربُّك[ والنزول والمجيء صفتان منفيتان عن الله تعالى من طريق الحركة والانتقال من حال إلى حال، بل هما صفتان من صفات الله تعالى بلا تشبيه، جل الله تعالى عما تقوله المعطلة لصفاته والمشبهة بها علوا كبيرا. قلت: وكان أبو سليمان الخطابي رحمه الله يقول: إنما ينكر هذا وما أشبهه من الحديث من يقيس الأمور في ذلك بما يشاهده من النزول الذي هو تدل من أعلى إلى أسفل وانتقال من فوق إلى تحت وهذه صفة الأجسام والأشباح، فأما نزول من لا تستولي عليه صفات الأجسام فإن هذه المعاني غير متوهمة فيه وإنما هو خبر عن قدرته ورأفته بعباده وعطفه عليهم واستجابته دعاءهم ومغفرته لهم يفعل ما يشاء لا يتوجه على صفاته كيفية ولا على أفعاله كمية سبحانه ليس كمثله شىء وهو السميع البصير" انتهى كلام البيهقي.


وقال القاضي أبو بكر محمد الباقلاني المالكي الأشعري )ت ٤٠٣ هـ( ما نصه [13] : "ويجب أن يعلم أن كل ما يدل على الحدوث أو على سمة النقص فالرب تعالى يتقدس عنه، فمن ذلك: أنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات، والاتصاف بصفات المحدثات، وكذلك لا يوصف بالتحول والانتقال، ولا القيام ولا القعود، لقوله تعالى: ]ليس كمثله شيء[ وقوله: ]ولم يكن له كفوا أحد[ ولأن هذه الصفات تدل على الحدوث، والله تعالى يتقدس عن ذلك". ا.هـ.


وقال المفسر محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المالكي )ت ٦٧١ هـ( في تفسيره ما نصه [14] : "والله جل ثناؤه لا يوصف بالتحول من مكان إلى مكان، وأنى له التحول والانتقال ولا مكان له ولا أوان، ولا يجري عليه وقت ولا زمان، لأن في جريان الوقت على الشىء فوت الأوقات، ومن فاته شيء فهو عاجز".



[1] سورة الشورى / ١١


[2] الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، البيهقي – علم الكتب، بيروت – ص ٧٢


[3] رواه البخاري في صحيحه كتاب الصلاة: باب الدعاء والصلاة من ءاخر الليل. ورواه مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين وقصرها: باب الترغيب في الدعاء والذكر في ءاخر الليل والإجابة فيه.


[4] شرح صحيح مسلم، الإمام النووي – المجلد السادس، ص ٣٦ -


[5] فتح البارئ شرح صحيح البخاري – المجلد الثالث – كتاب الصلاة: باب الدعاء والصلاة من ءاخر الليل.


[6] شرح الزرقاني على موطإ الإمام مالك، الزرقاني - دار الجيل، بيروت - المجلد الثاني، ص ٣٤.


[7] إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل، ابن جماعة – دار السلام ١٤١٠ هـ - ص ١٦٤.


[8]


[9] عارضة الأحوذي بشرح سنن الترمذي، ابن العربي – دار الفكر، بيروت – المجلد الثاني، ص ٢٣٥.


[10] شرح صحيح البخاري، القسطلاني – المجلد الثاني، ص ٣٢٣.


[11] الأسماء والصفات – البيهقي – طبعة دار الكتب العلمية – بيروت – ص ٥٦٨.


[12] السنن الكبرى، البيهقي – المجلد الثالث ص ٣


[13] الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به – ص ٦٤.


[14] الجامع لأحكام القرءان، القرطبي – سورة الفجر



تفسير اية الاستواء



الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله



تَفسِيرُ الآيةِ: ﴿ الرحمن على العرش استوى﴾[5 سورة طه] .


يَجِبُ أن يكونَ تفسيرُ هذه الآية بغيرِ الاستِقرارِ والجلوسِ ونحوِ ذلكَ ويَكفُر من يعتَقِدُ ذَلِكَ .
فالذي يعتقدُ أن معنى قولِ الله تعالى: ﴿ الرحمن على العرش استوى) (5) ﴾ جَلَسَ أو استقرَ أو حاذَى العرشَ يَكفُر.


لذا يَجِبُ تَركُ الحَملِ على الَظاهِر بَل يُحَملُ على مَحْملٍ مُستَقيمٍ في العُقُول ،ِ فتُحمَلُ لفظَةُ الاستِواءِ على القَهرِ ، ففي لُغَةِ العَرَبِ يُقالُ : استَوى فُلانٌ على المَمَالِكِ إذا احتَوَى على مَقَالِيدِ المُلكِ واستَعلى على الرقَابِ. ومعنى (( واستعلى على الرقَابِ )) اي استولى على الأشخاصِ اي على أهل البلد ِ.
كَقَوْلِ الشَّاعِرِ : قَد اسْتَوَى بِشْرٌ علَى العِراقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْراقِ


( مهراق) تُلفظ القافُ المكسورة وكأَنَّ في ءاخرِها ياءً ولو لم تكن الياءُ مكتوبةً ، والمعنى أنه سَيطَرَ على العراقِ ومَلَكَهَا من غير حَربٍ وإراقَةِ دِمَاءٍ .



فتفسير ءاية الاستواءَ:


1- إما أن تُأوّل تأويلاً إجماليًّا فيُقَالُ: اسْتَوَى اسْتِوَاءً يَعْلَمُهُ هُوَ مَع تَنزِيْهِهِ عن اسْتِواءِ المخْلُوقِيْنَ كَالجُلوسِ والاسْتِقرارٍ


أو يقال : ﴿ الرحمن على العرش استوى ﴾ بلا كيف ٍ.


2- وإما أن تُأوّل تأويلاً تفصيليَا فيُقَالُ: (استوى) اي قَهَرَ ، ويجوزُ أن يقولَ استولى .
فمَن شَاءَ قال: استوى استواءً يليقُ بهِ من غير أن يُفَسّرَهُ بالقهرِ أو نحوهِ فيكونُ أوَّل تأويلاً إجماليًّا، ومن شَاءَ قال: استوى أي قَهَرَ فيكونُ أوَّلَ تأويلاً تفصيليًّا.



ومعنى قًَهْر الله للعرشِ الذي هو أعظمُ المخلوقاتِ : أن العرشَ تحت تصرُّف الله هو خلقَهُ وهو يحفظهُ ، يحفظُ عليهِ وجودهُ ولولا حفظُ الله تعالى له لهَوى إلى الأسفلِ فتحطَّمَ ، فالله تعالى هو أوجدَهُ ثم هو حفظهُ وأبقاهُ ، هذا معنى قَهَرَ العرشَ ، هو سبحانَهُ قاهرُ العالم كلّه ، هذه الشّمسُ والقمرُ والنّجومُ لولا أن الله يحفظُها على هذا النّظامِ الذي هي قائمةٌ عليه لكانت تهاوَت وحطَّم بعضُها بعضًا واختلَّ نظامُ العالمِ .


والإنسانُ قهرَهُ الله بالموتِ ، أيُّ مَلِكٍ وأيُّ إنسانٍ رُزِقَ عمرًا طويلاً لا يملكُ لنفسِهِ أن يحميَ نفسَهُ من الموتِ فلا بدَّ أن يموتَ .


وليُعلَم أن الاستواءَ في لغةِ العربِ له خمسة عشرَ معنًى كما قالَ الحافظُ أبو بكر بن العربيّ ومن معانيهِ : الاستقرارُ والتَّمامُ والاعتدَال والاستعلاءُ والعلوُّ والاستيلاءُ وغير ذلك ، ثم هذه المعاني بعضُها تليقُ بالله وبعصُها لا تليقُ بالله . فما كان من صفات الأجسام فلا يليق بالله .


يقولُ حسن البنّا رحمه الله تعالى في كتابِ العقائدِ الإسلاميَّةِ : ( السَّلفُ والخلفُ ليس بينهم خلافٌ على أنه لا يجوزُ حملُ ءايةِ الاستواءِ على المعنى المتبادرِ ) وهذا الكلام من جواهِرِ العلمِ .


فإن قالَ الوهَّابيُّ : ﴿ الرحمن على العرش استوى ﴾[طه 5 ] ( على ) أي فوق ، يقالُ لهم : ماذا تقولونَ في قولِهِ تعالى : ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [ سورة المجادلة 10 ] ؟ هل يفهمونَ من هذه الآية أن العبادَ فوق الله ؟


فإن ( على ) تأتي لعلوّ القدرِ وللعلوّ الحِسّيّ ، وقد قالَ الله تعالى مُخبرًا عن فرعون أنه قال : ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [ سورة النازعات24 ] أرادَ علوَّ القهرِ بقولِِهِ : ﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ .


وقد ذَكَرَ الإمامُ أبو منصورٍ الماتريديُّ في تأويلاتِهِ في قولِهِ تعالى ﴿ ثُمَّ استوى على العرش ) [ سورة الأعراف 54] يقولُ : ( أي وقد استوى ) ، ومعناهُ أنَّ الله كانَ مستويًا على العرشِ قبلَ وجودِ السمواتِ والأرضِ ، وبعضُ الناس يتوهَّم من كلمة ( ثم ) أن الله استوى على العرشِ بعد أن لم يكن يظنُّونَ أن ثُمَّ دائمًا للتأخُّر ، ويصحُّ في اللُّغة أن يقالَ أنا أعطيتُكَ يوم كذا كذا وكذا ثم إني أعطيتُكَ قبلَ ذلك كذا وكذا ، فإن ( ثم ) ليست دائمًا للتَّأخُّرِ في الزَّمن ، أحيانًا تأتي لذلكَ وأحيانًا تأتي لغيرِ ذلك ، قال الشَّاعر :



إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أبُوهُ ثُمّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ


ويُروى عن أمّ سلمةَ إحدى زوجاتِ الرّسولِ ويروى عن سفيانَ بنِ عيينةَ ويروى عن مالكِ بن أنسٍ أنهم فسَّروا استواء الله على عرشِهِ بقولهم : الاستواءُ معلومٌ ولا يقالُ كيفٌ والكيفُ غيرُ معقولٍ .


ومعنى قولهم : ( الاستواء معلومٌ ) معناهُ معلومٌ ورودُهُ في القرءانِ أي بأنه مستوٍ على عرشِهِ استواءً يليقُ به . ومعنى : ( والكيفُ غير معقولٍ ) أي الشَّكلُ والهيئةُ والجلوسُ والاستقرارُ هذا غير معقولٍ أي لا يقبلُهُ العقلُ ولا يجوزُ على الله لأنها من صفات الأجسام .


وسُئِلَ الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه عن الاستواء فقال : ( استوى كما أخبَرَ لا كما يَخطُرُ للبشرِ) .


وقد ثبَت عن الإمامِ مالكٍ بإسنادٍ قويّ جيدٍ أنه قال في استواء الله : ( استوى كما وَصَفَ نفسَهُ ولا يقالُ كيف وكيف عنه مرفوعٌ ) ، ولا يصحُّ عن مالكٍ ولا عن غيرِهِ من السلفِ أنه قال الاستواءُ معلومٌ والكيفيةُ مجهولةٌ، فهذه العبارةُ لم تَثبُت من حيثُ الإسنادُ عن أحدٍ من السلفِ ، وهي موهِمَةٌ معنًى فاسدًا وهو أن استواءَ الله على العرشِ هو استواءٌ له هيئةٌ وشكلٌ لكن نحنُ لا نعلمُهُ وهذا خلافُ مرادِ السلفِ بقولهم : ( والكيفُ غيرُ معقول ) . وهذه الكلمةُ قالها بعض الأشاعرة مع تنزيهِهِم لله عن الجسميةِ والتحيزِ في المكان والجهةِ وهي كثيرةُ الدورانِ على ألسنةِ المشبهةِ والوهابيةِ لأنهم يعتقدونَ أن المرادَ بالاستواءِ الجلوسُ والاستقرارُ أي عند أغلبِهم وعندَ بعضِهم المحاذاةُ فوق العرش من غير مماسة ، ولا يدرونَ أن هذا هو الكيفُ المنفيُّ عن الله عند السلفِ


ولا يُغْتَرُّ بوجودِ هذه العبارةِ في كتابِ إحياء علومِ الدينِ ونحوهِ ولا يريدُ مؤلفُهُ الغزاليُّ ما تفهمُهُ المشبهةُ لأنه مُصَرّحٌ في كتبِهِ بأن الله منزهٌ عن الجسميةِ والتحيزِ في المكانِ وعن الحَدّ والمقدارِ لأن الحدَّ والمقدارَ من صفاتِ المخلوقِ قال الله تعالى :﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَار ﴾ [ سورة الرعد 8] . فالتحيز في المكان والجهة من صفات الحجم والله ليس حجمًا .
وما يوجد في بعض كتب الأشاعرة من هذه العبارة [الاستواء معلوم والكيفية مجهولة] غلطة لا أساس لها عن السلف لا عن مالك ولا عن غيره وهي شنيعة لأنها يفهم منها المشبه الوهابيّ وغيره أن الاستواء كيفٌ لكن لا نعلمه مجهول عندنا . وأما من أوردها من الأشاعرة فلا يفهمون هذا المعنى بل يفهمون أن حقيقة الاستواء غير معلوم للخلق فالوهابية تقصد بها ما يناسب معتقدها من أن الله حجم له حيّز .


والعجب منهم كيف يقولون إنّ الاستواء على العرش حسيّ ثم يصفونه بالكون مجهولا . ولعلهم يريدون بهذا هل هو قعود على شكل تربيع أم على شكل ءاخر.



فإن قيلَ : لماذا قالَ الله تعالى بأنه استوى على العرشِ على حَسَبِ تفسيرِكم بمعنى قَهَر وهو قَاهرُ كلّ شئٍ ؟


نقول لهم : أليسَ قال : ﴿ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [ سورة التوبة 129 ] مع أنه ربُُّ كلّ شئٍ؟!
وفَائِدَةِ تَخْصِيص العَرْشِ بالذّكْرِ أنَّهُ أعْظَمُ مَخلُوقَاتِ الله تَعَالى حجمًا فيُعْلَمُ شُمُولُ ما دُوْنَه مِنْ بَابِ الأَوْلَى .


قَالَ الإمَامُ عَلِيٌّ : ( إنَّ الله تَعَالى خَلَقَ العَرْشَ إِظْهَارًا لقُدْرَتِهِ ، ولمْ يَتّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ ). رواهُ الإمامُ المحدثُ الفقيهُ اللغويُّ أبو منصورٍ التميميُّ في كتابهِ التبصرة .


فإذا قلنا : "الله تعالى قهر العرش" معناهُ قَهَرَ كلَّ شئٍ وإنما خصَّ العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات حجمًا وهو محدود لا يعلم حده إلا الله .


وبئسَ معتقدُ ابن تيمية فإنه قال : "الله محدود لكن لا يعلم حده إلا هو" اهـ فيقال لمن يقول قوله هذا قد قلت الله محدود لكن لا يعلم حده إلا هو فقد شبهته بالعرش ؛ فإنّ العرش محدود ولا يعلم حده إلا الله ، فماذا يفيد قولكم في الله إن له حدًا لكن لا يعلم حده إلا هو؟


فإن قيلَ : كيفَ تقولونَ خَلقَهُ إظهارًا لقدرتِهِ ونحنُ لا نَراهُ ؟


نقولُ : الملائكةُ الحافُّون حولَهُ يرونَهُ والملائكةُ لما ينظرونَ إلى عِظَمِ العرشِ يزدادونَ خوفًا ويزدادونَ عِلمًا بكمالِ قدرةِ الله ، لهذا خَلَقَ الله العرشَ . وقولُ سيدنا علي الذي مرّ ذكره رواهُ الإمام أبو منصورٍ البغداديُّ في كتابه التبصرة.


وليعلم أَنَّه يَجِبُ الحَذَرُ مِنْ هؤلاءِ الذينَ يُجِيزُوْنَ علَى الله القُعُودَ علَى العَرْشِ والاسْتِقْرارِ عليه مُفَسّرينَ لِقَوله تعالى : ﴿ الرحمن على العرش استوى ﴾[طه 5 ] بالجُلُوسِ أو المحاذاةِ من فوق.


و هؤلاءِ هم الوهّابيّةُ في عصرنا هذا وقَبلهم أناسٌ كانوا يعتقدونَ ذلكَ كالكرامية اسلاف هؤلاء الوهّابيّةُ ففسَّروا الآيةَ بالجلوسِ فقالوا : الله تعالى قاعدٌ على العرشِ ، هؤلاءِ يجبُ الحَذَرُ منهم .


هؤلاء يحتجون بقولهم أَنَّه لا يُعقَلُ مَوْجُودٌ إلا في مَكَانٍ ، يقولون : كيفَ يكونُ موجودٌ بلا مكانٍ ، والموجودُ لا بدَّ له من مكانٍ ، يقولون الله موجود إذًا له مكانٌ ، وحجَّتُهم هذِهِ داحضةٌ باطلةٌ ؛ لأنهُ ليسَ من شرطِ الوجودِ التحيزُ في المكانِ أليسَ الله كان موجودًا قبل المكانِ والزمانِ وكلّ ما سواهُ بشهادةِ حديثِ : ( كان الله ولم يكن شئٌ غيرُهُ ) فالمكانُ غيرُ الله والجهاتُ الحجمُ غيرُ الله فإذًا صحَّ وجودُهُ تعالى شرعًا وعقلاً قبلَ المكانِ والجهاتِ بلا مكانٍ ولا جهةٍ ، فكيفَ يستحيلُ على زعم هؤلاءِ وجودُهُ تعالى بلا مكانٍ بعد خلقِ المكانِ والجهاتِ ؟!! .


ومصيبةُ هؤلاءِ أنهم قاسوا الخالقَ على المخلوقِ ؛ قالوا : كما لا يُعقَلُ وجودُ إنسانٍ أو مَلَكٍ أو غيرِ ذلكَ من الأجسامِ بلا مكانٍ يستحيلُ وجودُ الله بلا مكانٍ فَهَلَكوا .


وزعموا أيضًا أنَّ قَوْلَ السَّلَفِ استوى بلا كَيْفٍ مُوافِقٌ لذَلِكَ وَلم يَدْرُوا أنَّ الكَيْفَ الذي نَفَاهُ السَّلَفُ هُوَ الجُلُوسُ والاسْتِقْرارُ والتّحَيُّزُ إلى المَكَانِ والمُحَاذاةُ وكلُّ الهيئاتِ من حركةٍ وسكونٍ وانفعَالٍ .


فالمحاذاةُ والجلوسُ والاستقرارُ هذا الكيفُ الذي نفاهُ السَّلفُ الذين قالوا في قوله تعالى : ﴿ الرحمن على العرش استوى ﴾ [طه 5 ] استوى بلا كيفٍ ، ومرادُهُم بقولهم بلا كيفٍ ليسَ استواءَ الجلوسِ والاستقرارِ والمحاذاةِ . المحاذاةُ معناهُ كونُ الشّئِ في مقابلِ شئٍ ، فنحنُ حينَ نكونُ تحتَ سطحٍ فنحنُ في محاذاتِهِ ، وحينَ نكونُ في الفضاءِ نكونُ في محاذاةِ السماءِ ، والسماءُ الأولى تحاذي السماءَ التي فوقَها ، والكرسيُّ يحاذي العرشَ ، والعرش يحاذي الكرسيّ من تحت ، والله تَعَالَى لا يجوزُ عليهِ أن يكونَ مضطجِعًا عليهِ ولا أن يكونَ في محاذاتِهِ ، إذ المحاذي إما أن يكونَ مساويًا للمحاذَى وإما أن يكونَ أكبر منهُ وإما أن يكونً أصغر منهُ ، وكلُّ هذا لا يصحُّ إلا للشّئ الذي له جِرمٌ ومساحةٌ والذي له جِرمٌ ومساحةٌ محتاجٌ إلى من رَكَّبَهُ ، والله منزَّهٌ عن ذلك ، سبحانه وتعالى عما يصفون علوا كبيرا





عقيدة الأئمة الأربعة في مسألة الاستواء



* ثبت عن الإمام مالك رضي الله عنه ما رواه الحافظ البيهقي في كتابه (( الأسماء والصفات ))(ص 408 ) ، بإسناد جيد كما قال الحافظ في (( الفتح )) (ج13/406-407) من طريق عبد الله بن وهب قال : كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال : يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى كيف استواؤه؟ قال: فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال : الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه ، قال : فأخرج الرجل "اهـ


فقول الإمام مالك : (( وكيف عنه مرفوع )) أي ليس استواؤه على العرش كيفًا أي هيئة كاستواء المخلوقين من جلوس ونحوه . وقوله :" أنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه"،  وذلك لأن الرجل سأله بقوله كيف استواؤه ، ولو كان الذي حصل مجرد سؤال عن معنى هذه الآية مع اعتقاد أنها لا تؤخذ على ظاهرها ما كان اعترض عليه .


وروى الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات (ص 408) من طريق يحيى بن يحيى قال :((" كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال : يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى فكيف استوى ؟ قال : فأطرق مالك رأسه حتى علاه الرحضاء ثم قال :الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا مبتدعا فأمر به أن يخرج" ، قال البيهقي : وروي في ذلك أيضا عن ربيعة بن عبد الرحمن أستاذ مالك بن أنس رضي الله عنهما )) ا هـ .


قال المحدث الشيخ سلامة العزامي– من علماء الأزهر -  (فرقان القرءان بين صفات الخالق وصفات الأكوان  ص 22): " قول مالك عن هذا الرجل (( صاحب بدعة )) لأن سؤاله عن كيفية الاستواء يدل على أنه فهم الاستواء على معناه الظاهر الحسي الذي هو من قبيل تمكن جسم على جسم واستقراره عليه وإنما شك في كيفية هذا الاستقرار. فسأل عنها وهذا هو التشبيه بعينه الذي أشار إليه الإمام بالبدعة " ا هـ.


قلنا : وهذا فيمن سأل كيف استوى فما بالكم بالذي فسره بالجلوس والقعود والاستقرار؟ ثم إن الإمام مالكا عالم المدينة وإمام دار الهجرة نجم العلماء أمير المؤمنين في الحديث رضي الله عنه ينفي عن الله الجهة كسائر أئمة الهدى ، فقد ذكر الإمام العلامة قاضي قضاة الإسكندرية ناصر الدين بن المنير المالكي من أهل القرن السابع الفقيه المفسر النحوي الأصولي الخطيب الأديب البارع في علوم كثيرة في كتابه (( المقتفى في شرف المصطفى)) لما تكلم عن الجهة وقرر نفيها ، قال : ولهذا المعنى أشار مالك رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تفضلوني على يونس بن متى" ( رواه البخاري)، فقال مالك: إنما خص يونس للتنبيه على التنـزيه لأنه صلى الله عليه وسلم رُفع إلى العرش ويونس عليه السلام هُبط على قابوس البحر ونسبتهما مع ذلك من حيث الجهة إلى الحق جل جلاله نسبة واحدة ، ولو كان الفضل بالمكان لكان عليه الصلاة والسلام أقرب من يونس بن متى وأفضل مكانا ولما نهى عن ذلك"اهـ ، ثم أخذ الفقيه ناصر الدين يبين أن الفضل بالمكانة لا بالمكان )) ا هـ.


ونقل ذلك عنه أيضا الإمام الحافظ تقي الدين السبكي الشافعي في كتابه (( السيف الصقيل )) (ص 137) والإمام الحافظ محمد مرتضى الزبيدي الحنفي في (( إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين )) (ج2/105) وغيرهما .


وأما ما يرويه سريج بن النعمان عن عبد الله بن نافع عن مالك أنه كان يقول :" الله في السماء وعلمه في كل مكان" ، فغير ثابت . قال الإمام أحمد : عبد الله بن نافع الصائغ لم يكن صاحب حديث وكان ضعيفا فيه .قال ابن عدي: يروي غرائب عن مالك ، وقال ابن فرحون : كان أصم أميا لا يكتب . وراجع ترجمة سريج وابن نافع في كتب الضعفاء، وبمثل هذا السند لا ينسب إلى مثل مالك مثل هذا .


 فبان مما ذكرناه أن ما تنسبه المشبهة للإمام مالك تقوٌّلٌ عليه بما لم يقُل .


*وسئل الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه عن الاستواء فقال : (( من قال لا أعرف الله أفي السماء هو أم في الأرض فقد كفر )) (الفقه الأبسط ص 49)، لأن هذا القول يوهم أن للحق مكانا ومن توهم أن للحق مكانا فهو مشبه . وهذا القول ثابت عن الإمام أبي حنيفة نقله من لا يحصى كالإمام ابن عبد السلام في حل الرموز والإمام تقي الدين الحصني في (( دفع شبه من شبه وتمرد )) (ص 18) والإمام أحمد الرفاعي في (( البرهان المؤيد )) (ص 24) وغيرهم .


وأما ما قاله المجسم ابن القيم في نونيته :


كذلك قال النعمان وبعده                        يعقوب والألفاظ للنعمان


من لم يقر بعرشه سبحانه                        فوق السماء وفوق كل مكان


ويقر أن الله فوق العرش لا                     يخفى عليه هواجس الأذهان


فهو الذي لا شك في تكفيره                      لله درك من إمام زمان


هو الذي في الفقه الأكبر عندهم                 وله شروح عدة لبيان


نقول : إن هذا المجسم يريد أن يروج بدعته هذه بالكذب على الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه . وهذا الفقه الأكبر بين أيدينا فليراجعه من شاء، وغير غريب أن يكذب هذا الرجل فإنه مبتدع داعية إلى بدعته غال فيها كل الغلو وكل مبتدع هذا شأنه لا يتوقى الكذب لينصر بدعته ، فهذا (( الفقه الأكبر)) (ص 30 - 31) فيه : (( والله واحد لا من طريق العدد ولكن من طريق أنه لا شريك له لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد لا يشبه شيئا من الأشياء من خلقه ولا يشبهه شئ من خلقه )) وفيه أيضا (ص 136-137): (( ويراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤوسهم بلا تشبيه ولا كيفية ولا كمية ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة )) ، وفي " الوصية" للإمام (انظر شرح الفقه الأكبر ص 138) : (( لقاء الله تعالى لأهل الجنة حق بلا كيفية ولا تشبيه ولا جهة )) ، وفي (( الوصية )) (انظر شرح الفقه الأكبر ص 70) : ((نقر بأن الله على العرش استوى من غير أن يكون له حاجة إليه واستقرار عليه وهو الحافظ للعرش وغير العرش من غير احتياج ، فلو كان محتاجا لما قدر على إيجاد العالم وتدبيره كالمخلوق ولو كان محتاجا إلى الجلوس والقرار فقبل خلق العرش أين كان الله تعالى ! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا" اهـ.


وفي (( الفقه الأبسط ))(ص 57) :" كان الله ولا مكان كان قبل أن يخلق الخلق كان ولم يكن أين ولا خلق ولا شئ وهو خالق كل شئ"اهـ


وقال أيضا : (( فمن قال لا أعرف ربي أفي السماء هو أم في الأرض فهو كافر ، كذلك من قال إنه على العرش ولا أدري العرش أفي السماء أم في الأرض)) اهـ.


وإنما كفر الإمام قائل هاتين العبارتين لأنه جعل الله مختصا بجهة وحيز وكل ما هو مختص بالجهة والتحيز فإنه محتاج محدث بالضرورة أي بلا شك، وليس مراده كما زعم المشبهة إثبات أن السماء والعرش مكان لله تعالى، بدليل كلامه السابق الصريح في نفي الجهة عن الله – وقد نقلنا ذلك-، ومن ذلك قوله : ((ولو كان محتاجا إلى الجلوس والقرار فقبل خلق العرش أين كان !)). ففي هذه إشارة من الإمام رضي الله عنه إلى إكفار من أطلق التشبيه والتحيز على الله كما قال العلامة البياضي الحنفي في (( إشارات المرام )) (ص 200) والشيخ الكوثري في ((تكملته )) (ص 180) وغيرهما .


وفي (( شرح الفقه الأكبر )) (ص 197-198) لملا علي القاري : (( وما روي عن أبي مطيع البلخي أنه سأل أبا حنيفة رحمه الله عمن قال لا أعرف ربي في السماء هو أم في الأرض ، فقال: قد كفر لأن الله تعالى يقول : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه ] ، وعرشه فوق سبع سمواته ، قلت : فإن قال إنه على العرش ولا أدري العرش أفي السماء أم في الأرض !، قال : هو كافر لأنه أنكر كونه في السماء فمن أنكر كونه في السماء فقد كفر لأن الله تعالى في أعلى عليين وهو يدعى من أعلى لا من أسفل )) اهـ.


والجواب أنه ذكر الشيخ الإمام ابن عبد السلام في كتابه (( حل الرموز)) أن الإمام أبا حنيفة قال : (( من قال لا أعرف الله تعالى في السماء هو أم في الأرض كفر لأن هذا القول بوهم أن للحق مكانا ومن توهم أن للحق مكانا فهو مشبه )) اهـ ولا شك أن ابن عبد السلام من أجل العلماء وأوثقهم فيجب الاعتماد على نقله لا على ما نقله الشارح شارح عقيدة الطحاوي ، مع أن أبا مطيع رجل وضاع عند أهل الحديث كما صرح به غير واحد)) انتهى كلام ملا علي القاري .


قال الشيخ مصطفى أبو السيف الحمامي في كتابه (( غوث العباد ببيان الرشاد )) ( ص 341-342): (( ومن هذا الكلام يعلم أمور منها :


الأمر الأول: أن تلك المقالة ليست في (( الفقه الأكبر)) ، وإنما نقلها عن أبي حنيفة رحمة الله عليه ناقل فيكون إسنادها إلى الفقه الأكبر كذبا يراد به ترويج البدعة.


الأمر الثاني: أن هذا الناقل مطعون فيه بأنه وضاع لا يحل الاعتماد عليه في نقل يبنى عليه حكم فرعي فضلا عن أصلي فالاعتماد عليه وحاله ماذكر خيانة يريد الرجل بها أن يروج بدعته .


الأمر الثالث : أن هذا الناقل صرح به إمام ثقة هو ابن عبد السلام بما يكذبه عن أبي حنيفة رحمة الله عليه بالنقل الذي نقله عن هذا الإمام الأعظم رضي الله عنه، فاعتماد الكذاب وإغفال الثقة خيانة يراد به تأييد بدعته وهي جرائم تكفي واحدة منها فقط لأن تسقط الرجل من عداد العدول العاديين لا أقول من عداد العلماء أو أكابر العلماء أو الأئمة المجتهدين ، ويعظم الأمر إذا علمنا أن الخيانات الثلاث في نقل واحد وهو مما يرغم الناظر في كلام هذا الرجل على أن لا يثق بنقل واحد ينقله فإنه لا فرق بين نقل ونقل ، فإذا ثبت خيانته في هذا جاز أن تثبت في غيره وغيره )) انتهى كلام الحمامي .


وأما ما نسبه المجسم ابن القيم إلى يعقوب وهو الإمام أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنهما ، قال الشيخ مصطفى الحمامي – من علماء الأزهر – (ص 342) : (( لا شك أنه كذب يروج به هذا الرجل بدعته )) ا هـ


وكذا قال الكوثري في (( تكملته ))(ص 108) .


 فبهذا ينتسف ما قاله المجسم ابن القيم وكذلك ما تنسبه الوهابية إلى أبي حنيفة أنه قال : (( الله في السماء )) فغير ثابت ففي سنده أبو محمد بن حيان ونعيم بن حماد (انظر تهذيب التهذيب ج10/409)) ونوح بن أبي مريم أبو عصمة (انظر تهذيب التهذيب ج10/433)، فالأول ضعفه بلديُّه الحافظ العسال . ونعيم بن حماد مجسم. وكذا زوج أمه نوح ربيب مقاتل بن سليمان شيخ المجسمة . فنوح أفسده زوج أمه ونعيم أفسده زوج أمه ، وقد ذكره كثير من أئمة أصول الدين في عداد المجسمة ، فأين التعويل على رواية مجسم فيما يحتج به لمذهبه ؟!، قال الحافظ ابن الجوزي في (( دفع شبه التشبيه)) (الباز الأشهب ص 69-70) عن نعيم بن حماد : " قال ابن عدي (الكامل في الضعفاء ج 7/16 ) : كان يضع الأحاديث وسئل عنه الإمام أحمد فأعرض بوجهه عنه وقال : حديث منكر مجهول " ا هـ.


فإن قالت الوهابية : ذكره الذهبي نقلا عن البيهقي في (( الأسماء والصفات)).


قلنا : رواه البيهقي في (( الأسماء والصفات )) (ص 429) وقال : (( إن صحت الحكاية ))، فهذا يدل على عدم أمانة الذهبي في النقل حيث أغفل هذا القيد ليوهم القارئ أن القول بأن الله في السماء كلام إمام مثل أبي حنيفة .


قال الشيخ الكوثري في تكملته (ص 180) : ((وقد أشار البيهقي بقوله : (( إن صحت الحكاية)) إلى ما في الرواية من وجوه الخلل )) ا هـ.


على أن الإمام البيهقي ذكر في (( الأسماء والصفات )) في كثير من المواضع أن الله منـزه عن المكان والحد ومن ذلك قوله (ص 400) :


(( واستدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه – تعالى – بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( أنت الظاهر فليس فوقك شئ وأنت الباطن فليس دونك شئ )) (رواه مسلم) وإذا لم يكن فوقه شئ ولا دونه شئ لم يكن في مكان )) ا هـ.


وقوله (ص 415) : (( وما تفرد به الكلبي وأمثاله يوجب الحد والحد يوجب الحدث لحاجة الحد إلى حاد خصه به والبارئ قديم لم يزل ))ا هـ.


وقوله (ص 448-449) : ((وانّ الله تعالى لا مكان له )) ، ثم قال : (( فإن الحركة والسكون والاستقرار من صفات الأجسام والله تعالى أحد صمد ليس كمثله شئ )) اهـ.


فوضح بعد هذا البيان الشافي أن دعوى إثبات المكان لله تعالى أخذا من كلام أبي حنيفة رضي الله عنه افتراء عليه وتقويل له بما لم يقل .


*وقال إمامنا الشافعي رضي الله عنه لما سئل عن الاستواء : (( ءامنت بلا تشبيه وصدقت بلا تمثيل واتهمت نفسي في الإدراك وأمسكت عن الخوض فيه كل الإمساك ))اهـ


ذكره الإمام أحمد الرفاعي في (( البرهان المؤيد)) (ص 24) والإمام تقي الدين الحصني في ((دفع شبه من شبه وتمرد )) (ص 18) وغيرهما كثير ، وقال أيضا : (( ءامنت بما جاء عن الله على مراد الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله )). ذكره الإمام المحدث عبد الله الهرري في كتابه (( الصراط المستقيم ))(50) والإمام الحصني في (( دفع شبه من شبه وتمرد)) (ص 56) والشيخ سلامة العزامي وغيرهم ، ومعناه لا على ما قد تذهب إليه الأوهام والظنون من المعاني الحسية والجسمية التي لا تجوز في حق الله تعالى.


ولما سئل عن صفات الله تعالى قال : (( حرام على العقول أن تمثل الله تعالى وعلى الأوهام أن تحد وعلى الظنون أن تقطع وعلى النفوس أن تفكر وعلى الضمائر أن تعمق وعلى الخواطر أن تحيط إلا ما وصف به نفسه – أي الله – على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم )). اهـ


ذكره الشيخ ابن جهبل في رسالته(انظر طبقات الشافعية الكبرى ج 9/40 ) في نفي الجهة عن الله التي رد فيها على المجسم ابن تيمية.


وقــــال الإمـــــام المجتهد محمد بن إدريــــس الشـــــافعي رضي الله عنه ما نصه: "إنه تعالى كــــان ولا مكان فخلق المكان وهو على صفة الأزلية كما كــــــان قبل خلقــــــه المكــــــانَ لا يجوز  عليه التغييرُ في ذاته ولا التبديل في صفاته" اهـ. كما نقله عنه الزبيدي فـي كتابه (إتحاف السادة المتقين ج 2/24)


وقال الشافعي رضي الله عنه أيضا جامعا جميع ما قيل في التوحيد : (( من انتهض لمعرفة مدبره فانتهى إلى موجود ينتهي إليه فكره فهو مشبه وإن اطمأن إلى العدم الصرف فهو معطل وإن اطمأن لموجود واعترف بالعجز عن إدراكه فهو موحد)) (انظر شرح الفقه الأكبر ص 152 ).


قلنا : ما أدقها من عبارة وما أوسع معناها شفى فيها صدور قوم مؤمنين فرضي الله عنه وجزاه عنا وعن الإسلام خيرا وقد أخذها من قوله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ } [سورة الشورى] ، ومن قوله عز وجل : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ } [سورة النحل] . ومن قوله تعالى :{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [سورة مريم] ،ومن قوله تعالى : {أَفِي اللّهِ شَكٌّ} [سورة إبراهيم] . وكل هذا يدل على أن الإمام الشافعي رضي الله عنه على تنـزيه الله عما يخطر في الأذهان من معاني الجسمية وصفاتها كالجلوس والتحيز في جهة وفي مكان والحركة والسكون ونحو ذلك، نعم فقد روى السيوطي ( الأشباه والنظائر ص 598 ) وغيره أن الإمام الشافعي قال : (( المجسم كافر )) .


قال الشيخ الإمام المتكلم ابن المعلم القرشي في كتابه (( نجم المهتدي ))(ق/287 مخطوط) ما نصه : (( نقلا عن الشيخ الإمام أقضى القضاة نجم الدين في كتابه المسمى (( كفاية النبيه في شرح التنبيه )) في قول الشيخ أبي إسحاق رضي الله عنه في باب صفة الأئمة :ولا تجوز الصلاة خلف كافر لأنه لا صلاة له فكيف يقتدى به )). قال : (( وهذا يفهم من كفره مجمع عليه ومن كفرنا من أهل القبلة كالقائلين بخلق القرءان وبأنه لا يعلم المعدومات قبل وجودها ومن لم يؤمن بالقدر وكذا من يعتقد أن الله جالس على العرش كما حكاه القاضي حسين هنا عن نص الشافعي رضي الله عنه )) اهـ


وأما ما ترويه المشبهة عن الشافعي مما هو خلاف العقيدة السنية ففي سنده أمثال العشارى وابن كادش . أما ابن كادش فهو أبو العز بن كادش أحمد بن عبيد الله المتوفى سنة 526هـ من أصحاب العشارى اعترف بالوضع ، راجع الميزان (ج1/118) وحكم مثله عند أهل النقد معروف . وأما العشارى فهو أبو طالب محمد بن علي العشارى المتوفى سنة 452 هـ مغفل وقد راجت عليه العقيدة المنسوبة إلى الشافعي كذبا وكل ذلك باعتراف الذهبي نفسه في الميزان (ج3/656) وغيره ، وكذا ما ينسب للشافعي


(( وصية الشافعي )) فهو رواية أبي الحسن الهكاري المعروف بوضعه كما هو معروف في كتب الجرح والتعديل (انظر ميزان الاعتدال ج3/112 و ذيل تاريخ بغداد ج18 / 173 لابن النجار) ، فليحذر تمويهات المجسمة فإن هذا دأبهم ذكر ما يوافق هواهم وإن كان كذبا وباطلا.


*وسئل الإمام أحمد رضي الله عنه عن الاستواء فقال : (( استوى كما أخبر لا كما يخطر للبشر )) ذكره الإمام أحمد الرفاعي في (( البرهان المؤيد )) (ص 24) والإمام الحصني في (( دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك على السيد الجليل أحمد )) (ص 17) ، وغيرهما .


فانظر رحمك الله بتوفيقه إلى هذه العبارة ما أرشقها فهي اعتقاد قويم ومنهاج سليم إذ فيها تنـزيه استواء الله على العرش عما يخطر للبشر من جلوس واستقرار ومحاذاة ونحو ذلك ، أما المشبهة ففسروا الاستواء بما يخطر في أذهانهم في جلوس وقعود ونحو ذلك ، وهذا فيه دليل على تبرئة الإمام أحمد رضي الله عنه من المنتسبين إليه زورا الذين يحرفون كلمة ((استوى )) فيقولون جلس ، قعد ، استقر ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا كالمجسم ابن تيمية حيث صرح في (( مجموع الفتاوى )) (ج4/374) فقال : ((إن محمدا رسول الله يجلسه ربه على العرش معه )) ا هـ . وقال فيما رءاه الإمام أبو حيان الأندلسي بخطه:(( إن الله يجلس على الكرسي وقد أخلى مكانا يقعد فيه رسول الله )) ا هـ كما في (( النهر الماد )) (ج1/254) إلى غير ذلك من تخريفاته وتحريفاته.


والإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه من أبعد الناس عن نسبة الجسم والجهة والحد والحركة والسكون إلى الله تعالى ، فقد نقل أبو الفضل التميمي رئيس الحنابلة ببغداد وابن رئيسها في كتابه (( اعتقاد الإمام أحمد )) (ص 45) عن الإمام أحمد أنه قال : (( وأنكر – يعني أحمد- على من يقول بالجسم وقال إن الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة ، وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم على ذي طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف والله تعالى خارج عن ذلك كله، فلم يجز أن يسمى جسما لخروجه عن معنى الجسمية ولم يجئ في الشريعة ذلك فبطل )) اهـ ونقله الحافظ البيهقي عنه في ((مناقب أحمد )) (ص 42). ونقل أبو الفضل التميمي في كتاب (( اعتقاد الإمام أحمد )) (ص 38 -39) عن الإمام أنه قال : (( والله تعالى لا يلحقه تغير ولا تبدل ولا تلحقه الحدود قبل خلق العرش ولا بعد خلق العرش ، وكان ينكر- الإمام أحمد – على من يقول إن الله في كل مكان بذاته لأن الأمكنة كلها محدودة )) اهـ


وبين الإمام الحافظ ابن الجوزي الحنبلي في كتابه (( دفع شبه التشبيه )) (ص 56) براءة أهل السنة عامة والإمام أحمد خاصة من مذهب المشبهة وقال: (( وكان أحمد لا يقول بالجهة للبارئ )) انتهى بحروفه .


وقال القاضي بدر الدين بن جماعة في كتابه (( إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 108) إن الإمام أحمد كان لا يقول بالجهة للبارئ تعالى ))ا هـ.


وعبارته المشهورة التي رواها عنه أبو الفضل التميمي الحنبلي " مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك " دليل على نصاعة عقيدته وأنه على عقيدة التنـزيه.


وقال المحدث الفقيه بدر الدين الزركشي في كتابه (( تشنيف المسامع )) (ج4/648) : (( ونقل صاحب الخصال من الحنابلة عن أحمد أنه قال عن من قال جسم لا كالأجسام كفر )) اهـ.


وروى الحافظ البيهقي في مناقب أحمد عن الحاكم عن أبي عمرو بن السماك عن حنبل عن أحمد بن حنبل تأول قول الله { وَجَاء رَبُّكَ } [سورة الفجر ] أنه جاء ثوابه ، ثم قال البيهقي : (( وهذا إسناد لا غبار عليه )). نقل ذلك ابن كثير في تاريخه (ج10/648) .


 وقال الحافظ البيهقي أيضا في (( مناقب أحمد )) : (( أنبأنا الحاكم قال حدثنا أبو عمرو بن السماك قال حدثنا حنبل ابن إسحاق قال سمعت عمي أبا عبد الله – يعني أحمد – يقول : ((احتجوا علي يومئذ – يعني يوم نوظر في دار أمير المؤمنين – فقالوا تجيء سورة البقرة يوم القيامة وتجيء سورة تبارك، فقلت لهم : إنما هو الثواب قال الله تعالى : { وَجَاء رَبُّكَ } [سورة الفجر] إنما يأتي قدرته وإنما القرءان أمثال ومواعظ . قال الحافظ البيهقي : وفيه دليل على أنه كان لا يعتقد في المجيء الذي ورد به الكتاب والنـزول الذي وردت به السنة انتقالا من مكان إلى مكان كمجيء ذوات الأجسام ونزولها وإنما هو عبارة عن ظهور ءايات قدرته فإنهم لما زعموا أن القرءان لو كان كلامَ الله وصفةً من صفات ذاته لم يجز عليه المجيء والإتيان فأجابهم أبو عبد الله بأنه إنما يجيء ثواب قراءته التي يريد إظهارها يومئذ فعبر عن إظهاره إياه بمجيئه ، وهذا الذي أجابهم به أبو عبد الله لا يهتدي إليه إلا الحذاق من أهل العلم المنزهون عن التشبيه )) ا هـ.


وقال الإمام المحدث الشيخ عبد الله الهرري (المقالات السنية ص 194): (( وهذا دليل على أن الإمام أحمد رضي الله عنه ما كان يحمل ءايات الصفات وأحاديث الصفات التي توهم أن الله متحيز في مكان أو أن له حركة وسكونا وانتقالا من علو إلى سفل على ظواهرها كما يحملها ابن تيمية وأتباعه فيثبتون اعتقادا التحيز لله في المكان والجسمية ويقولون لفظا ما يموهون به على الناس ليظن بهم أنهم منـزهون لله عن مشابهة المخلوق فتارة يقولون (( بلا كيف )) كما قالت الأئمة وتارة يقولون (( على ما يليق بالله )) ، نقول : لو كان الإمام أحمد يعتقد في الله الحركة والسكون والانتقال لترك الآية على ظاهرها وحملها على المجيء بمعنى التنقل من علو وسفل كمجيء الملائكة ، وما فاه بهذا التأويل )) . انتهى بحروفه .


وورد في صحيفة2/196 من الفتوحات الربّانية على الأذكار النووية للعالم المفسّر محمد بن علاّن الصدّيقي الشافعي الأشعري المكّي المتوفّى سنة 1057 هجرية رحمه الله تعالى في باب الحثّ على الدعاء والإستغفار في النصف الثاني من كلّ ليلة ما نصّه: وأنّه تعالى منـزّه عن الجهة والمكان والجسم وسائر أوصاف الحدوث، وهذا معتقد أهل الحقّ ومنهم الإمام أحمد وما نسبه إليه بعضهم من القول بالجهة أو نحوها كذب صراح عليه وعلى أصحابه المتقدمين كما أفاده ابن الجوزي من أكابر الحنابلة .انتهى بحروفه.


وذكر الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في تبيين كذب المفتري فيما نُسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري صحيفة 164 : ذكر ابن شاهين قال : رجلان صالحان بُليا بأصحاب سوء، جعفر بن محمد، وأحمد بن حنبل.اهـ


وذكر في صحيفة 144 من الفتاوى الحديثية لإبن حجر الهيتمي المُتوفّى سنة 973 هجرية : عقيدة إمام السُنّة أحمد بن حنبل: هي عقيدة أهل السُنّة والجماعة من المبالغة التامّة في تنـزيه الله تعالى عمّا يقول الظالمون والجاحدون عُلُوّا كبيرا مِن الجهة والجسمية وغيرهما مِن سائر سمات النقص بل وعن كل وصف ليس فيه كمال مُطْلق، وما اشتُهِرَبين جهلة المنسوبين إلى هذا الإمام الأعظم المجتهد مِنْ أنّه قائل بشيء مِن الجهة أو نحوها فكذب وبهتان وافتراء عليه فلَعن اللهُ مَنْ نسبَ ذلك إليه أو رماه بشيء من هذه المثالب التي برّأه الله منها" اهـ


ونقل الإمام الحافظ العراقي والإمام القرافي والشيخ ابن حجر الهيتمي وملا علي القاري ومحمد زاهد الكوثري وغيرهم عن الأئمة الأربعة هداة الأمة الشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة رضي الله عنهم القول بتكفير القائلين بالجهة والتجسيم ".



"وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ"..


و " الْعَلِيّ " يُرَاد بِهِ عُلُوّ الْقَدْر وَالْمَنْزِلَة لَا عُلُوّ الْمَكَان ; لِأَنَّ اللَّه مُنَزَّه عَنْ التَّحَيُّز . و َحَكَى الطَّبَرِيّ عَنْ قَوْم أَنَّهُمْ قَالُوا : هُوَ الْعَلِيّ عَنْ خَلْقه بِارْتِفَاعِ مَكَانه عَنْ أَمَاكِن خَلْقه . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَ هَذَا قَوْل جَهَلَةٍ مُجَسِّمِين َ , و َكَانَ الْوَجْه أَلَّا يُحْكَى .
وَعَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن قُرْط أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة أُسْرِيَ بِهِ سَمِعَ تَسْبِيحًا فِي السَّمَاوَات الْعُلَى : سُبْحَان اللَّه الْعَلِيّ الْأَعْلَى سُبْحَانه وَتَعَالَى . وَالْعَلِيّ وَالْعَالِي : الْقَاهِر الْغَالِب لِلْأَشْيَاءِ , تَقُول الْعَرَب : عَلَا فُلَان فُلَانًا أَيْ غَلَبَهُ وَقَهَرَهُ , قَالَ الشَّاعِر : فَلَمَّا عَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمْ تَرَكْنَاهُمْ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِر وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " إِنَّ فِرْعَوْن عَلَا فِي الْأَرْض " [ الْقَصَص : 4 ] .انتهى
سبحان ربي الأعلى، أي تنزه ربي عن كل نقص وعيب. والله تعالى هو الأعلى من كل شيء قدرا سبحانه. وهذا الكتاب هو "التفسير الكبير" للإمام الرازي الشافعي المتوفى سنة 604 هـ. هذا المجلد الرابع عشر الجزء 27 طبع دار الكتب العلمية الطبعة الثانية سنة 1425 هـ في الصحيفة 124 يقول : "قوله تعالى : (وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيم). ولا يجوز أن يكون المراد بكونه عليا العلو في الجهة والمكان لما ثبتت الدلالة على فساده".اهـ. فيا أحبابنا الله تبارك وتعالى هو العلي العظيم أي أعلى من كل شيء قدرا سبحانه وتعالى.



"وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ"


الْقَهْر الْغَلَبَة , وَالْقَاهِر الْغَالِب , وَأُقْهِرَ الرَّجُل إِذَا صُيِّرَ بِحَالِ الْمَقْهُور الذَّلِيل ; قَالَ الشَّاعِر : تَمَنَّى حُصَيْن أَنْ يَسُود جِذَاعه فَأَمْسَى حُصَيْن قَدْ أَذَلَّ وَأَقْهَرَا وَقُهِرَ غُلِبَ . و َمَعْنَى ( فَوْق عِبَاده ) فَوْقِيَّة الِاسْتِعْلَاء بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَة عَلَيْهِم ْ ; أَيْ هُمْ تَحْت تَسْخِيره لَا فَوْقِيَّة مَكَان ; كَمَا تَقُول : السُّلْطَان فَوْق رَعِيَّته أَيْ بِالْمَنْزِلَةِ وَالرِّفْعَة . وَفِي الْقَهْر مَعْنَى زَائِد لَيْسَ فِي الْقُدْرَة , وَهُوَ مَنْع غَيْره عَنْ بُلُوغ الْمُرَاد .انتهى



"يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ"


أَيْ عِقَاب رَبّهمْ وَعَذَابه , لِأَنَّ الْعَذَاب الْمُهْلِك إِنَّمَا يَنْزِل مِنْ السَّمَاء . وَقِيلَ : الْمَعْنَى يَخَافُونَ قُدْرَة رَبّهمْ الَّتِي هِيَ فَوْق قُدْرَتهمْ ; فَفِي الْكَلَام حَذْف . وَقِيلَ : مَعْنَى " يَخَافُونَ رَبّهمْ مِنْ فَوْقهمْ " يَعْنِي الْمَلَائِكَة , يَخَافُونَ رَبّهمْ وَهِيَ مِنْ فَوْق مَا فِي الْأَرْض مِنْ دَابَّة وَمَعَ ذَلِكَ يَخَافُونَ ; فَلِأَنْ يَخَاف مَنْ دُونهمْ أَوْلَى ; دَلِيل هَذَا الْقَوْل قَوْله تَعَالَى : " وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ".انتهى



قال القرطبي رحمه الله في تفسير الآية :{فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَـهِ مُوسَى}


"وقال أبو صالح: أسباب السموات طرقها. وقيل: الأمور التي تستمسك بها السموات. وكرر أسباب تفخيماً؛ لأن الشيء إذا أبهم ثم أوضح كان تفخيماً لشأنه. والله أعلم.
{فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَـهِ مُوسَى} فانظر إليه نظر مشرِفٍ عليه. توهَّم أنه جسمٌ تحويه الأماكن. وكان فرعون يدعي الألوهية ويرى تحقيقها بالجلوس في مكان مشرف." .



القرطبي "التذكار في أفضل الأذكار" :


" يستحيل على الله أن يكون في السماء أو في الأرض، إذ لو كان في شيء لكان محصورا أو محدودا ، ولو كان ذلك لكان محدثا ، وهذا مذهب أهل الحق والتحقيق ، وعلى هذه القاعدة قوله تعالى : ' أأمنتم من في السماء ' وقوله عليه السلام للجارية : ' أين الله ؟ ' قالت : في السماء فلم ينكر عليها ، و ما كان مثله ليس على ظاهره بل مؤول تأويلات صحيحة قد أبداها كثير من أهل العلم في كتبهم ، وقد بسطنا القول في هذا بكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى عند قوله تعالى : 'الرحمن على العرش استوى ' ".انتهى



تفسير بعض الآيات المتشابهات بالمحكمات

بسم الله الرحمَن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلاة الله وسلامه على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد

المُتَشابِهُ هُو ما لم تَتّضِح دِلالتُه أوْ يَحتَمِلُ أوْجُهًا عَدِيدِةً واحتاجَ إلى النَّظَر لِحَمْلِهِ على الوَجهِ المُطابِقِ كقَولِه تِعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ استَوَى}.


فالمتشابهُ هو الذي دِلالتُهُ على المرادِ غيرُ واضحةٍ، أو كان يحتمِلُ بحسبِ وضعِ اللغة العربيةِ أوجهًا عديدةً، واحتيج لمعرفةِ المعنى المرادِ منه لنظرِ أهلِ النَّظرِ والفهمِ الذين لهم درايةٌ بالنُّصوصِ ومعانيها ولهم درايةُ بلغةِ العربِ فلا تخفى عليهم المعاني إذ ليس لكلّ إنسانٍ يقرأ القرءان أن يفسّرهُ.


وليس المرادُ بقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ استَوَى} أنه جالسٌ على العرشِ، ولا أنه مستقرُّ عليه ولا أن الله بإزاء العرشِ بل كلُّ هذا لا يليق بالله، نعتقدُ أن الله استوى استواءً على العرشِ يليقُ به ولا نعتقدُ بشيءٍ من هذه الأشياءِ الجلوسَ والاستقرارَ والمحاذاةَ.


وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر] أيْ أنَّ الكَلِمَ الطَّيبَ كَلا إلهَ إلا الله يصْعَدُ إلى مََحَلّ كَرَامَتِه وهُوَ السَّمَاءُ، والعَمَلُ الصَّالِحُ يرفَعُه أي الكلمُ الطيبُ يرفَعُ العملَ الصالحَ وَهذا مُنْطَبِقٌ ومُنْسَجِمٌ مَعَ الايةِ المحكمةِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ}.


هذا من المتشابهِ الذي يعلَمُ معناُه الرَّاسخونَ، فالكلمُ الطَّيبُ هو كلا إله إلا الله والعملُ الصّالحُ يشمَلُ كلَّ عملٍ صالحٍ يُتقرَّبُ به إلى الله كنحو الصلاةِ والصدقةِ وصلة الرحمِ، فالمعنى أن كلَّ ذلك يصعدُ إلى الله أي يتقبَّلُهُ، هذا ليسَ فيه أن الله له حيّزُ يتحيزُ فيه ويسكنُهُ.


فالسماءُ محلُّ كرامةِ الله أي المكان الذي هو مشرََّفٌّ عند الله، لأنها مسكنُ الملائكةِ، هذا التَّفسيرُ موافق للاية المحكمة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ}.


فَتَفْسيرُ الاياتِ المُتَشابِهَةِ يَجبُ أن يُرَدََّ إلى الاياتِ المُحْكَمَةِ، هذا في المُتَشابِه الذي يجوزُ للعُلماءِ أن يعلمُوهُ أي أن من أرادَ أن يُفسّرَ المتشابهَ يجبُ أَنْ يكونَ موافقًا للاياتِ المحكماتِ كتفسيرِ الاستواءِ بالقهرِ فإنه موافقٌ للمحكماتِ، كذلك تفسيرُ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} بمحلِّ كرامتِهِ وهي السَّماءُ موافقٌ للمحكمات.


فَهُنا مسلكانِ كُلٌَ مِنْهُمِا صَحِيحٌ:
الأوَلُ: مَسلَكُ السَّلَفِ: وهُم أهْلُ القُرونِ الثَلاثَةِ الأُولى أي اكثرهم.
فإنهُم يُؤوّلونَها تأوِيلا إجماليًّا بالإيمانِ بها واعتِقادِ أنها ليست من صفاتِ الجسمِ بل أنَّ لَها مَعْنًى يَليقُ بجَلالِ الله وعظمَتِهِ بلا تعْيِينٍ، بَلْ رَدُّوا تِلْكَ الاياتِ إلى الاياتِ المحكَمَةِ كقولِهِ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ} [سورة الشورى].
السلفُ مَن كان َ من أهلِ القرونِ الثلاثةِ الأولى قرنِ أتباعِ التَّابعينَ وقرن التَّابعينَ وقرن الصَّحابةِ وهو قرن الرسولِ، هؤلاءِ يسمَّون السلفَ ومن جاءوا بعدَ ذلكَ يسمَّونَ الخلفَ، ومن العلماءِ من حَدََّ هذا بالمائتين والعشرين سنةً من مبعثِ الرّسولِ ومنهم من حَدَّ هذا بالمئاتِ الثلاثةِ الأولى. فالسّلفُ الغالبُ عليهم أن يؤوّلوا الايات المتشابهة تأويلا إجماليًا بالإيمانِ بها واعتقادِ أن لها معاني تليقُ بجلالِ الله وعظمتِهِ ليست من صفاتِ المخلوقينَ بلا تعيين كآيةِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ استَوَى} و{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}. وحديثِ النزولِ بأن يقولوا بلا كيفٍ أو على ما يليق بالله أي من غير أن يكونَ بهيئةٍ من غير أن يكونَ كالجلوسِ والاستقرارِ والجوارحِ والطُّولِ والعرضِ والعمقِ والمساحَةِ والحركةِ والسكونِ والانفعالِ مما هو صفةٌ حادثةٌ. هذا مَسلكُ السّلفِ رَدُّوها من حيثُ الاعتقادُ إلى الاياتِ المحكمةِ كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ} وتركوا تعيينَ معنى معيَّن لها مع نفي تشبيهِ الله بخلقِهِ. قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: "فمعتقد سلف الأئمة وعلماء السنة من الخلف أن الله منزه عن الحركة والتحول والحلول ليس كمثله شئ" اهـ.
وأما الآيات الكريمة التي اخترنا تفسيرها فهي مجموعة من الايات المتشابهات في صفات الله تعالى وءايات الأحكام، وفي صفات الأنبياء عليهم السلام، والله الموفق وهو نعم النصير.


-------------------------------------------------------------------------
تفسير ءايات من سورة البقرة
 1- تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.


ذكر الإمام فخر الدين الرازي في التفسير الكبير قال:
قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُُ بِهِمْ} أن ما يفعله الله بهم جزاء على استهزائهم سماه بالاستهزاء، لأن جزء الشيء يسمى باسم ذلك الشيء، قال تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [سورة الشورى].
والتأويل الثاني أن ضرر استهزائهم بالمؤمنين راجع عليهم وغير ضار بالمؤمنين فيصير كأن الله استهزأ بهم.



تفسير الإحاطة
1. قال تعالى: {واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} [سورة البقرة].
2. قال تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [سورة الأنفال].
3. قال تعالى: {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [سورة الفتح].
4. قال تعالى: {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} [سورة البروج].
5. قال تعالى: {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} [سورة فصلت].


اعلم وفقك الله أن ربنا عزَّ وجلَّ ليس متحيزًا بمكان ولا ينتقل من جهة إلى أخرى ولا يفرغ مكانًا ولا يملأ مكانًا وأنه سبحانه وتعالى منزه عن صفات الحوادث من جواهر وأعراض.
وأكثر المفسرين وقفوا عند ءايات الإحاطة بإحاطة العلم بدليل قوله تعالى: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [سورة الطلاق].


وذكر العبدري لطف الله به في كتاب الدليل نقلا عن كتاب التذكرة الشرقية للإمام أبي نصر القشيري ما يلي:
فإن قيل إن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ استَوَى} [سورة طه] فيجب الأخذ بظاهره قلنا الله يقول أيضًا: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [سورة الحديد]. ويقول تعالى: {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} [سورة فصلت]. فينبغي (أي على مقتضى كلامهم) أن نأخذ بظاهر هذه الآيات حتى يكونَ على العرش وعندنا ومعنَا ومحيطًا بالعالم محدقًا به بالذات في حالة واحدة والواحد يستحيل أن يكون في حالة بكل مكان اهـ. كلام القشيري.


وهاكم التفاسير التي وردت في تلك الايات:
قوله تعالى: {واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} أي أنه لا يفوته أحد منهم فالله جامعهم يوم القيامة، ومثله قوله تعالى: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} قال مجاهد: وقيل: إنه تعالى لا يخفى عليه ما يفعلون.
وأما قوله تعالى: {واللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} فيه وعيد وتهديد، يعني أنه تعالى عالم بجميع الاشياء، لا يخفى عن علمه شيء لانه محيط بأعمال العباد كلها، فيجازي المحسنين ويعاقب المسيئين.
وقوله تعالى: {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} أحاط بها علمًا أنها ستكون من فتوحكم (قيل فتح خيبر وقيل فارس والروم وقيل مكة) وقيل حفظها لكم ومنعها من غيركم حتى فتحتموها.
وقوله تعالى: {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} أي عالم بجميع المعلومات من المخلوقات فيعلم بواطن هؤلاء الكفار وظواهرهم ويجازي كل أحد على فعله بحسب ما يليق به، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} أي عالم بهم لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، يقدر أن ينزل بهم ما أنزل بمن كان قبلهم.


-------------------------------------------------------------------------
2- تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} كان هذا جوابًا على إثر قول الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكره بعض أهل التأويل فقالوا: ما يستحي ربك أن يذكر البعوض والذباب ونحوها مما يصغر في نفسه وملوك الارض لا يذكرون ذلك، ويستحون؟ فقال عزَّ وجلَّ جوابًا لقولهم: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي} الاية.. لأن ملوك الأرض إنما ينظرون إلى هذه الأشياء بالاستحقار لها والاستذلال فيستحون من ذكرها على الانكفاف والأنفة.
واللهُ عزَّ وجلَّ لا يستحي عن ذلك، لأن الأعجوبة في الدلالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته في خلق الصغير من الحبّة والجسم أكبر من الكبار منها والعظام، لأن الخلائق لو اجتمعوا على تصوير صورة من نحو البعوض والذباب وتركيبٍ يحتاج إليه من الفم والأنف والرجل واليد والمدخل والمخرج ما قدروا.
فأولئك لم ينظروا إليها لما فيها من الأعجوبة واللطافة، ولكن نظروا للحقارة والخساسة أنفًا منهم وانكفافًا.


-------------------------------------------------------------------------
3- تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [سورة البقرة].
قال الفخر الرازي في التفسير الكبير: الاستواء في كلام العرب قد يكون بمعنى الانتصاب، وضده الاعوجاج، ولما كان ذلك من صفات الأجسام، فالله تعالى يجب أن يكون منزهًا عن ذلك، ثم قال: ولمَّا ثبت هذا وجب التأويل وتقريره أن معنى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} أي خلق بعد الأرض السماء. نقول أوجد السماء بعد الأرض.


-------------------------------------------------------------------------
4- تفسير قوله تعالى إخبارًا عن الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [سورة البقرة].
ذكر ابن الجوزي في زاد المسير أن الملائكة قالوه لاستعلام وجه الحكمة، لا على وجه الاعتراض وقيل إن ظاهر الألف الاستفهام، دخل على معنى العلم ليقع به تحقيق، قال جرير:


ألستم خير من ركب المطايا
_____ وأندى العالمين بطون راحِ
معناه أنتم خير من ركب المطايا.


-------------------------------------------------------------------------
5- تفسير قوله تعالى: {وَعَصَى ءادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [سورة طه].
قال شيخنا العبدري رحمه الله: تجب العصمة للأنبياء من الكفر والكبائر وصغائر الخسة والدناءة كسرقة لقمة. ويَجوز عليهم ما سوى ذلك من الصغائر، وهذا قول أكثر العلماء كما نقله غير واحد وعليه الإمام أبو الحسن الأشعري.
فإن قيل إننا مأمورون بالاقتداء بهم فلو كانوا يعصون للزم الاقتداء بهم في المعصية ولا يعقل ذلك. فالجواب أنهم ينبهون فورًا فلا يُقرون عليها بل يتوبون قبل أن يقتدي بهم أحد فزال المحذور.


-------------------------------------------------------------------------
6- تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [سورة البقرة].
قال الخازن في تفسيره الاية: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} أي يستيقنون وقيل يعلمون: {أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} يعني في الآخرة وفيه دليل على ثبوت رؤية الله تعالى في الاخرة: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} يعني بعد الموت فيجزيهم بأعمالهم.


-------------------------------------------------------------------------
7- تفسير قوله تعالى: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة].
قال ابن الجوزي في زاد المسير: قوله تعالى: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} بلى: بمنزلة "نعم" إلا أن "بلى" جوابَ النفي، و"نعم" جوابَ الإيجاب. قال الفراء: إذا قال الرجل لصاحبه: ما لك علي شيء، فقال الاخر: نعم: كان تصديقا أن لا شيء له عليه ولو قال: بلى: كان ردًا لقوله.
ومعنى: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} بلى مَنْ كَسَبَ قال الزجاج: بلى ردٌّ لقولهم: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} والسيئة ها هنا الشرك.
{وَأَحَاطَتْ بِه} أي أحدقت به خطيئته قال عكرمة: مات ولم يتب منها.


-------------------------------------------------------------------------
8- تفسير قوله تعالى: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة].
ذكر الفخر الرازي في التفسير الكبير: قيل إن هذه الاية نزلت في أمر يختص بالصلاة وهو المروي عن كافة الصحابة والتابعين وقولهم حجة، وظاهر قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} يفيد التوجه إلى القبلة في الصلاة ولهذا لا يعقل من قوله: {فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} إلا هذا المعنى.
وقال بعض المفسرين: إنه تعالى أراد به تحويل المؤمنين عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة، فبين تعالى أن المشرق والمغرب وجميع الجهات والأطراف كلها مملوكة له سبحانه، فأينما أمركم الله باستقباله فهو القبلة، لأن القبلة ليست قبلة لذاتها، بل لأن الله تعالى جعلها قبلة، فإن جعل الكعبة قبلة فلا تنكروا ذلك، لأنه تعالى يدبر عباده كيف يريد، وهو واسع عليم بمصالحهم فكأنه تعالى ذكر ذلك بيانًا لجواز نسخ القبلة من جانب إلى جانب ءاخر، فيصير ذلك مقدمة لما كان يريد تعالى من نسخ القبلة، وقيل إنه لما حولت القبلة عن بيت المقدس أنكر اليهود ذلك، فنزلت الاية ردًا عليهم، وهو قول ابن عباس.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه قال: إنما نزلت هذه الاية في الرجل يصلي إلى حيث توجهت به راحلته في السفر. وكان عليه السلام إذا رجع من مكة صلى على راحلته تطوعًا يومئ برأسه نحو المدينة فمعنى الاية: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} وجوهكم لنوافلكم في أسفاركم: {فَثّمَّ وَجْهُ اللهِ} فقد صادفتم المطلوب: {إنَّ اللهَ وَاسِعٌ} الفضل غني، فمن سعة فضله وغناه رخص لكم في ذلك لأنه لو كلفكم استقبال القبلة في مثل هذه الحال لزم أحد الضررين إما ترك النوافل وإما النزول عن الراحلة والتخلف عن الرفقة، بخلاف الفرائض فإنها صلوات معدودة محصورة فتكليف النزول عن الراحلة عند أدائها واستقبال القبلة فيها لا يفضي إلى الحرج، فبخلاف النوافل فإنها غير محصورة فتكليف الاستقبال يفضي إلى الحرَج.


-------------------------------------------------------------------------
فائدة: إن إضافة وجه الله كإضافة بيت الله وناقة الله والمراد منها الإضافة بالخلقِ والإيجادُ على سبيل التشريف فقوله: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي فثم وجهه الذي وجهكم إليه لأن المشرق والمغرب له بوجهيهما والمقصود من القبلة إنما يكون قبلة لنصبه تعالى إياها فوجه الله في الاية معناه قبلة الله التي رضيها لعباده في السفر لمن هو راكبٌ دابةً يريد النفل وهذه الرخصة خاصة براكب الدابة يريد النفل فلا يدخل في هذا الحكم راكبو السيارات.


-------------------------------------------------------------------------
9- تفسير الآية: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [سورة البقرة].
قال الرازي: قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} يفيد الحصر أي نكون مُسْلِمَيْنِ لك لا لغيرك وهذا يدل على أن كمال سعادة العبد في أن يكون مسلّمًا لأحكام الله تعالى وقضائه وقدره وأن لا يكون ملتفت الخاطر إلى شيء سواه، وهذا هو المراد من قول إبراهيم عليه السلام في موضع ءاخر: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ}، ثم هاهنا قولان: أحدهما: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} أي موحدين مخلصين لا نعبد إلا إياك. والثاني: إن اعتبرناهما مع الذرية قائِمِين وأما قائميْن فمعناه قائميْن بجميع شرائع الإسلام وهُوَ الأوجه ونقل القرطبي في الجامع لأحكام القرءان قال: قوله تعال: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} أي ومن ذريتنا فاجعل فيقال: إنه لم يدع نبي إلا لنفسه ولأمته إلا ابراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته لهذه الأمة. {وَمِن} في قوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَا} للتبعيض، لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين أي كافرين، وحكى الطبري: أنه أراد بقوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَا} العرب خاصة. قال السهيلي: وذريتهما العرب.


-------------------------------------------------------------------------
10- تفسير قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أّهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة البقرة].
قال الخازن في تفسيره: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أّهْوَاءَهُم} يعني مرادهم ورضاهم لو رجعت إلى قبلتهم: {مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي في أمر القبلة، وقيل معناه: من بعد ما وصل إليك من العلم بأن أهل الكتاب مقيمون على باطلٍ وعناد للحق: {إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} يعني أنك إن فعلت ذلك كنت بمنزلة من ظلم نفسه وضرّها، قيل: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة لأنه صلى الله عليه وسلم لا يتبع أهواءهم أبدًا.


-------------------------------------------------------------------------
11- تفسير قوله تعالى: {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [سورة البقرة] قال الخازن في تفسيره: {الْحَقُّ} أي الذين يكتمونه هو الحق: {مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي من الشاكين في أن الذين تقدم ذكرهم علموا صحة نبوتك، وقيل يرجع إلى أمر القبلة والمعنى أن بعضهم عاند وكتم الحق فلا تشك في ذلك، فإن قلت النبي صلى الله عليه وسلم لم يمتر ولم يشك فما معنى هذا النهي؟ قلت هذا الخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم ولكن المراد غيره، والمعنى فلا تشكّوا أنتم أيها المؤمنون.


-------------------------------------------------------------------------
12- تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [سورة البقرة].
ذكر الخازن في تفسيره لباب التأويل: وقوله تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} معناه قريب بالعلم والحفظ لا يخفى عليه شيء. وفيه إشارة إلى سهولة إجابته لمن دعاه وإنجاح حاجة من سأله إذا توافرت شروط الدعاء.
وقوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}. الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على الله تعالى كقول العبد يا الله لا إله إلا أنت فقولك يا الله فيه دعاء وقولك لا إله إلا أنت فيه توحيد وثناء على الله تعالى فسمى هذا الدعاء بهذا الاعتبار، وسمي قبوله إجابة لتجانس اللفظ وفيه إشارة إلى أن العبد يعلم أن له ربَّا مدبرًا يسمع دعاءه إذا دعاه ولا يخيب رجاء من رجاه.
والفخر الرازي قال في تفسيره الكبير: اعلم أنه ليس المراد من هذا القرب بالجهة والمكان بل المراد منه القرب بالعلم والحفظ.


-------------------------------------------------------------------------
13- تفسير قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [سورة البقرة].
أكثر المفسرين حملوا معنى الفتنة على الكفر والشرك، ونقل الفخر الرازي في التفسير الكبير عن ابن عباس قال: إن المراد من الفتنة الكفر بالله تعالى وإنما سمي الكفر بالفتنة لأنه فساد في الارض يؤدي إلى الظلم والهرج، وفيه الفتنة، وإنما جعل الكفر أعظم من القتل، لأن الكفر ذنب يستحق صاحبه به العقاب الدائم، والقتل ليس كذلك والكفر يخرج صاحبه به عن الأمة. والقتل ليس كذلك فكان الكفر أعظم من القتل.
وهذا يدعم كلامنا في تفسير قوله تعالى في سورة النساء: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} لأن الخلود في جهنم هو للكافر خاصة.


-------------------------------------------------------------------------
14- تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [سورة البقرة].
قال الخازن في تفسيره: قوله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه.
وذلك لما أسلموا أقاموا على تعظيم شرائع موسى فعظموا السبت وكرهوا لحم الإبل وألبانها، وقالوا إن ترك هذه الأشياء مباح في الإسلام وواجِب في التوراة وقالوا أيضًا يا رسول الله إن التوراة كتاب الله دعنا فلنقم به في صلاتنا بالليل، فأنزل الله هذه الآية وأمرهم أن يدخلوا في السلم أي في شرائع الإسلام ولا يتمسكوا بالتوراة فإنها منسوخة، والمعنى استسلموا لله وأطيعوا فيما أمر به.


-------------------------------------------------------------------------
15- تفسير قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ} [سورة البقرة].
أجمع المعتبرون من العقلاء على أنه سبحانه وتعالى منزه عن المجيء والذهاب بطريق الحركة والانتقال وقد ثبت في علم الاصول أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب بطريق الحركة والانتقال لا ينفك عن الحركة والسكون وهما محدثان وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث فيلزم أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب بطريق الحركة والانتقال يجب أن يكون محدثًا مخلوقًا، والإله القديم يستحيل أن يكون كذلك. وإذا عرفت هذا فنقول ذكر أهل الكلام في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} مذهب السلف الصالح أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة أن المجيء والذهاب بطريق الحركة والانتقال على الله تعالى محال، علمنا قطعًا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية هو المجيء والذهاب بطريق الحركة والانتقال وأن مراده بعد ذلك شيء ءاخر فعند جمهور المتكلمين المراد بالآية: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} ءايات الله، فجعل مجيء الآيات مجيئًا له على التفخيم لشأن الآيات. وقيل المراد أمر الله.


-------------------------------------------------------------------------
16- تفسير قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [سورة البقرة].
قال بعض المفسرين هي نظير قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}. وذهب ءاخرون إلى أن معنى الفتنة هنا فتنتهم المسلمين عن دينهم حتى يهلِكوا، وقال الرازي في التفسير الكبير: إنه ذُكِرَ في الفتنة قولين أحدهما في الكفر وهذا القول عليه أكثر المفسرين والقول الثاني أن الفتنة هنا هي ما كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم تارةً بإلقاء الشبهات في قلوبهم وتارةً بالتعذيب، كفعل المشركين ببلال وصهيب وعمار بن ياسر، وعلى هذا ذهب البعض إلى أن المراد بالفتنة الامتحان.


-------------------------------------------------------------------------
17- تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ} [سورة البقرة].
قال الخازن: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} أي احذورا أن تأتوا شيئًا مما نهاكم الله عنه: {وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ} أي صائرون إليه في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم.
واعلم أنه سبحانه وتعالى لا يوصف بالاتصال والانفصال ولا بالمماسة والملامسة ولا بالاجتماع والافتراق. ولقاء الله حق على معنى أن الخلق صائرون إليه يوم القيامة ليحاسبهم ويجازيهم.


-------------------------------------------------------------------------
18- تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [سورة البقرة].
قيل سبب السؤال أنه مع مناظرته من نمرود لما قال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ} فأطلق محبوسًا وقتل رجلا قال ابراهيم: ليس هذا بإحياء وإماتة وعند ذلك قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى} لتنكشف هذه المسئلة عند نمرود فسأل الله تعالى ذلك، وقوله: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} بنجاتي من القتل أو ليطمئن قلبي بقوة حجتي وبرهاني وإن عدولي منها إلى غيرها ما كان بسبب ضعف تلك الحجة بل كان بسبب جهل المستمع، وأحسن ما قيل فيها ليطمئن قلبي أي هل أعطى ذلك إذا طلبته.


-------------------------------------------------------------------------
19- تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ} [سورة البقرة].
ذكر الخازن في تفسيره لباب التأويل فقال في تفسير هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}: أي ليست عليك "أي يا محمد" هداية من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لاجل أن يدخلوا في الإسلام، فحينئذ تتصدق عليهم فأعلمه الله تعالى أنه إنما بُعث بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه، فأما كونهم مهتدين فليس ذلك إليك: {وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء}: يعني أن الله يوفق من يشاء فيهديه إلى الإسلام، وأراد بالهداية هنا هداية التوفيق، وأما هداية البيان والدعوة فكانت على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والصحيح أن يقال ليس عليك أي لست مكلفًا بأن تهتدي قلوبهم لأن القلوب لا يملكها أحد إلا الله بل الله هو يهدي القلوب بأن يجعلها مؤمنة مصدقة ولكن الله يهدي من يشاء أي أن الله هو الذي يهدي القلوب فيجعلها مؤمنة أما الرسول فلو أكره إنسانًا بالقتال على الدخول في الإسلام فأظهر الإسلام والإيمان لكن قلبه قد يكون على خلاف ظاهره فيكون قلبه مكذبًا للدين فليس على الرسول إلا البيان أي الدعوة إلى الايمان بالله ورسوله وقال تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} معناه يا محمد أنت لا تستطيع أن تجعلهم مؤمنين قلبًا.


-------------------------------------------------------------------------
20- تفسير قوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِّن رسُلِهِ} [سورة البقرة].
ذكر ابن الجوزي في زاد المسير قال: ومعنى قوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِّن رسُلِهِ} أي لا نفعل كما فعل اهل الكتاب ءامنوا ببعض وكفروا ببعض.
وقال الخازن في تفسيره: قوله تعالى: {وَكُلٌّ ءَامَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}: قال: فهذه أربع مراتب من أصول الايمان وضرورياته فأما الإيمان بالله فهو أن يؤمن بأن الله واحد أحد لا شريك له ولا نظير له، ويؤمن بجميع أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأنه حي عالم قادر على كل شيء، وأما الايمان بالملائكة فهو أن يؤمن بوجودهم وأنهم معصومون مطهرون وأنهم السفرة الكرام البررة وأنهم الوسائط بين الله تعالى وبين رسله. وأما الايمان بكتبه فهو بأن يؤمن بأن الكتب المنزلة من عند الله هي وحي الله إلى رسله، وأنها حق وصدق من عند الله بغير شك ولا ارتياب، وأن القرءان لم يحرّف ولم يبدّل ولم يغيّر، وأنه مشتمل على المحكم والمتشابه وأن محكمه يكشف عن متشابهه، وأما الايمان بالرسل فهو أن يؤمن بأنهم رسل الله إلى عباده وأمناؤه على وحيه وأنهم معصومون وأنهم أفضل خلق الله، وأن بعضهم أفضل من بعض وقد أنكر بعضهم ذلك وتمسك بقوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} وأجيب عنه بأن المقصود من هذه الجملة شيء ءاخر وهو إثبات نبوة الانبياء والرد على أهل الكتاب الذين يقرون بنبوة موسى وعيسى وينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت بالنص الصريح تفضيل بعض الانبياء على بعض بقوله عزَّ وجلَّ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} ومعنى قوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِن رسُلِهِ} أي لا نفعل كما فعل أهل الكتاب يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض يعني بعد أن كفروا مع تمسكهم لفظًا بالكتابين، بل نؤمن بجميع رسله وفي الآية إضمار وتقدير. وقالوا: "يعني المؤمنين": {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِن رسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وأطَعْنَا} يعني سمعنا قولك وأطعنا أمرك والمعنى قال المؤمنون سمعنا قول ربنا فيما أمرنا به ونهانا عنه: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} أي نسألك غفرانك ربنا أو يكون المعنى اغفر لنا غفرانك ربنا: {وَإلَيْكَ المَصِيرُ} يعني قالوا إليكم يا ربنا مرجعنا ومعادنا فاغفر لنا ذنوبنا.


-------------------------------------------------------------------------
21- تفسير قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} [سورة البقرة].
اعلم رحمك الله بتوفيقه أن كثيرًا من الجهال أخذ هذه الآية حجة وذريعة له في كثير من أمور التكاليف، فترى الواحد منهم مثلا إن كان مريضًا يشق عليه أمر الصلاة على هيئة كذا قال: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} [سورة البقرة] فيترك الصلاة، وشاع استعمال هذه الآية في غير موضعها فإذا بكثير من الجهلة يتركون الواجبات ويتقاعسون عن الفرائض والطاعات متذرعين بهذه الآية، فجهل هؤلاء الناس لكثير من أمور الاحكام كان سببًا في هلاكهم، وما ذلك إلا لتكبرهم عن طلب العلم والتعلم، فنسأل الله السلامة والنجاة والمعافاة والتوفيق والسداد.
ومما ورد في تفسير قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} قال ابن الجوزي في زاد المسير: الوسع الطاقة قاله ابن عباس وقتادة ومعناه لا يكلفها ما لا قدرة لها عليه لاستحالته، كتكليف الزَّمِنِ السعي والاعمى النظر. فأما تكليف ما يستحيل من المكلف لا كفقد الآلات فيجوز كتكليف الكافر الذي سبق في علم الله القديم أنه لا يؤمن فالآية محمولة على القول الاول. ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى في سياق الآية: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} فلو كان تكليف ما لا يطاق ممتنعًا أي مستحيلا كان السؤال عبثًا وقد أمر الله تعالى نبيه بدعاء قوم قال فيهم: {وَإن تَدْعُهُمْ إلى الهُدَى فَلَن يَهْتَدُواْ إذًا أبَدًا} [سورة الكهف] وقال ابن الأنباري المعنى: لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه، وإن كنا مطيقين له.


-------------------------------------------------------------------------
22- تفسير قوله تعالى إخبارًا عن عيسى عليه السلام: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [سورة ءال عمران]. الآية.
جمهور المفسرين على أن الخلق في هذه الآية بمعنى التصوير والتقدير، ولم يخالف في ذلك إلا صاحب بدعة وضلالة وقال صاحب تفسير البحر المحيط أبو حيان الاندلسي في تفسير الآية: ومعنى أخلق أقدّر وأهيء، والخلق يكون بمعنى الإنشاء وإبراز العين من العدم إلى الوجود وهذا لا يكون إلا لله تعالى، ويكون بمعنى التقدير والتصوير قال تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إفْكًا}: أي تفترون الكذب، ومما جاء الخلق فيه بمعنى التقدير قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللهُ أحْسَنُ الخَالِقِينَ}: أي المقدّرين وقال الشاعر:



ولأنت تفري ما خلقت وبعضُ
__م__ القوم يخلق ثم لا يفري


-------------------------------------------------------------------------
23- تفسير قوله تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [سورة ءال عمران].
قال أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط: قوله تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ} الضمير في مكروا عائد على من عاد عليه الضمير في: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسىَ مِنْهُمُ الكُفْرَ} وهم بنو إسرائيل، ومكرهم هو احتيالهم في قتل عيسى بأن وكلوا به من يقتله غيلة، ومَكْرُ الله مجازتهم على مكرهم، سمى ذلك مكرًا لأن المجازاة لهم ناشئة عن المكر كقوله: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [سورة الشورى]. وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْه} [سورة البقرة].
وكثيرًا ما تسمى العقوبة باسم الذنب وإن لم تكن في معناه.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} معناه المجازين على المكر بما يستحق فاعله.


-------------------------------------------------------------------------
24- تفسير قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [ءال عمران].
قال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} ونظيره قوله تعالى حكاية عنه: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}. {مُتَوَفِّيكَ} أي متمم عمرك فحينئذ أتوفاك فلا أتركهم حتى يقتلوك بل أنا رافعك إلى سمائي، ومقربك بملائكتي، وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك وهذا تأويل حسن، قال بعض المفسرين لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير قالوا: إن قوله تعالى: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} يقتضي أنه رفعه حيَّا والواو لا تقتضي الترتيب فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير والمعنى إني رافعك إليَّ ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرءان.
و المراد بقوله تعالى: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} أي إلى محل كرامتي وجعل ذلك رفعًا إليه للتفخيم والتعظيم ومثله قوله: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي}. وإنما ذهب إبراهيم صلى الله عليه وسلم من العراق إلى الشام، وقد يقول السلطان ارفعوا هذا الأمر إلى القاضي، وقد يسمى الحجاج زوار الله، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم فكذا ههنا.


-------------------------------------------------------------------------
25- تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} [سورة ءال عمران].
كر الخازن في لُباب التأويل: وقوله تعالى: {قُلْ إنَّ الفَضْلَ} يعني قل لهم يا محمد إن التوفيق للإيمان والهداية للإسلام: {بِيَدِ اللهِ} أي أنه مالك له وقادر عليه دونكم ودون سائر خلقه: {يُؤْتِيهِ مِن يِشَاءُ} يعني الفضل الذي هو دين الإسلام يعطيه من يشاء من عباده ويوفق له من أراد من خلقه وفيه تكذيب لليهود حيث قالوا لن يؤتي الله أحدًا مثل ما أوتي بنو إسرائيل من النبوة فقال الله ردّا عليهم: {قلْ} لهم: ليس ذلك إليهم وإنما الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.


-------------------------------------------------------------------------
26- تفسير قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُوْلئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فىِ الأَخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ} [سورة ءال عمران].
قال الإمام الفخر الرازي في تفسير الآية: أما الأول وهو قوله: {لا خَلاقَ لَهُمْ فىِ الأَخِرَةِ} فالمعنى لا نصيب لهم في خير الآخرة ونعيمها، واعلم أن هذا العموم مشروط بإجماع الامة بعدم التوبة، فإنه إن تاب عنها سقط الوعيد بالإجماع وعلى مذهبنا مشروط أيضًا بعدم العفو فإنه تعالى قال: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [سورة النساء].
وأما الثاني وهو قوله: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ} المقصود بيان شدة سخط الله عليهم.
وأما الثالث وهو قوله: {وَلا يَنظُرُ إلَيْهِمْ} فالمراد أنه لا ينظر إليهم بالإحسان، يقال فلان لا ينظر إلى فلان، والمراد به نفي الاعتداد به وترك الإحسان إليه، ولا يجوز أن يكون المراد من هذا النظر الرؤية لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم، ولا يجوز أن يكون المراد من النظر تقليب الحدقة إلى جانب المرئيّ التماسًا لرؤيته، لأن هذا من صفات الأجسام وتعالى إلهنا عن أن يكون جسمًا.
و أما الرابع وهو قوله تعالى: {وَلا يُزَكِّيهِمْ} قيل لا يزكيهم أي لا يثني عليهم كما يثني على أوليائه الأزكياء، واعلم أن تزكية الله عباده قد تكون على ألسنة الملائكة كما قال: {وَالمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلٍِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمََ عُقْبَى الدَّارِ} وقال: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [سورة فصلت] وقد تكون بغير واسطة أما في الدنيا فكقوله: {التَّائبُونَ العَابِدُونَ} [سورة التوبة] وأما في الآخرة فكقوله: {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [سورة يس].
وأما الخامس وهو قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيِمٌ} فاعلم أنه تعالى لما بيّن حرمانهم من الثواب بيّن كونهم في العقاب الشديد المؤلم.


-------------------------------------------------------------------------
27- تفسيره قوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [سورة النساء].
قال القرطبي: وقوله: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يريد في قسمة المواريث فلم يقسمها ولم يعمل بها: {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} أي يخالف أمره {يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} والعصيان إن أريد به الكفر فالخلود على بابه، وإن أريد به الكبائر وتجاوز أوامر الله تعالى فالخلود مستعار لمدةٍ ما كما تقول خلّد الله ملكه قال زهير: ولا خالدًا إلا الجبال الرواسيا.


-------------------------------------------------------------------------
28- تفسير قوله تعالى: {إنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ}.
قال الرازي في التفسير الكبير: أي نعم شيء يعظكم به، أو نعم الذي يعظكم به، والمخصوص بالمدح محذوف، أي نعم شيء يعظكم به ذاك، وهو المأمور به من أداء الأمانات والحكم بالعدل.


-------------------------------------------------------------------------
29- تفسير قوله تعالى: {مَا أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [سورة النساء].
ما أصابك أي هنا تقدير أي الكفار يقولون أو قالوا للنبي وما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك أناس أظهروا الإسلام ثم لما لم يحصل لهم سعة في العيش بل أصابهم مَحْلٌ وضيق قالوا للنبي اعتراضًا وذمًا له ما أصابك أي يا محمد من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك أي فمن شؤم فعلك، فالخطاب هنا للنبي بدليل ما بعده: {وَأرْسَلْنَاكَ لِلنَّاس رَسُولا} [سورة النساء]. وهذا التفسير الصحيح الذي ذكره السيوطي وغيره.
والصواب في المعتقد أن ما أصاب الرسول من حسنة أي من نعمة ومن سيئة أي مصيبة كل من الله هنا السيئة هي المصيبة في الدنيا في الجسم والمال.


-------------------------------------------------------------------------
30- تفسير قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [سورة النساء].
قال ابن الجوزي في تفسيره: قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا} سبب نزولها أن مقيس بن صبابة وجد أخاه هشام بن صُبابة قتيلا في بني النجار وكان مسلمًا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأرسل رسول الله رسولا من بني فهر، فقال له: إيت بني النجار فأقرئهم مني السلام، وقل لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى مقيس بن صبابة وأن لم تعلموا له قاتلا فادفعوا إليه ديته" فأبلغهم الفهر ذلك، فقالوا: "والله ما نعلم له قاتلا، ولكنا نعطي ديته فأعطوه مائةً من الإبل ثم انصرفا راجعين إلى المدينة، فأتى الشيطان مقيس بن صُبابة فقال: تقبل دية أخيك فيكون عليك سُبَّة ما بقيت اقتل الذي معك مكان أخيك فرمى الفهريّ بصخرة فشدخ رأسه ثم ركب بعيرًا منها، وساق بقيتها راجعًا إلى مكة. فنزلت هذه الآية، ثم أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح فقتل، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والصواب في تفسير هذه الآية أنها تحمل على من قتل مسلمًا مستحلا لقتله، وما سواه فهو تكلف لا معنى له.


-------------------------------------------------------------------------
31- تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} [سورة النساء].
قال الرازي في تفسيره: اتفق المفسرون على أن أكثر هذه الايات نزلت في طعمة بن أبيرِق، ثم في كيفية الواقعة روايات: احدها: أن طعمة سرق درعًا فلما طُلبت الوديعة منه رمى واحدًا من اليهود بتلك السرقة، ولما اشتدت الخصومة بين قومه وبين قوم اليهودي جاء قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أن يعينهم على هذا المقصود وأن يلحق هذه الخيانة باليهودي، فهَمَّ الرسول عليه الصلاة والسلام لذلك فنزلت الآية.
وثانيها: أن واحدًا وضع عنده درعًا على سبيل الوديعة ولم يكن هناك شاهد، فلما طلبها منه جحدها.
وثالثها: أن المودع لما طلب الدرع زعم أن اليهودي سرق الدرع.
وأما قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا}: فقد فسره بعض أهل العلم بقوله: لعل القوم لما شهدوا على سرقة اليهودي وعلى براءة طعمة من تلك السرقة ولم يظهر للرسول صلى الله عليه وسلم ما يوجب القدح في شهادتهم همَّ بأن يقضي بالسرقة على اليهودي ثم لما أطلعه الله تعالى على كذب أولئك الشهود عرف أن ذلك القضاء لو وقع لكان خطاً. فكان استغفاره بسبب أنه همَّ بذلك وإن كان معذورًا عند الله فيه. وقيل قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللهَ} يحتمل أن يكون المراد: واستغفر الله لأولئك الذين يذبّون عن طعمة ويريدون أن يظهروا براءته عن السرقة. وأكثر استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن عن معصيةٍ، ومع هذا كان يكثر من الاستغفار كان كل يوم يستغفر، بل كان يستغفر للترقي من مقام الى أعلى ومن ظن أن الاستغفار لا يكون إلا من معصية فقد بَعُدَ عن الحقيقة.


-------------------------------------------------------------------------
32- تفسير قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة].
قال الخازن في تفسير الآية أن اليهود لما أنكروا حكم الله تعالى المنصوص عليه في التوراة وقالوا أنه غير واجب عليهم فهم كافرون على الإطلاق بموسى والتوراة وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرءان، وكانوا أي اليهود قد أنكروا الرجم والقِصاص.
واختلف العلماء فيمن أنزلت هذه الايات الثلاث وهي قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة]، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة المائدة]، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة المائدة]، فقال جماعة من المفسرين إن الايات الثلاث نزلت في الكفار لأن المسلم وإن ارتكب كبيرة لا يقال إنه كافر وهذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك، ويدل على صحة هذا القول ما رُوي عن البراء بن عازب قال أنزل الله تبارك وتعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} في الكفار كلها أخرجه مسلم.
وقال مجاهد في هذه الآيات الثلاث من ترك الحكم بما أنزل الله ردًّا لكتاب الله فهو كافر، ظالم، فاسق.
وقال عكرمة: "من أقر به أي بالحكم بغير ما أنزل الله فهو ظالم فاسق". وقال طاوس قلت لابن عباس أكافر من لم يحكم بما أنزل الله فقال به كفر وليس بكفر ينقل عن الملة كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر، ونحو هذا روي عن عطاء قال: "هو كفر دون الكفر".


-------------------------------------------------------------------------
33- تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة].
قال الخازن: قوله عزَّ وجلَّ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} نزلت هذه الآية في فنحَاص بن عازوراء اليهودي. قال ابن عباس: إن الله كان قد بسط على اليهود حتى كانوا أكثر الناس أموالا وأخصبَهم ناحية، فلما عصوا الله ومحمدًا صلى الله عليه وسلم وكذبوا به كف عنهم ما بسط عليهم من السعة فعند ذلك قال فنحاص يد الله مغلولة يعني محبوسة مقبوضةٌ عن الرزق والبذل والعطاء، فنسبوا الله تعالى إلى البخل والقبض، تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرًا، ولما قال هذه المقالة الخبيثة فنحاص ولم ينهه بقية اليهود ورضوا بقوله لا جرم أن الله تعالى أشركهم معه في هذه المقالة فقال تعالى إخبارًا عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} يعني نعمته مقبوضة عنا.
واعلم أن غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود بدليل قولِه تعالى لنبيه: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} والسبب أن اليد ءالةٌ لكل الأعمال لا سيما لدفع المال وإنفاقه وإمساكِه فأطلقوا اسم السبب على المسبَّب، وأسندوا الجود والبخل إلى اليد مجازًا، فقيل للجواد الكريم فَيَّاضُ اليد ومبسوط اليد، وقيل للبخيل مقبوض اليد.
وقوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} قال الزجاج رد الله عليهم فقال: أنا الجواد الكريم وهم البخلاء وأيديهم هي المغلولة الممسوكة، وقيل هذا دعاء على اليهود علمنا الله كيف ندعو عليهم فقال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِم} أي في نار جهنم، فعلى هذا هو من الغُلّ حقيقة أي شُدَّت أيديهم إلى أعناقهم وطرحوا في النار جزاء لهم على هذا القول ومعنى: {وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} عذبوا بسبب ما قالوا، فمن لعنتهم أنهم مسخوا في الدنيا قردة وخنازير، وضربت عليهم الذلة والمسكنة والجزية، وفي الآخرة لهم عذاب.
وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} يعني أنه تعالى جَوَاد كريم ينفق كيف يشاء، وهذا جواب لليهود وَردٌّ عليهم ما افتروا واختلقوه على الله، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا، وإنما أجيبوا بهذا الجواب على قدر كلامهم.
قال أبو حيان في البحر المحيط: معتقد أهل الحق أن الله تعالى ليس بجسم ولا جارحة، ولا يشبَّه بشيء من خلقه، ولا يُكيَّف ولا يتحيز ولا تحله الحوادث وكل هذا مقرر في علم أصول الدين، والجمهور على أن هذا استعارة عن جوده وإنعامه السابغ، وأضاف ذلك إلى اليدين جاريًا على طريقة العرب في قولهم فلان ينفق بكلتا يديه ومنه قوله:


يَداكَ يَدا مُجِدِّ فكَفٌّ مفيدَةٌ
_____ وكفٌّ إذا ما ضُنَّ بالمالِ تُنْفِقُ


ويؤيد أن اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينة الإنفاق، ومن نظر في كلام العرب عرف يقينًا أن بسط اليد وقبضها استعارة للجود والبخل، قال الشاعر:


جادَ الحمى بَسْطَ اليدين بوابِلٍ
_____ شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلاعُهُ وَوهادُه


وقال لبيد:


وَغداةَ رِيحٍ قد وَزغتَ وِقرَّةٍ
_____ قد أصبحتْ بيد الشِمالِ زِمامُها


-------------------------------------------------------------------------
34- تفسير قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [سورة المائدة].
قال الخازن: قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} اللام في قوله لتجدن لام القسم، وتقديره والله يا محمد إنك لتجدن أشد الناس عداوة للذين ءامنوا بك وصدقوك اليهود والذين أشركوا، وصف الله شدةعداوة اليهود وصعوبة إجابتهم إلى الحق وجعلهم قرناء المشركين عبدة الأصنام في العداوة للمؤمنين، وذلك حسدًا منهم للمؤمنين: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى} قيل: نزلت في أناس من أهل الكتاب ءامنوا بالرسول فأثنى عليهم قيل هو النجاشي وأصحابه، تلا عليهم جعفر بن ابي طالب حين هاجر إلى الحبشة سورة مريم، فآمنوا وفاضت أعينهم من الدمع، وقيل: هم وفد النجاشي مع جعفر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وكانوا سبعين بعثهم إلى الرسول عليهم ثياب الصوف اثنان وستون من الحبشة وثمانية من الشام وهم بحيرا الراهب وإدريس وأشرف وثمامة وقثم ودريد وأيمن، فقرأ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم: {يس} فبكوا وءامنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى فأنزل الله هذه الآية، وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ} يعني من النصارى: {قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} ولم يرد كل النصارى بل الآية نزلت فيمن ءامن من النصارى كالنجاشي وأصحابه. والقس والقسيس اسم رئيس النصارى والجمع قسيسون، وأما الرهبان فهو جمع راهب وقيل الرهبان واحد وجمعه رهابين وهم سكان الصوامع.


-------------------------------------------------------------------------
35- تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [سورة المائدة].
قال الخازن: نزلت هذه الآية عام الحديبية، وكانوا محرمين فابتلاهم الله بالصيد، فكانت الوحوش تغشى رجالهم من كثرتها، فهموا بأخذها وصيدها، فأنزل الله هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ}. اللام في ليبلونكم لام القسم أي ليختبرن طاعتكم من معصيتكم والمعنى يعاملكم معاملة المختبر بشيء من الصيد يعني صيد البر دون البحر.
وقيل أراد الصيد في حالة الإحرام دون الإحلال، وإنما قال: {بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ} ليُعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي تزل عندها أقدام الثابتين ويكون التكليف فيها صعبًا شاقًا كالابتلاء ببذل الأموال والأرواح، وإنما هو ابتلاء يسهل كما ابتلي أصحاب السبت بصيد السمك فيه، لكن الله عزّ وجلّ بفضله وكرمه عصم أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يصطادوا شيئًا في حالة الابتلاء ولم يعصم أصحاب السبت فمسخوا قردة وخنازير.
وقوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} يعني الفرخ والبيض وما لا يقدر أن يفر من صغار الصيد: {وَرَمَاحُكُم} يعني كبار الصيد مثل حمر الوحش ونحوها. وقوله: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} قيل هذا مجاز لأن الله تعالى عالم لم يزل ولا يزال واختلفوا في معناه فقيل نعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم وقيل ليُظهِرَ المعلوم أي ما يعلمه وهو خوف الخائف وقيل هذا على حذف المضاف والتقدير: ليعلم أولياء الله من يخافه بالغيب، هو في المعنى واحد والأول أرجح.


-------------------------------------------------------------------------
36- تفسير قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء} [سورة المائدة].
قال القرطبي: وقيل إن القوم أي الحواريين - لم يشكوا في استطاعة البارئ سبحانه لانهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك للرجل: هل يستطيع فلان أن يأتيَ وقد علمت أنه يستطيع، فالمعنى: هل يفعل ذلك؟ وهل يجيني إلى ذلك أم لا؟
وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره عِلم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك، كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى} وقد كان إبراهيم علم ذلك عِلم خبر ونظر، ولكن إراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة، لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات وعلمَ المعاينة لا يدخله شيء من ذلك، ولذلك قال الحواريون: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.
ليس معناه أن علم إبراهيم يحتمل الشك.


-------------------------------------------------------------------------
37- تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}.
قال القرطبي: اختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال -وليس هو باستفهام وإن خّرج مخرج الاستفهام- على قولين:
أحدهما: أنه سأله عن ذلك توبيخًا لمن ادّعى عليه ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغَ في التكذيب وأشدَّ في التوبيخ والتقريع.
الثاني: قصد بهذا السؤال تعريفَه أن قومه غيروا بعده وادعوا عليه ما لم يقله.
فإن قيل: فالنصارى لم يتخذوا مريم إلهًا فكيف قال ذلك فيهم؟
فقيل: لما كان من قولهم أنها لم تلد بشرًا وإنما ولدت إلهًا لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضية بمثابة من ولدته، فصاروا حين لزمهم ذلك بمثابة القائلين له. اهـ.
قال بعض المفسرين: وقوله تعالى إخبارًا عن عيسى عليه السلام: {قَالَ سُبحَانَكَ} يعني تنزيهًا لك عن النقائص وبراءة لك من العيوب، وقوله: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي لا أدعي لنفسي ما ليس من حقها، يعني أنني مربوب ولست بربَ وعابدٌ ولست بمعبود، ثم قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أي تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك وقيل المعنى تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم.



ليس المعنى أن الله له نفس بمعنى الروح بل الله هو خالق الروح وخالق الجسد، الله ليس روحًا وجسدًا ولا هو روح فقط ولا هو جسدٌ بلا روح: {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} ما كان وما يكون وما لم يكن وما هو كائن. أ.هـ

ملخص: 
وتلخيصا لهذا نورد قول الحافظ البيهقي رحمه الله حيث قال: "وفي الجملة يجب أن يُعلم أن استواء الله سبحانه وتعالى ليس باستواء اعتدال عن اعوجاج، ولا استقرار في مكان، ولا مماسة لشيء من خلقه، لكنه مستو على عرشه كما أخبر بلا كيف بلا أين، وأن إتيانه ليس بإتيان من مكان إلى مكان، وأن مجيئه ليس بحركة، وأن نزوله ليس بنقلة، وأن نفسه ليس بجسم، وأن وجهه ليس بصورة، وأن يده ليست بجارحة، وأن عينه ليست بحدقة وإنما هذه أوصاف جاء بها التوقيف فقلنا بها ونفينا عنها التكييف، فقد قال تعالى: ليس كمثله شىء ، وقال: ولم يكن له كفواً أحد، وقال: هل تعلم له سمياً"، انتهى من كتابه الاعتقاد والهداية.  والله أعلم. 

هذه عقيدة أهل السنة والجماعة في كل الأرض. فنسأل الله الثبات على سنة النبي محمد صلى الله عليه وءاله وصحبه وسلم. والله أعلم.


حديث: خلق الله ءادم على صورته


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم [يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبعون ما كانوا يعبدون وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله عز وجل في غير الصورة التي كانوا يعرفون فيقول: أنا ربكم. فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم في الصورة التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا]. ولفظ البخاري [فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم فيقولون أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء فيقول هل بينكم وبينه ءاية تعرفونه؟ فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه فيسجد لـه كل مؤمن ويبقى من كان يسجد رياء وسمعة فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا]. الحديث....


تمسك بهذا الحديث مشبهة العصر تبعا لشيخهم ابن تيمية وسلفه اليهود فأثبتوا لله صورة حقيقية وتحولا من حال إلى حال ولا حجة لهم فيه لقيام الدليل العقلي على أن الله تعالى منـزه عن الجسمية لأنه لو كان الله تبارك وتعالى جسما لكان صورة وعَرَضا فجاز عليه ما يجوز على الأجسام وافتقر إلى صانع، فلا يبقى إلا التأويل. قال الإمام أبو سليمان الخطابي فيما نقله البيهقي في الأسماء والصفات ما نصه [وأما ذكر الصورة في هذه القصة فإن الذي يجب علينا وعلى كل مسلم أن يعلمه أن ربنا ليس بذي صورة ولا هيئة فإن الصورة تقتضي الكيفية وهي عن الله وعن صفاته منفية وقد يتأول معناها على وجهين أحدهما: أن تكون الصورة بمعنى الصفة كقول القائل صورة هذا الأمر كذا وكذا يريد صفته فتوضع الصورة موضع الصفة، والوجه الآخر: أن المذكور من المعبودات في أول الحديث إنما هي صور وأجسام كالشمس والقمر والطواغيت ونحوهما ثم لما عطف عليها ذكر الله سبحانه خرج الكلام فيه على نوع من المطابقة ـ قال الكوثري: أي صنعة المشاكلة في علم البديع ـ فقيل: يأتيهم الله في صورة كذا إذا كانت المذكورات قبله صورا وأجساما، وقد يحمل ءاخر الكلام على أوله في اللفظ ويعطف بأحد الاسمين على الآخر والمعنيان متباينان وهو كثير في كلامهم كالعمرين والأسودين والعصرين ومثله في كلام العرب كثير ومما يؤكد التأويل الأول وهو أن معنى الصورة الصفة قوله من رواية عطاء بن يسار عن أبي سعيد: فيأتيهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها وهم لم يكونوا رأوه قط قبل ذلك. فعلمت أن المعنى في ذلك الصفة التي عرفوه بها، وقد تكون الرؤية بمعنى العلم كقوله {وأرنا مناسكنا} أي علمنا. قال أبو سليمان: ومن الواجب في هذا الباب أن نعلم أن مثل هذه الألفاظ التي تستشنعها النفوس إنما خرجت على سعة مجال كلام العرب ومصارف لغاتها...


قال الإمام البيهقي في كتابه الأسماء والصفات ما نصه [الصورة هي التركيب، والـمُصوَّر المركَّب قال الله عز وجل {يا أيها الإنسان ما غرَّك بربك الكريم الذي خلقكَ فسوَّاك فعدَلَك في أي صـورةٍ ما شاء ركَّبك} ولا يجوز أن يكون الباري تعالى مصوَّرا ولا أن يكون له صورة لأن الصورة مختلفة والهيئات متضادة، ولا يجوز اتصافه بجميعها لتضادها ولا يجوز اختصاصه ببعضها إلا بمخصص لجواز جميعها على مَن جاز عليه بعضها فإذا اختص ببعضها اقتضى مخصصا خصصه به وذلك يوجب أن يكون مخلوقا وهو محال فاستحال أن يكون مصوَّرا وهو الخالق البارئ المصوِّر...



قال الإمام الحجة بدر الدين بن جماعة قاضي القضاة في كتابه إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل ما نصه [اعلم أن الأدلة العقلية والنقلية تحيل الصورة التي هي التخطيط على الله تبارك وتعالى فوجب صرفها عن ظاهرها إلى ما يليق بجلاله تبارك وتعالى مما هو مستعمل في لغة العرب وهو الصفة والحالة، يقال: كيف صورة هذه الواقعة وكيف صورة هذه المسألة وفلان من العلم على صورة كذا وكذا فالمراد بجميع ذلك الصفة لا الصورة التي هي التخطيط، فعلى هذا الصورة هنا بمعنى الصفة وتكون [في] بمعنى [الباء] فمعنى الصورة التي أنكروها: أولا: أنه أظهر لهم شدة البطش والبأس والعظمة والأهوال والجبروت وكان وعدهم في الدنيا يلقاهم في القيامة بصفة الأمن من المخاوف والبشرى والعفو والإحسان واللطف فلما أظهر لهم غير الصفة التي هي مستقرة في نفوسهم أنكروها واستعاذوا منها، وقوله: فإذا أتانا ربنا عرفناه أي بما وعده من صفة اللطف والرحمة والإحسان ولذلك قال: فيكشف عن ساق أي يكشف عن تلك الشدة المتقدمة وتظهر لهم صفة الرحمن فيسجدون شكرا له. ثانيا: يأتيهم في الصورة التي يعرفونها المراد التي يعرفونها في الدنيا لأنهم لم يعرفوه يوم القيامة قبل ذلك بصورة متقدمة ولا رؤية سابقة فدل على أن المراد التي يعرفونها في الدنيا ولا خلاف بين الخلائق أجمع أن الله تعالى لم تُعرف له في الدنيا صورة وإنما عرفت صفاته تعالى وما وعد به الصالحين في القيامة من لطفه وأمنه وبشارتهم بجنته. فإن قيل: فلم عدل عن لفظ الصفة إلى لفظ الصورة؟ قلنا: لـما كانت المتبوعات المتقدمة في الحديث لعابديهم صورا جاء بلفظ الصورة مشاكلة بين المعاني والألفاظ فإنه من أنواع البلاغة....


 وأما ما رواه البخاري في صحيحه ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [خلقَ الله ءادم على صورته]. قال الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي ما نصه [قلتُ: للناس في هذا الحديث مذهبان أحدهما: السكوت عن تفسيره، والثاني: الكلام في معناه، واختلف أرباب هذا المذهب في الهاء على مَـن تعود؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: تعود على بعض بني ءادم وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل يضرب رجلا وهو يقول: قبَّح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك. فقال: إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه فإن الله تعالى خلق ءادم على صورته. قالوا وإنما اقتصر بعض الرواة على بعض الحديث فيحمل المقتصر على المفسَّر قالوا: فوجه من أشبه وجهك يتضمن سب الأنبياء والمؤمنين. وإنما خص ءادم بالذكر لأنه هو الذي ابتدأت خلقةُ وجهه هلى هذه الصورة التي احتُذيَ عليها بعده وكأنه نبه على أنك سببت ءادم وأنت من أولاده وذلك مبالغة في زجره فعلى هذا تكون الهاء كناية عن المضروب ومن الخطأ الفاحش أن ترجع إلى الله عز وجل بقوله: ووجه من أشبه وجهك فإنه إذا نُسبَ إليه شبهٌ سبحانه وتعالى كان تشبيها صريحا. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه فإن الله تعالى خلق ءادم على صورته. القول الثاني: إن الهاء كناية عن اسمين ظاهرين فلا يصح أن يضاف إلى الله عز وجل لقيام الدليل على أنه ليس بذي صورة فعادت إلى ءادم ومعنى الحديث: إن الله خلق ءادم على صورته التي خلقه عليها تامّـا لم ينقله من نطفة إلى علقة كبنيه هذا مذهب أبي سليمان الخطابي وقد ذكره ثعلب في أماليه...


قال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى فيما نقله البيهقي في الأسماء والصفات ما نصه [قوله: خلق الله ءادم على صورته الهـاء وقعت كناية بين اسمين ظاهرين فلم تصلح أن تصرف إلى الله عز وجل لقيام الدليل على أنه ليس بذي صورة سبحانه ليس كمثله شىء فكان مرجعها إلى ءادم عليه السلام. فالمعنى أن ذرية ءادم إنما خُلقوا أطوارا كانوا في مبدأ الخلقة نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم صاروا صورا أجنة إلى أن تتم مدة الحمل فيولدون أطفالا وينشأون صغارا إلى أن يكبروا فتطول أجسامهم....


قال الإمام النووي في شرحه على مسلم ما نصه [وأما قوله صلى الله عليه وسلم: فإن الله خلق ءادم على صورته. فهو من أحاديث الصفات وقد سبق في كتاب الإيمان بيان حكمها واضحا ومبسوطا وأن من العلماء من يُمسك عن تأويلها ويقول: نؤمن بأنها حق وأن ظاهرها غير مراد ولها معنى يليق بها وهذا مذهب جمهور السلف وهو أحوط وأسلم، والثاني: أنها تتأول على حسب ما يليق بتنـزيه الله تعالى وأنه ليس كمثله شىء. قال المازري: هذا الحديث بهذا اللفظ ثابت ورواه بعضهم: إن الله خلق ءادم على صورة الرحمن. وليس بثابت عند أهل الحديث وكأن من نقله رواه بالمعنى الذي وقع له وغلط في ذلك، قال المازري: وقد غلط ابن قتيبة في هذا الحديث فأجراه على ظاهره وقال: لله تعالى صورة لا كالصور، وهذا الذي قاله ظاهر الفساد لأن الصورة تفيد التركيب وكل مركب محدث والله تعالى ليس بمحدث فليس هو مركبا فليس مصورا قال: وهذا كقول المجسمة جسم لا كالأجسام، لما رأوا أهل السنة يقولون: الباري سبحانه وتعالى شىء لا كالأشياء طردوا الاستعمال فقالوا: جسم لا كالأجسام، والفرق أن لفظ شىء لا يفيد الحدوث ولا يتضمن ما يقتضيه وأما جسم وصورة فيتضمنان التأليف والتركيب وذلك دليل الحدوث، قال: العجب من ابن قتيبة في قوله: صورة لا كالصور، مع أن ظاهر الحديث على رأيه يقتضي خلق ءادم على صورته فالصورتان على رأيه سواء فإذا قال لا كالصور تناقض قوله....


قال الحافظ ابن الجوزي [وقال القاضي أبو يعلى ـ المجسم ـ يطلق على الحق تسمية الصورة لا كالصور كما أطلقنا اسم ذاته. قلت: وهذا تخليط لأن الذات بمعنى الشىء وأما الصورة فهي هيئة وتخاطيط وتأليف وتفتقر إلى مصوِّر ومؤلِّف وقول القائل: لا كالصور، نقض لما قاله وصار بمثابة من يقول: جسم لا كالأجسام فإن الجسم ما كان مؤلفا فإذا قال: لا كالأجسام نقض ما قال....


قال ابن فورك في كتابه مشكل الحديث ما نصه [واعلم أن بعض المتكلمين في تأويل هذا الخبر حاد عن وجه الصواب وسلك طريق الخطأ والمحال فيه وهو ابن قتيبة توهما منه أنه مستمسك بظاهره غير تارك له فقال: إن لله عز وجل صورة لا كالصور كما أنه شىء لا كالأشياء فأثبت لله تعالى صورة قديمة زعم أنها لا كالصور وأن الله تعالى خلق ءادم على تلك الصورة، وهذا جهل من قائله وتوغل في تشبيه الله تعالى بخلقه والعجب منه أنه أول الخبر ثم زعم أن لله صورة لا كالصور ثم قال: إن ءادم مخلوق على تلك الصورة وهذا كلام متناقض متهافت يدفع أوله ءاخره وذلك أن قوله: لا كالصورة ينقض قوله: إن الله خلق ءادم عليها، لأن المفهوم من قول القائل: فعلت على صورة هذا أي ماثلته به واحتذيت في فعله به وهذا يوجب أن صورة ءادم عليه السلام كصورته جل ثناؤه....


قال الحافظ أحمد بن عمر القرطبي في كتابه المفهم لِـما أَشكل من تلخيص كتاب مسلم ما نصه [ولا يكون في الحديث إشكالٌ يُـوهم في حق الله تعالى تشبيها وإنما أشكل ذلك على مَـن أعاد الضمير في صورته على الله تعالى وذلك ينبغي ألاّ يُـصار إليه شرعا ولا عقلا أما العقل فيحيل الصورة الجسمية على الله تعالى وأما الشرع فلم ينص على ذلك نصا قاطعا ومحال أن يكون ذلك فإن النص القاطع صادق والصادق لا يقول المحال فيتعيَّن عَودُ الضمير على المضروب لأنه الذي سبق الكلام لبيان حكمه. وقد أعادت المشبهة هذا الضمير على الله تعالى فالتزموا القولَ بالتجسيم وذلك نتيجة العقل السقيم والجهل الصميم وقد بيّنا جهلهم وحققنا كفرهم فيما تقدَّم، ولو سلَّمنا أن الضمير عائد على الله تعالى فللتأويل فيه وجه صحيح وهو أن الصورة قد تُطلق بمعنى الصِّفة كما يقال: صورة المسألة كذا أي صفتها وصوَّر لي فلان كذا فتصوَّرته أي وصفه لي ففهمته وضبطُ وصفه في نفسي وعلى هذا فيكون معنى قوله: إن الله خلق ءادم على صورته أي خلقه موصوفا بالعلم الذي فصل به بينه وبين جميع أصناف الحيوانات وخصه منه بما لم يخصَّ به أحدا من ملائكة الأرضين والسموات، وقد قلنا فيما تقدم: إن التسليم في المتشابهات أسلم والله ورسوله أعلم....


قال الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات [وذهب بعض أهل النظر إلى أن الصورة كلها لله تعالى على معنى الملك والفعل ثم ورد التخصيص في بعضها بالإضافة تشريفا وتكريما كما يقال ناقة الله وبيت الله ومسجد الله وعبر بعضهم بأنه سبحانه ابتدأ صورة ءادم لا على مثال سبق ثم اخترع مَن بعده على مثاله فخص بالاضافة والله أعلم.....




(تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُوحُ إِلَيْه)
(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِب).


في كتاب "فتح الباري شرح صحيح البخاري" للإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني الذي توفي سنة 852هـ، طبعة دار الكتب العلمية، المجلد الرابع عشر، الجزء الثالث عشر، الذي طبع سنة 1425هـ الطبعة الأولى. في هذا الكتاب، في الصحيفة 355، العسقلاني رحمه الله يشرح قول الله تعالى : (تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُوحُ إِلَيْه) وقول الله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِب). فإليكم ما يقول. يقول : "قال البيهقي : صعود الكلام الطيب والصدقة الطيبة عبارة عن القبول، وعروج الملائكة هو إلى منازلهم في السماء. ثم قال : وقال ابن بطال – وابن بطال هو أحد شراح البخاري توفي سنة 449هـ. العسقلاني ينقل ما قال ابن بطال ويقره عليه فيقول - وقال ابن بطال : غرض البخاري في هذا الباب الرد على الجهمية المجسمة في تعلقها بهذه الظواهر، وقد تقرر أن الله ليس بجسم فلا يحتاج إلى مكان يستقر فيه، فقد كان ولا مكان، وإنما أضاف المعارج إليه إضافة تشريف، ومعنى الارتفاع إليه أي اعتلاؤه مع تنزيهه عن المكان". اهـ. هذا كلام ابن حجر، هذا كلام أهل السنة وهذا ما نحن عليه، والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا وأبدا.




في كتاب "تفسير البحر المحيط" لأبي حيان الأندلسي المتوفى سنة 745 هـ، هذا الكتاب هو الجزء السابع طبع دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى سنة 1422 هـ في الصحيفة 290 يقول: "وصعود الكلام إليه تعالى مجاز في الفاعل وفي المسمى إليه لأنه تعالى ليس في جهة ولأن الكلم ألفاظ لا توصف بالصعود لأن الصعود من الأجرام يكون وإنما ذلك كناية عن القبول ووصفه بالكمال". انتهى كلام أبي حيان الأندلسي والحمد لله رب العالمين.


(وَهُوَ الله فِي السَّمَـــوَاتِ وَفِي الأَرْض).


-الحمد لله الذي لا معبود بحق سواه. أما بعد، هذا "تفسير القرطبي" للإمام القرطبي الذي توفي سنة 671هـ، في المجلد الثالث الجزء السادس، طبع دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية سنة 1424هـ، يقول القرطبي في تفسير قول الله تعالى : (وَهُوَ الله فِي السَّمَـــوَاتِ وَفِي الأَرْض). يقول : "أي وهو الله المعظم أو المعبود أي بحق في السمــوات وفي الأرض. ثم يقول والقاعدة تنزيهه جلّ وعزّ عن الحركة والانتقال وشغل الأمكنة". انتهى كلام القرطبي. هذا ما نحن عليه والحمد لله رب العالمين.


(ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْش)


هذا "كتاب التفسير الكبير" للإمام فخر الدين الرازي الشافعي الذي توفي سنة 604هـ. في هذا الكتاب في الجزء الرابع عشر من طبعة دار الكتب العلمية الطبعة الثانية سنة 1425هـ، في الصحيفة 83 يفسر قول الله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْش). فيقول : "أما قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْش). فاعلم أنه لا يمكن أن يكون المراد منه كونه مستقرا على العرش ويدل على فساده وجوه عقلية ووجوه نقلية". ثم قال: "والكل باطل فالقول بأنه في المكان والحيز باطل قطعا". انتهى كلام الإمام فخر الدين الرازي. هذه عقيدة المسلمين الله لا يجلس على العرش الله لا يسكن السماء الله موجود بلا جهة ولا مكان



(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُم).
-ممن نقل إجماع المسلمين أن الله تبارك وتعالى موجود بلا مكان، الإمام فخر الدين الرازي الشافعي المتوفى سنة 604هـ في كتابه الذي سماه "التفسير الكبير". هذا الكتاب في الجزء 29 من طبعة دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية سنة 1425هـ في تفسيره للآية رقم 4 من سورة الحديد في الصحيفة 187 يقول الإمام الرازي: "قال المتكلمون هذه المعية إما بالعلم وإما بالحفظ والحراسة وعلى التقديرين فقد انعقد الإجماع على أنه سبحانه ليس معنا بالمكان والجهة والحيز فإذا قوله وهو معكم لا بد فيه من التأويل وإذا جوزنا التأويل في موضع وجب تجويزه في سائر المواضع". انتهى كلام الإمام الرازي في تفسيره لقول الله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُم). والحمد لله رب العالمين الذي وفقنا لهذا البرهان والبيان.


.
(وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ)



اعلم أرشدنا الله وإياك أن الله تعالى لا يسكن السماء ولا يجلس على العرش فهو سبحانه موجود بلا مكان. وإليك يا أخي المسلم ما يقوله الإمام القرطبي الذي توفي سنة 671هـ في تفسيره للقرآن الكريم في المجلد الثالث في الجزء السادس طبع دار الكتب العلمية الطبعة الثانية سنة 1424هـ في الصحيفة 257 في تفسير قول الله تعالى : (وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ). يقول : "القهر الغلبة والقاهر الغالب". ثم يقول: "ومعنى فوق عباده فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم أي هم تحت تسخيره لا فوقية مكان، كما تقول السلطان فوق رعيته أي بالمنزلة والرفعة". انتهى كلام القرطبي. يقول الله تعالى : (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين). والحمد لله الذي وفقنا إلى هذا البيان.



(أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد).


هذا كتاب "سنن النسائي بشرح الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي" الذي توفي سنة 911هـ والحاشية للإمام السندي. هذا الكتاب طبع دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان، في الصحيفة 227 يقول الإمام السندي في حاشيته على شرح الإمام السيوطي لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم : (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد). يقول السندي في لحاشية : "قال القرطبي : هذا أقرب بالرتبة والكرامة، لا بالمسافة والمساحة، لأنه منزه عن المكان والزمان، وقال البدر ابن الصاحب في تذكرته : في الحديث إشارة إلى نفي الجهة عن الله تعالى". ثم يقول السندي : "ثم الكلام في دلالة الحديث على نفي الجهة وإلا فكونه تعالى منزه عن الجهة معلوم بأدلته والله أعلم".اهـ. هذا ما عليه كبار العلماء، والحمد لله الذي وفقنا إلى هذا البرهان والبيان.


(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله)



51-سبحان الذي أين الأين فلا أين له. هذا كتاب "تفسير البحر المحيط" للإمام أبي حيان الأندلسي المتوفى سنة 745 هـ هذا الكتاب طبع دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى سنة 1422 هـ في الجزء الأول في الصحيفة 531 يفسر قول الله تعالى : (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله). يقول : "هذه الآية رد على من يقول إنه في حيز وجهة، لأنه لما خيّر في استقبال جميع الجهات دلّ على أنه ليس في جهة ولا حيز ولو كان في حيز لكان استقباله والتوجه إليه أحق من جميع الأماكن، فحيث لم يخصص مكانا، علمنا أنه لا في جهة ولا في حيز، بل جميع الجهات في ملكه وتحت ملكه فأي جهة توجهنا إليه فيها على وجه الخضوع كنا معظمين له ممتثلين لأمره". انتهى كلام الإمام أبي حيان الأندلسي، وهذا هو اعتقاد أهل السنة والجماعة والحمد لله رب العالمين.



: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا).


54-هذا المجلد العاشر من "تفسير القرطبي" للإمام أبي عبد الله محمد القرطبي الذي توفي سنة 671هـ. في الجزء العشرين، من طبعة دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية سنة 1424هـ، في الصحيفة 37 هذا الإمام يفسر قول 
: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)
الله سبحانه وتعالى : (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا). يقول : "قوله تعالى : (وَجَاءَ رَبُّكَ) أي أمره وقضاؤه". ثم يقول: "والله جل ثناؤه لا يوصف بالتحول من مكان إلى مكان وأنّى له التحول والانتقال ولا مكان له ولا أوان ولا يجري وقت ولا زمان". انتهى كلام الإمام القرطبي. هذا إجماع المسلمين، هذه عقيدة الأنبياء، الله تبارك و تعالى موجود بلا مكان والحمد له سبحانه وتعالى الذي أعاننا إلى هذا البرهان والبيان.




كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان. سبحان الذي يغير ولا يتغير. هذا كتاب "صحيح مسلم" بشرح الإمام النووي الدمشقي الشافعي المتوفى 677هـ. في الجزء الخامس طبع دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية سنة 1424هـ في الصحيفة 22 يقول النووي: "قال القاضي عياض: لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء). ونحوه ليست على ظاهرها بل متأوَّلة عند جميعهم". والله تعالى أعلم وأحكم.




(لا تفضلوني على يونس بن متّى)


 في كتاب "بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما لها وما عليها"، هذا الكتاب هو شرح مختصر صحيح البخاري المسمى "جمع النهاية في بدء الخير والغاية"، للإمام المحدث الورع أبي محمد بن عبد الله بن أبي جمرة الأندلسي المتوفّى سنة 699هـ، هذا المجلد الثاني الجزء الثالث، طبع دار الكتب العلمية سنة 1425هـ، الطبعة الأولى. يقول في الصحيفة 176: "(الرَّحْمَانُ عَلَى العَرَشِ اسْتَوَى)، أي استوى أمره ونهيه وما شاء من حكمه، ومثله قوله تعالى (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَك) أي جاء أمر ربك وهذا مستعمل في ألسنة العرب كثيرا، ومما يزيد هذا بيانا وإيضاحا، أعني نفي الذات عن الحلول والاستقرار قوله عليه السلام: (لا تفضلوني على يونس بن متّى). والفضيلة قد وُجدت بينهما في عالم الحس، لأنه عليه السلام رفع حتى رقى السبع الطباق ويونس عليه السلام ابتلعه الحوت في قعر البحار، فالفضيلة موجودة مرئية في هذا العالم الحسي، ولم يكن عليه السلام لينفي شيئا موجودا حسا ولا يقول إلا حقا، فلم يبق معنا لقوله عليه السلام : لا تفضلوني على يونس. إلا بالنسبة إلى القرب من الله سبحانه، فمحمد عليه السلام فوق السبع الطباق، ويونس عليه السلام في قعر البحار وهما بالنسبة إلى القرب من الله سبحانه على حد سواء، ولو كان عز وجل مقيدا بالمكان أو الزمان لكان النبي صلى الله عليه وسلم أقرب إليه، فثبت بهذا نفي الاستقرار والجهة في حقه جل جلاله". اهـ. والحمد لله وسبحان الله والله أكبر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك

  حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك تأليف: أبي الفضل عبد الله محمد الصديقي الغماري تقديم الترك ليس بحجة في شرعنا … لا يقتضي منعًا ولا إيجابا فم...