قال الإمام الكبير حجة المتكلمين أبو المظفر
الإسفراييني في كتابه التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين
الباب الخامس عشر في بيان اعتقاد أهل السنة
والجماعة وبيان مفاخرهم ومحاسن أحوالهم ويقع في هذا الباب فصول ثلاثة :-
أحدها في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة
الثاني في بيان تحقيق النجاة لهم بالطرق
التي ننبه عليها
الثالث في بيان فضائلهم
الفصل الأول في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة
السليم عن جميع ما ذكرناه من الضلالات فهو:-
1- أن تعلم أن العالم بجميع أركانه وأجسامه
وما يشتمل عليه من أنواع النبات والحيوانات وجميع الأفعال والأقوال والاعتقادات كلها
مخلوق كائن عن أول حادث بعد ان لم يكن شيئا ولا عينا ولا ذاتا ولا جوهرا ولا عرضا والدليل
على حدوثها أنها تتغير عليها الصفات وتخرج من حال إلى حال وحقيقة التغيرات أن تبطل
حالة وتحدث أخرى فأما الحالة التي حدثت فحدوثها معلوم بالضرورة والمشاهدة وما كان ضروريا
لم يفتقر إلى الإستدلال عليه ولا يجوز أن يقال أنها انتقلت من باطن الجسم إلى ظاهره
لاستحالة الانتقالات على الصفات وأما الحالة التي بطلت لو كانت قديمة لم تبطل فبطلانها
يدل على حدوثها لأن القديم لا يبطل وإنما قلنا إن القديم لا يبطل لأن خروج الذات عن
صفة واجبة له في حال محال لأنها لو جاز خروجها عن تلك الصفة لصارت جائزة الوجود وما
كان واجب الوجود لا يصير جائز الوجود كما أن جائز الوجود لا يصير واجب الوجود بحال
لأنهما صفتان متناقضتان وإذا تقرر هذه الجملة أن صفات الأجسام مخلوقة ثبت أن الأجسام
مخلوقة لأن ما لا يخلو من الحوادث لا يستحق أن يكون محدثا بالكسر وما لا يستحق أن يكون
محدثا كان محدثا بالفتح مثلها وقد نبه الله تعالى في كتابه على تحقيق هذه الدلالة وأثنى
عليها وسماها حجة ومن علي الخليل إبراهيم عليه السلام بإلهام هذه الدلالة إياه وجعلها
سببا لرفع درجته حيث قال وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين
إلى قوله نرفع درجات من نشاء إن ربك عليم حكيم استدل بالتغير على حدوث الكواكب والشمس
والقمر ثم إن الله تعالى نبه على هذه الطريقة من الإستدلال والإحتجاج فقال إن في خلق
السموات والأرض وإختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب وقال وإلهكم إله واحد لا
إله إلا هو الرحمن الرحيم إلى قوله إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار
والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله في السماء من ماء فأحيا به
الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض
لآيات لقوم يعقلون .
2- وأن تعلم أن المخلوق لا بد له من خالق لأن
الأجسام لو كانت بأنفسها مع تجانس ذواتها لم تختلف بالصفات والأوقات والأحوال والمحال
فلما اختلفت علمنا أن لها مخصصا قدم ما قدم وأخر ما أخر وخص كل واحد منها بما اختص
به من الصفات لولاه لم يقع الاختصاص في شيء من الأوصاف لأن الاختصاص بأحد الجائزين
يقتضي مخصصا لولاه لم يقع التخصيص به وقد نبه الله تعالى على أصل هذه الدلالة بقوله
أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون معناه أم خلقوا من غير خالق كأنه قال من غير شيء
خلقهم لما تقرر من استحالة ثبوتما ثبت بوصف الخلق من غير خالق خلق ولا صانع دبر وصنع
وأنت تعلم أيضا أن خالق الخلق قديم لأنه لو كان محدثا لافتقر إلى محدث وكان حكم الثاني
والثالث وما انتهى إليه كذلك وكان كل خالق يفتقر إلى خالق آخر لا إلى نهاية وكان يستحيل
وجود المخلوق والخالق جميعا لأن ما شرط وجوده بوجود ما لا نهاية له من الأعداد قبله
لم يتقرر وجوده لاستحالة الفراغ عما لا نهاية له لتنتهي النوبة إلى ما بعد وأصل هذه
الدلالة في القرآن وهو قوله هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم فبين
أنه كان قبل ما يشار إليه بأنه محدث وقوله تعالى الله لا إله إلا هو الحي القيوم والقيوم
مبالغة من القيام وهو الثبات والوجود وهذا دليل على اتصافه بالوجود في جميع الأحوال
وأنه لا يجوز وصفه بالعدم بحال وذلك حقيقة القدم وقوله تبارك الذي بيده الملك وهو على
كل شيء قدير و تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا فإن البركة هي
الثبات وأصله من البرك والبركة والبروك وتبارك مبالغة في معناه وهذا يوجب له الوجود
في جميع الأحوال لم يزل ولا يزال وقد ورد في خبر عمران بن حصين أن النبي قال كان الله
ولم يكن معه شيء وهذا يوجب الكون في جميع الأحوال.
3- وأن تعلم أن خالق العالم واحد لأنه لو كان
اثنين ولم يقدر أحدهما على كتمان شيء من صاحبه كانت قدرتهما ناقصة متناهية وأن قدر
أحدهما على كتمان شيء من صاحبه كان علم كل واحد منهما ناقصا متناهيا ومن كان علمه أو
قدرته متناهيا ناقصا لم يكن إلها صانعا بل كان مخلوقا مصنوعا وقد نبه الله على هذه
الدلالة بقوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وقال قل لو كان معه آلهة كما
يقولون إذا لا تبغوا إلى ذي العرش سبيلا وفي تحقيق التوحيد وردت سورة الإخلاص إلى آخرها
وقوله تعالى قل إنما يوحي إلي إنما إلهكم إله واحد .
4- وأن تعلم أن الخالق لشيء ثابت موجود لا
يجوز وصفه بالعدم لأن الخالق لا يكون خالقا إلا بأن يكون قادرا ولا يكون قادرا إلا
والقدرة قائمة والمعدوم لا يقبل هذه الصفات وقال الله في تحقيقه الله لا إله إلا هو
الحي القيوم وقال تعالى فتبارك الله رب العالمين وذلك يوجب الثبات والقيام والوجود
في جميع الأحوال من غير تغير ولا زوال.
5- وأن تعلم أن الباري سبحانه وتعالى لا يجوز
وصفه بالحاجة فإنه يلزمه أن يخرج من وصف الحاجة إلى وصف الإستغناء وذلك يتضمن بطلان
صفة وحدوث صفة والقديم سبحانه وتعالى لا يجوز عليه البطلان ولا الحدوث واصلة قوله سبحانه
وتعالى والله الغني وأنتم الفقراء بين بهذا أن صفة الحاجة والافتقار عليه محال.
6- وأن تعلم أن خالق العالم قائم بنفسه ومعناه
أنه بوجوده مستغن عن خالق يخلقه وعن محل يحله وعن مكان يقله قال الله تعالى الله لا
إله إلا هو الحي القيوم مبالغة عن القيام والثبات على الإطلاق من غير حاجة إلى صانع
يصنعه أو موجد يوجده أو مكان يحله.
7 - وأن تعلم أن القديم سبحانه يرى وتجوز رؤيته
بالأبصار لأن ما لا تصح رؤيته لم يتقرر وجوده كالمعدوم وكل ما صح وجوده جازت رؤيته
كسائر الموجودات ودلائل هذه المسألة في كتاب الله كثيرة منها قوله تعالى تحيتهم يوم
يلقونه سلام واللقاء إذا أطلق في اللغة وقع على الرؤية خصوصا حيث لا يجوز فيه التلاقي
بالذوات والتماس بينهما ومنها قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ومنها قوله
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها
خالدون ولا زيادة على نعيم الجنة غير رؤية الرب جل جلاله وقد ورد عن الرسول تفسير هذه
الآية بذلك ومنها قوله في قصة موسى عليه السلام قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني
ولو لم تكن الرؤية جائزة لكان لا يتمناها من هو موصوف بالنبوة وأيضا فإنه سبحانه وتعالى
قال في جوابه لن تراني ولم يقل لن أرى وفيه دليل على أنه يصح أن يرى لأنه لو كان لا
يصح رؤيته لكان يقول لن أرى ولما خص نفي الرؤية به ومنها قوله تعالى لا تدركه الأبصار
وهو يدرك الأبصار يبين أن جميع الأبصار لا تدركه مفهومة أن بعضها يدركه ثم يبين الله
سبحانه من يدرك ومن لا يدرك فقال وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وإن الوجوه الباسرة
محجوبة عنه كما فرق بين الفريقين في قوله يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فالوجوه السود محجوبة
عنه والوجوه البيض الناضرة نا ظرة إليه ثم أن النبي خص لأصحابه هذه الحالة فقال إنكم
سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون ولا تضارون في رؤيته وفي
الحديث قيد تحمل عليه آية الرؤية فكأنه قال لا تدركه الأبصار في غير القيامة وتدركه
يومئذ فإن المطلق يحمل على المقيد .
8-وإن تعلم أن الخالق لا يشبه الخلق في شيء
لأن مثل الشيء ما يكون مشاركا له في جميع أوصافه الجائزة والواجبة والمستحيلة ويعبر
عنه بأن المثلين كل شيئين ينوب أحدهما مناب صاحبه ويسد مسده وأصله قوله تعالى ليس كمثله
شيء وهو السميع البصير وقوله ولم يكن له كفوا أحد وقوله هل تعلم له سميا.
9- وأن تعلم أن خالق العالم لا يجوز عليه الحد
والنهاية لأن الشيء لا يكون مخصوصا بحد إلا أن يخصه مخصص بذلك الحد ويقرره على تلك
النهاية بجواز غيره من الحدود عليه والصانع لا يكون مصنوعا ولا محدودا ولا مخصصا وأصله
في كتاب الله تعالى قوله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم الآية مع قوله
فأتى الله بنيانهم من القواعد ومع قوله الرحمن على العرش استوى ولو كان مخصوصا بحد
ونهاية وجملة لم يجز أن يكون منسوبا إلى أماكن مختلفة متضادة وكان لا يجوز أن يكون
مع كل واحد وأن يكون على العرش وأن يأتي ببنيان قوم سلط عليهم الهلاك فجاء من الجمع
بين هذه الآيات تحقيق القول بنفي الحد والنهاية واستحالة كونه مخصوصا بجهة من الجهات
وفي الجمع بين هذه الآيات دليل على أن معنى قوله ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم
إنما هو بمعنى العلم بأسرارهم ومعنى قوله فأتى الله بنيانهم من القواعد أي خلق في بنيان
القوم معنى من زلزلة ورجف يكون ذلك سبب خرابه كما قال فخر عليهم السقف من فوقهم وأن
معنى قوله الرحمن على العرش استوى معناه قصد إلى خلق العرش كما قال ثم استوى إلى السماء
وهي دخان ويكون معنى على في هذا الموضع بمعنى إلى أو يكون العرش في هذه الآية بمنزلة
المملكة كما يقال ثل عرش فلان إذا زال ملكه وكما قال الشاعر:-
قد نال عرشا لم ينله نائل ... جن ولا أنس
ولا ديار
وقد روى في الخبر عن النبي ما تحقق به المعنى
الذي بينا على هذه الظواهر وذلك أنه قال كان ملك يجيء من السماء وآخر من الأرض السابعة
فقال كل واحد منهما لصاحبه من أين تجيء قال من عند الله ولو كان له حد ونهاية استحال
كونه في جهتين مختلفتين فتقرر به استحالة الحد والنهاية وأن جملة الملكوت تحت سلطانه
وقدرته وعلمه ومعرفته
10-وأن تعلم أن القديم سبحانه ليس بجسم ولا
جوهر لأن الجسم يكون فيه التأليف والجوهر يجوز فيه التأليف والإتصال وكل ما كان له
الإتصال أو جاز عليه الإتصال يكون له حد ونهاية وقد دللنا على استحالة الحد والنهاية
على الباري سبحانه وتعالى وقد ذكر الله تعالى في صفة الجسم الزيادة فقال وزاده بسطة
في العلم والجسم فبين أن ما كان جسما جازت عليه الزيادة والنقصان ولا تجوز الزيادة
والنقصان على الباري سبحانه.
11-وأن تعلم أن القديم سبحانه ليس بعرض لأن
العرض مما يستحيل بقاؤه ولا يكون الخالق إلا باقيا أيضا فإن العرض لا يقوم بنفسه ولا
يكون الخالق إلا قائما بنفسه ودليله من كتاب الله تعالى فإنه سبحانه أطلق اسم العرض
على شيء يقل بقاؤه أو لا يعد باقيا في العرف والعادة حيث قال تريدون عرض الدنيا و هذا
عارض ممطرنا
12-وأن تعلم أن الباري سبحانه وتعالى يستحيل
عليه الولد والزوجة لأن ذلك لا يكون إلا بالإتصال والمماسة وذلك يوجب الحد والنهاية
وقد بينا استحالته عليه سبحانه وتعالى وحقق الله ذلك بقوله لم يلد ولم يولد ولم يكن
له كفوا أحد.
13 - وأن تعلم أنه لا يجوز الشريك له في المملكة
لما قد بينا من أن الخالق واحد لا ثاني له والمملوك يستحيل أن يكون خارجا من ملك الخالق
وهذا تحقيق قوله وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن
له ولي من الذل وكبره تكبيرا.
14-وأن تعلم أن الحركة والسكون والذهاب والمجيء
والكون في المكان والإجتماع والإفتراق والقرب والبعد من طريق المسافة والإتصال والإنفصال
والحجم والجرم والجثة والصورة والحيز والمقدار والنواحي والأقطار والجوانب والجهات
كلها لا تجوز عليه تعالى لأن جميعها يوجب الحد والنهاية وقد دللنا على استحالة ذلك
على الباري سبحانه وتعالى وأصل هذا في كتاب الله تعالى وذلك أن إبراهيم عليه السلام
لما رأى هذه العلامات على الكواكب والشمس والقمر قال لا أحب الآفلين فبين أن ما جاز
عليه تلك الصفات لا يكون خالقا.
15-وأن تعلم أن كل ما تصور في الوهم من طول
وعرض وعمق وألوان وهيئات مختلفة ينبغي أن تعتقد أن صانع العالم بخلافة وأنه قادر على
خلق مثله وإلى هذا المعنى أشار الصديق رضي الله عنه بقوله العجز عن درك الإدراك إدراك
ومعناه إذا صح عندك أن الصانع لا يمكن معرفته بالتصوير والتركيب والقياس على الخلق
صح عندك أنه خلاف المخلوقات وتحقيقه أنك إذا عجزت عن معرفته بالقياس على أفعاله صح
معرفتك له بدلالة الأفعال على ذاته وصفاته وقد وصف الله سبحانه وتعالى نفسه بقوله هو
الله الخالق الباريء المصور وما كان مصورا لم يكن مصورا كما أن من كان مخلوقا لم يكن
خالقا.
16-وأن تعلم أن الحوادث لا يجوز حلولها في
ذاته وصفاته لأن ما كان محلا للحوادث لم يخل منها وإذا لم يخل كان محدثا مثلها ولهذا
قال الخليل عليه الصلاة والسلام لا أحب الآفلين بين به أن من حل به من المعاني ما يغيره
من حال إلى حال كان محدثا لا يصح أن يكون إلها.
17-وأن تعلم أن كل ما دل على حدوث شيء من الحد
والنهاية والمكان والجهة والسكون والحركة فهو مستحيل عليه سبحانه وتعالى لأن ما لا
يكون محدثا لا يجوز عليه ما هو دليل على الحدوث وعليه يدل ما ذكرناها قبل في قصة الخليل
عليه السلام.
18-وأن تعلم أنه سبحانه لا يجوز عليه النقص
والآفة لأن الآفة نوع من المنع والمنع يقتضي مانعا وممنوعا وليس فوقه سبحانه مانع وقد
نبه الله تعالى عليه بقوله هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن
المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون والسلام هو الذي سلم من الآفات
والنقائص والقدوس هو المنزه عن النقائص والموانع ويعلم بذلك أن لا طريق للآفات والنقائص
والموانع إليه وقد وصف الله تعالى ذاته بقوله ذو العرش المجيد والمجد في كلام العرب
كمال الشرف ومن كان لنوع من النقص إليه طريق لم يكمل شرفه ولم يجز وصفه بقوله مجيد
فلما اتصف به سبحانه علمنا أنه لا طريق للنقص إليه.
19-وأن تعلم أنه لا يجوز عليه الكيفية والكمية
والأينية لأن من لا مثل له لا يمكن أن يقال فيه كيف هو ومن لا عدد له لا يقال فيه كم
هو ومن لا أول له لا يقال له مم كان ومن لا مكان له لا يقال فيه أين كان وقد ذكرنا
من كتاب الله تعالى ما يدل على التوحيد ونفي التشبيه ونفي المكان والجهة ونفي الابتداء
والأولية وقد جاء فيه عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أشفى البيان حين قيل له أين
الله فقال إن الذي أين الأين لا يقال له أين فقيل له كيف الله فقال إن الذي كيف الكيف
لا يقال له كيف واعلم أن الله تعالى ذكر في سورة الإخلاص ما يتضمن إثبات جميع صفات
المدح والكمال ونفي جميع النقائص عنه وذلك قوله تعالى قل هو الله أحد الله الصمد في
هذه السورة بيان ما ينفي عنه من نقائص الصفات وما يستحيل عليه من الآفات بل في كلمة
من كلمات هذه السورة وهو قوله الله الصمد والصمد في اللغة على معنيين أحدهما أنه لا
جوف له وهذا يوجب أن لا يكون جسما ولا جوهرا لأن ما لا يكون بهذه الصفة جاز أن يكون
له جوف والمعنى الثاني للصمد هو السيد الذي يرجع إليه في الحوائج وهذا يتضمن إثبات
كل صفة لولاها لم يصح منه الفعل كما نذكره فيما بعد لأن من لا تصح منه الأفعال المختلفة
لم يصح الرجوع إليه في الحوائج المتباينة وقد جمع الله سبحانه وتعالى في هذه السورة
بين صفات النفي والإثبات وقال فاعلم أنه لا إله إلا الله وقد نبه عليه الرسول فقال
من عرف نفسه فقد عرف ربه معناه من عرف نفسه بالعجز والضعف والنقص والقصور عرف أن له
ربا موصوفا بالكمال يصح منه جميع الأفعال فلولاه لم يتم بالعبد العاجز شيء من الواردات
عليه وفي هذا المعنى ورد قول النبي تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في الله أي ابتدئوا
بالفكرة في خلق الله حتى إذا عرفتم الخلق بالعجز عرفتم أن له خالقا قادرا موصوفا بأوصاف
الكمال ومن ابتدأ بالنظر في الخالق أداه إلى ما لا يصح من تشبيه أو تعطيل.
20 - وأن تعلم أن صانع العالم حي قادر عالم مريد
متكلم سميع بصير لأن من لم يكن بهذه الصفات كان موصوفا بأضدادها وأضدادها نقائص وآفات
تمنع صحة الفعل فصحت ثبوت هذه الصفات له من وجهين أحدهما دلالة الفعل والثاني نفي النقائص
وقد دلت على إثبات هذه ظواهر نصوص القرآن وردت جميعها في الأسماء التسعة والتسعين التي
استفاضت بها الأخبار في أسماء الرب جل جلاله
قال الله تعالى الله لا إله إلا هو الحي
القيوم وقال وتوكل على الحي الذي لا يموت وقال وعنت الوجوه للحي القيوم وقال قل هو
القادر وقال وهو بكل شيء عليم وقال علام الغيوب وقال لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء
وقال هو الحكيم العليم والحكيم من وقع أفعاله على موافقة إرادته وجاء في صفته الرحمن
الرحيم والغفار والغفور والكريم والتواب وكل ذلك يرجع إلى إرادته للتوبة والنعمة والمغفرة
ويدل على إرادته ومما يدل على إثبات كونه متكلما قوله تعالى من ذا الذي يشفع عنده إلا
بإذنه والإذن من صفات الكلام وقوله إنه غفور شكور و صبار شكور وشكره للعباد مدحه إياهم
على طاعته وذلك من صفات الكلام وورد في أسمائه المجيب وذلك يتم بالكلام ومن أسمائه
الباعث وذلك مما يدل على الكلام ولا يتم بعث الرسل إلا بالكلام وكذلك الشهيد معناه
أنه يشهد أنه أرسله بالصدق يوم القيامة وذلك لا يتم إلا بالكلام وكذلك المؤمن ومعناه
أنه يصدق أنبياءه ولا يتم ذلك إلا بالكلام وورد السميع والبصير في الكتاب والسنة أظهر
من أن يخفى
21-وأن تعلم أن له حياة وقدرة وعلما وإرادة
وكلاما وسمعا وبصرا لأن من كان موصوفا بهذه الأوصاف ثبتت له هذه الصفات ولا يجوز أن
يكون غير الموصوف بها موصوفا بهذه الصفات كما لا يجوز أن توجد الصفات من غير أن يكون
الموصوف بتلك الأوصاف موصوفا بها وقد ورد في إثبات العلم له آي كثيرة كقوله تعالى أنزله
بعلمه ولا يحيطون بشيء من علمه قد أحاط بكل شيء علما وورد في إثبات القدرة له ذو القوة
المتين والقوة والقدرة وأخذ في العربية وورد في إثبات الإرادة فعال لما يريد وما تشاؤون
إلا أن يشاء الله فيه دليل على إثبات الإرادة والمشيئة.
22-وأن تعلم أن صانع العالم باق لأنا قد دللنا
على أنه قديم ولا يكون القديم إلا باقيا وقد ورد في أسمائه البديع الباقي وورد في أسمائه
الحي القيوم والقيوم مبالغة من القيام وذلك يتضمن كونه باقيا.
23-وأن تعلم أن له بقاء لأن ما وصف بكونه باقيا
ثبت له البقاء وما لا بقاء له لا يكون باقيا بحال لأن الموجود لو كان باقيا بلا بقاء
لكان مستغنيا عن القدرة ولوجب منه أن يكون كل موجود في أول حال وجوده قديما والمحدث
لا يجوز أن يكون قديما بحال وينبه على هذا المعنى قوله تعالى ويبقى وجه ربك ذو الجلال
والإكرام.
24 - وأن تعلم أنه لا يجوز فيما ذكرناه من صفات
القديم سبحانه أن يقال أنها هي هو أو غيره ولا هي هو ولا هي غيره ولا أنها موافقة أو
مخالفة ولا إنها تباينه أو تلازمه أو تتصل به أو تنفصل عنه أو تشبهه أو لا تشبهه ولكن
يجب أن يقال إنها صفات له موجودة به قائمة بذاته مختصة به وإنما قلنا إنها لا هي هو
لأن هذه الصفات لو كانت هي هو لم يجز أن يكون هو عالما ولا قادرا ولا موصوفا بشيء من
هذه الأوصاف لأن العلم لا يكون عالما والقدرة لا تكون قادرة ولا موصوفا بشيء من هذه
الصفات وإنما قلنا لا يقال أنها غيره لأن الغيرين يجوز وجود أحدهما مع عدم الآخر ولما
استحال هذا المعنى في الذات والصفات لم يجز فيه الخلاف المغاير وإنما قلنا لا هي هو
ولا هي غيره لأن في نفي كل واحد منهما إثبات الآخروقد بينا استحالة الإثبات فيه وإنما
قلنا لا يقال أنها توافقه أو تخالفه أو تباينه أو تشبهه لأن جميع ذلك يتضمن المغايرة
وذلك يتضمن جواز عدم أحدهما مع وجود الآخر وذلك محال.
25-وأن تعلم أن ما يمتنع إطلاقه من هذه العبارات
التي ذكرناها على الذات والصفات يمتنع إطلاقها أيضا على كل صفة منها مع سائر الصفات
فلا يجوز أن يقال علمه قدرته ولا أن يقال إنه غيرها أو يخالفها أو يوافقها أو يشبهها
أو لا يشبهها لأن جميع ذلك يتضمن إثبات المغايرة وذلك يتضمن جواز وجود أحدهما مع عدم
الآخر وذلك محال في الصفات بعضها مع بعض وقد نبه رسول الله في خبر عمران بن الحصين
على ما يتضمن هذا المعنى الذي وصفناه حين قال كان الله ولم يكن معه شيء غيره وذلك إثبات
الصفات ونفي المغايرة بينها.
26-وأن تعلم أن كل صفة قامت بذات الباري جل
جلاله لم تكن إلا أزلية قديمة لما قد بينا قبل أن حدوث الحوادث في ذاته لا يجوز.
27-وأن تعلم أن العدم لا يجوز عليه ولا على
شيء من صفاته لأنا قد دللناعلى قدم ذاته وصفاته والقديم لا يبطل وقد دللنا عليه لأن
البطلان علم الحدوث ولهذا قال إبراهيم الخليل لا أحب الآفلين استدل بأفولة وبطلانه
على حدوثه.
28-وأن تعلم أن علمه سبحانه عام في جميع المعلومات
وقدرته عامة في جميع المقدورات وإرادته عامة في جميع الإرادات علمها على ما هي عليه
وأراد أن يكون ما علم أن يكون وأراد أن لا يكون ما علم أن لا يكون ولا يجري في مملكته
ما لا يريد كونه لان شيئا من صفاته هذه لو اختص ببعض لما صح أن يكون عاما وما كان مختصا
به متناهيا في ذاته اقتضى مخصصا يخصه بما اختص به وذلك علم الحدوث ومما يدل على أوصافه
من كتاب الله تعالى قوله وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة وقوله تعالى وكان الله بكل شيء
عليما وقوله تعالى في معنى القدرة والله على كل شيء قدير وقوله تعالى الله خالق كل
شيء وهل يكون الخلق إلا بالقدرة وذلك يدل على عموم القدرة في جميع المقدورات وجاء في
عموم الإرادة قوله تعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون وفي هذه الآية
دليل على عموم إرادته وعلى أن كلامه قديم لأنه بين أنه لا يخلق شيئا إلا أن يقول له
كن ولو كان ذلك محدثا لكان مفعولا له بكن وكذلك الثاني والثالث ويتسلسل ذلك إلى ما
لا نهاية له ومما يدل على عموم كلامه في متعلقاته ونفي النهاية عنه قوله تعالى قل لو
كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا
وإذا تقرر عموم قدرته وعلمه فاعلم أنه يجوز أن يقال في وصفه سبحانه أنه عالم بكل شيء
كما يجوز أن يقال أنه عالم بجميع المعلومات ويجوز أن يقال أنه سبحانه وتعالى قادر على
جميع المقدورات ويستحيل أن يقال أنه قادر على كل شيء على هذا الإطلاق لأن القديم شيء
يستحيل أن يتعلق به القدرة والذي جاء في القرآن من إطلاق القول بأنه على كل شيء قدير
دخله ضرب من التخصيص ومعناه على كل شيء مقدور قدير ولهذا قال أهل المعرفة أن آية العلم
لم يدخلها التخصيص وآية القدرة دخلها تخصيص فأما كون العلم والقدرة لم يدخلهما التخصيص
فبمعنى أن يقال في العلم أنه عام في جميع المعلومات وفي القدرة أنها عامة في جميع المقدورات.
29-وأن تعلم أن كلام الله تعالى ليس بحرف ولا
صوت لأن الحرف والصوت يتضمنان جواز التقدم والتأخر وذلك مستحيل على القديم سبحانه وما
دل من كتاب الله تعالى على أن متعلقات الكلام لا نهاية لها دليل على أنه ليس بحرف ولا
صوت لوجوب التناهي فيما صح وصفه به.
30-وأن تعلم أن كلام الله قديم وكلام واحد
أمر ونهي وخبر واستخبار على معنى التقدير وكل ما ورد في الكتب من الله تعالى باللغات
المختلفة العبرية والعربية والسريانية كلها عبارات تدل على معنى كتاب الله تعالى ولو
جاء أضعاف أضعافه لم تستغرق معاني كلامه فمعاني كلام الله تعالى لا تستغرقها عبارات
المعبرين كما أن معلومات علم الله لا يستغرقها عبارات المعبرين ومقدروات قدرته لا يمكن
ضبطها بالحصر والتحديد وعلى هذه الجملة يدل قوله تعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه
أن نقول له كن فيكون وقوله تعالى قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي الآية كما وصفناه
قبل.
31-وأن تعلم أنه إذا تقرر استحالة التخصيص
على صفاته القائمة بذاته ووجوب عمومها في متعلقاتها ثبت به عموم قدرته في جميع مقدوراتها
وثبت أنه سبحانه قادر على إماتة جميع الخلق وإبطال جميع الموجودات وعلى أن يخلق أضعاف
ما خلق كيف شاء ومتى شاء وأين شاء وأنه سبحانه وتعالى قادر على بعث الرسل وإنزال الكتب
وإظهار المعجزات الدالة على صدقهم فإنه قادر على الحشر والنشر وثواب أهل الطاعات وعقاب
أهل المعاصي كما قال الله تعالى وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وقال سبحانه وإذا القبور
بعثرت وقال جل جلاله قال من يحيي العظام وهي رميم وقال تعالى وحشرناهم فلم نغادر منهم
أحدا وقال ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون وقال تعالى وعرضوا على ربك صفا وقال
تعالى لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا .
32-وأن تعلم أنه سبحانه وتعالى لا اعتراض عليه
في جميع ما يأتيه أو يذره لا يقال فيما فعله لم فعله ولا فيما تركه لم تركه لأن الإعتراض
إنما يتوجه إلى من صدر قوله عن أمر آمر ونهي ناه وزجر زاجر وإنما يتوجه الأمر على من
إذا خالف كان للعقوبة إليه سبيل ولا سبيل للعقوبة إلى الله تعالى فلا يتوجه عليه الأمر
وإذا لم يتوجه عليه الأمر استحال عليه الإعتراض ولهذه النكتة قلنا إنه لا يجوز عليه
سبحانه حظر ولا وجوب وقد نبه الله سبحانه وتعالى على هذا المعنى بقوله وربك يخلق ما
يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة وقال سبحانه وتعالى هو الله لا إله إلا هو له الحمد
في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون وقال سبحانه وتعالى ألا له الخلق والأمر
وقال سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
33-وأن تعلم أنه سبحانه وتعالى حكيم في جميع
أفعاله وحقيقة الحكمة في أفعاله سبحانه وتعالى وقوعها موافقة لعلمه وإرادته وهو الحكمة
في أفعال الحكماء في الشاهد لأن من فعل فعلا لا يقع على موافقة إرادته يقال إنه لم
يرتبه على حكمة منه فيه فإذا حصل مراده فيه يقال إنه حكيم في فعله ولا يمكن أن يقال
في شيء من أفعاله أنه كان ينبغي أن يوقعه على خلاف ما أوقعه لأنه يتصرف في ملكه ومن
تصرف في ملكه لم يتقرر عليه الإعتراض في فعله ولهذا قلنا إن شيئا من أفعاله لا يكون
ظلما وأنه سبحانه يستحيل الظلم في وصفه لأنه لا يتصرف في غير ملكه ومن تصرف في ملكه
لم يتقرر عليه الإعتراض في فعله ومن تصرف في ملكه فليس بظالم في أفعاله قال الله تعالى
تنزيل من حكيم حميد وقال وكان الله بكل شيء عليما وقال سبحانه وتعالى أفحسبتم إنما
خلقناكم عبثا وإنكم إلينا لا ترجعون.
34-وأن تعلم أن الدليل على صدق المدعي للنبوة
هو المعجزة والمعجزة فعل يظهر على يدي مدعي النبوة بخلاف العادة في زمان التكليف موافقا
لدعواه وهو يدعو الخلق إلى معارضته ويتحداهم أن يأتوا بمثله فيعجزوا عنه فيبين به صدق
من يظهر على يده وما من رسول من رسل الله تعالى إلا وقد كان مؤيدا بمعجزة أو معجزات
كثيرة تدل على صدقه وقد أخبر الله تعالى عن كثير منها فذكر في قصة موسى عليه السلام
فلق البحر وقلب العصا حية واليد البيضاء وفي قصة داود وسليمان تليين الحديد وتسخير
الريح والشياطين والطيور وجميع دواب الأرض في البر والبحر وفي قصة عيسى عليه السلام
إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وذكر في صفة المصطفى أنه يدعو مخالفيه إلى معارضة
ما اتى به من القرآن أو سورة منه فقال تعالى فأتوا بسورة من مثله فكان القرآن معجزة
له قاهرة لأعدائه إلى معجزات كثيرة سواها ظهرت على يده بخلاف العادة مثل تكليم الذراع
وتسبيح الحصى في يده ونبوع الماء من بين أصابعه وحنين الجذع عند مفارقته وأجابة الشجرة
عند دعوته وإنشقاق القمر في وقته كل ذلك قريب من مائتي معجزة ذكرنا أكثرها في الأوسط
كل ذلك مشهور في كتب الأخبار والتواريخ مذكور اتفق أهل النقل على وجودها ونقولها بطرق
يجب القطع على معناها
35-وأن تعلم أن المعجزة لا يجوز ظهورها على
أيدي الكذابين لأن التفرقة بين الصادق والكاذب من حيث الدليل أمر متوهم ولا سبيل إليه
إلا بتخصيص الصادق بالمعجزة فلو أنها ظهرت على يد الكاذب بطريق التفرقة وجب به تناهي
القدرة وذلك مستحيل في الحقيقة وأيضا فإن حقيقة المعجزة هي الدلالة على صدق صاحب المعجزة
ومن المحال الذي لا يعقل خروج الشيء عن حقيقته فكيف يظهر دليل الصدق على يد من هو كاذب
في قوله وذلك متضمن لقلب الحقائق وقد بين الله تعالى في كتابه أن المعجزة حجة الصادقين
حيث قال قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين وقوله تعالى قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات
ولو أنها ظهرت على أيدي الكذابين لم تكن دلالة الصدق.
36-وأن تعلم أنه لا يجب على الخلق شيء إلا
بأمر يرد من قبل الله تعالى على لسان رسول مؤيد بالمعجزة وإن كل من أتى فعلا أو ترك
أمرا لم يقطع له بثواب ولا عقاب من قبل الله تعالى إذ لا طريق في العقل إلى معرفة وجوب
شيء على الخلق لأنه لو كان في العقل طريق إلى معرفة الوجوب في كل شيء فإن الوجوب له
حقيقة واحدة فلو جاز معرفته مضافا إلى شيء جاز معرفته مضافا إلى كل شيء وكان يجب أن
يعرف بالعقل جميع الواجبات من غير ورود شرع وأصله في كتاب الله وهوقوله سبحانه وما
كنا معذبين حتى نبعث رسولا فأمن من العقوبة من قبل الرسل فلو تقرر قبله وجوب واجب لم
يؤمن العقوبة على تركه وقوله سبحانه وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا
وقوله تعالى ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك وقوله تعالى ألم يأتكم نذير وقوله
تعالى وجاءكم النذير وقوله تعالى ألم يأتكم رسل منكم وقوله تعالى إنا أوحينا إليك كما
أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده إلى قوله رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على
الله حجة بعد الرسل فبين أن لا دليل على الخلق إلا قول الرسل فبان به أن مجرد العقول
لا دليل فيه على الخلق من قبل التعبد والذي يؤيد قولنا فيه أن من زعم أن العقل يدل
على وجوب شيء يفضي به الأمر إلى إثبات الوجوب على الله سبحانه وتعالى لأنهم يقولون
إذا شكر العبد الله وجب على الله الثواب ثم لا يزال الوجوب دائرا بينهما وذلك يؤدي
إلى ما لا يتناهى واي عقل يقبل توجه الوجوب عليه ولا واجب إلا بموجب وليس فوقه سبحانه
موجب.
37-وأن تعلم أن الله تعالى بعث الرسل وأنزل
الكتب وبين الثواب والعقاب وأيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم وأوجب على لسانهم معرفة
التوحيد والشريعة وكل ما قالوه فهو صدق وكل ما فعلوه فهو حق والعلم الدال على وصفهم
ذلك قيام المعجزات الظاهرة الدالة على صدقهم وصحة قولهم وقد أخبر عنه سبحانه أوجب التوحيد
والشريعة وقد بين الله تعالى ذلك في كتابه جملة وتفصيلا فالجملة في قوله تعالى إنا
أوحينا إليك كما اوحينا إلى نوح والنبيين من بعده إما التفصيل ففي مثل قوله تعالى ولقد
أرسلنا نوحا وقوله
تعالى ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات
وقوله تعالى ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون وقد نبه على الجملة أيضا في قوله ورسلا
قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك.
38-وأن تعلم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول
رب العزة جاءنا بالصدق في رسالته وفي جميع أفعاله وأقواله وكان معجزته القرآن تلاه
على الخلق وتحداهم إلى معارضته وطلب الطاعة منهم وقال لهم متى اتيتم بسورة من مثله
فلا طاعة لي عليكم فاجتهد أهل اللغة في إسقاط طاعته عن انفسهم وعن أموالهم وذراريهم
فلم يمكنهم ولو أمكنهم أن يدفعوه عن أنفسهم وأموالهم وأهاليهم بكلام يأتون به لما قصدوا
الحرب والمسايفة التي فيها القتل والأسر والإسترقاق والنهب والغصب والسلب في الذخائر
والأموال فلما لم يأتوا علمنا أنهم اعرضوا عن الإتيان به للعجز عنه كما ان سحره فرعون
في زمان موسى عجزوا عن معارضته فبان به كونه محقا في دعوته وكما ان عيسى عليه السلام
في أيامه أعجز الأطباء عن مثل ما اتى به واعلم أن تحقيق نبوة المصطفى ظاهرة في كتاب
الله تعالى حين قال تعالى يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى
الله بإذنه وسراجا منيرا وحيث قال ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم
النبيين وذلك مذكور في غير موضع من الكتاب وقال في وصف معجزته وإن كنتم في ريب مما
نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين الآيتين.
39-وأن تعلم أن الذي بعث به المصطفى هو الإسلام
وأن معجزته دليل على صدقه في جميع ما أخبر به فمما أخبر به قوله أن لا نبي بعدي وقوله
بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء
الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا وبين أنها واجبة إلى يوم القيامة
لا تنقطع ولا ترتفع وأخبر أنهم يحيون في القبور ويسألون عن الدين ثم يعاقب العصاة وينعم
أهل الطاعات إلى وقت المحشر ومما بعده ووما أخبر عنه هو الحشر والنشر وإقامة القيامة
وأنها كائنة لا يعرف وقتها إلا الله وأن الخلق يحشرون ويحاسبون ثم يخلد أهل الجنة في
الجنة في نعيم دائم وأنهم يرون ربهم زيادة في كرامتهم وإتماما لفضله عليهم ويخلد الكفار
والمرتدون في عذاب جهنم لا محيص لهم عنها بحال وإن قوما من العصاة يعاقبون في النار
ثم يخرجون منها بشفاعة المصطفى وبشفاعة العلماء والزهاد والعباد وشفاعة أطفال المؤمنين
فمن لم تسعه شفاعة هؤلاء وكان قد سبق لهم الإيمان فأنه يخرج من النار برحمة الله جل
جلاله وكثير من عصاة المؤمنين يغفر لهم قبل إدخال النار إما بشفاعة الرسول وإما برحمة
الجبار ولا يبقى في النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان واعلم أن المؤمن لا يصير
كافرا بالمعصية ولا يخرج بها عن الإيمان لأن معصيته كائنة في طرف من الأطراف لا تنافي
إيمانا في القلب وقد قال الله تعالى إنا لا نضيع أجر من احسن عملا وقال لا يبقى في
النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة
من الكبر أي من الكفر ومثقال ذرة من الإيمان اعتقاد مستخلص عن الشرك والإفك والشك والشبهة
كما وصفناه ومتى ما اختلط به شائب من شوائب الكفر والبدع لم يستحق صاحبه اسم الإيمان
كما بينه الشافعي رحمه الله في قوله الشرك يشركه الشرك والإسلام لا يشركه الشرك وقوله
الحلف في الصفة كالحلف في العين وقد نبه الله تعالى على هذا المعنى بقوله وما يؤمن
أكثرهم بالله
إلا وهم مشركون فتقرر به أن العقائد المشروطة
في وصف الإيمان ما لم تسلم عن أنواع البدع والإلحاد لم يكن إيمانا على الحقيقة وقد
ورد في معنى الشفاعة قوله تعالى عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا
وقد روى أنس بن مالك أن النبي قال في تفسير
هذه إذ جاء يوم القيامة طلب الخلق الشفاعة من الأنبياء عليهم السلام فيقولون عليهم
السلام اذهبوا لمحمد عليه الصلاة والسلام فإنه قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما
تأخر فيأتيه الخلق ويسألونه الشفاعة قال فاستأذن على الله فيأذن لي فاسجد ويلهمني الله
محامد لم يلهمني مثلها قبله فأحمده ثم أرفع رأسي من السجود فيقال لي قل يسمع لك وسل
تعط واشفع تشفع فلا أزال أشفع حتى اخرج من النار كل من قال لا إله إلا الله وورد في
شفاعة الأطفال يظل الفرط محبنطئا على باب الجنة يقول لا أدخل حتى يدخل أبواي وقال النبي
شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فبين أن أهل الكبائر يومئذ لا ييأسون من رحمة الله تعالى
والأخبار في هذا الباب ظاهرة مستفيضة لا ينكرها من له معرفة بموارد الأخبار وقد ورد
في وصف الحساب والميزان قوله تعالى ونضع الموازين القسط ليوم القيامة وقد ورد في الأخبار
أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الذي يوزن به الأعمال فلما رآه سقط وغشي عليه
فلما أفاق قال من ذا الذي يطيق أن يملأ ما امن الحسنات فقال يا داود إذا رضيت عن عبدي
ملأت هذا بثمرة واحدة ومما جاء في الحساب قوله تعالى ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين
مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وقوله
تعالى وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه وقوله تعالى فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف
يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا وقوله تعالى فأما من ثقلت موازينه فهو في
عيشة راضية وقوله تعالى وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ماهية نار حامية
وقد ورد في الخبر عن المصطفى إن صحف الأعمال
توزن فمن زادت حسناته على سيآته دخل الجنة وقد ورد في معنى الحوض قوله تعالى إنا أعطيناك
الكوثر وقد روى أنس رضي الله عنه أن النبي نعس نعسة ثم رفع رأسه فضحك وتبسم ثم قال
أتعرفون لماذا ضحكت فقالوا الله ورسوله أعلم فقال نزلت علي في هذه الساعة سورة إنا
أعطيناك الكوثر أتعرفون ما الكوثر الكوثر نهر في الجنة أعده الله لي ولذلك النهر حوض
تأتيه أمتي يوم القيامة وأوانيه عدد الكواكب أو أكثر وقد يأتيه من يمنع من ذلك فأقول
يا رب أنه من أمتي فيقول ما تدري ما أحدث بعدك ثم وصف النبي ذلك الحوض في أخبار كثيرة
فقال حصاه من الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والدر والمرجان وحمأته من المسك وترابه
من الكافور أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وأبرد من الثلج خروجه يكون من تحت سدرة
المنتهى طوله وعرضه ما بين المشرق والمغرب من شرب منه لم يظمأ بعده أبدا ومن توضأ منه
لم يشعث أبدا تحوم حوله طيور أعناقها كأعناق الإبل فقال أبو بكر وعمر ما أنعم تلك الطيور
فقال النبي أنعم منها من يأكلها وقد ورد في معنى ما ذكرناه من أن المؤمن لا يكون بالمعاصي
كافرا ولا يخرج من الإيمان ولا يكون خالدا مخلدا في النار واحد من المؤمنين لقوله تعالى
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وقوله إنا لا نضيع أجر من أحسن
عملا وقال النبي لا يبقى في النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان وقد ورد في معنى
إحياء الموتى في القبور ما لا يحصى من الآي والأخبار والآثار حتى لا يوجد موافق ولا
مخالف إلا وهو يقرأ في التشهد ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا برحمتك
عذاب القبر وعذاب النار ومر المصطفى بقبرين فقال انهما ليعذبان وما يعذبان في كبير
أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستنزه من البول وقد ورد في الدعوات
المأثورة عن المصطفى أعوذ بالله من الكفر والفقر وعذاب القبر وقد وردت أخبار كثيرة
عن الرسول في صفة منكر ونكير وذكر أنهما يسألان في القبر فقال عمر رضي الله عنه او
يكون معي عقلي قال نعم قال أنا أكفيهما وإنما أراد بهذا الكلام أني أصف لهم الإيمان
وكل من خرج من الدنيا على صفة الإيمان ووصف لهما دينه لم يستعرضا له وكانا له مبشرا
وبشيرا وقالا له نم نومة العروس إلى يوم القيامة فإن وصف بخلافه والعياذ بالله منه
قالا له نم نومة المنهوش وقد ورد في الخبر الظاهر أن المنكر والنكير قد يسألان بعضهم
فيقولان من ربك فيقول ربي الله فيقولان من رسولك فيقول محمد عليه السلام فيسألانه عن
صفة الرب وصفة الرسول فيقول لا ادري سمعت الناس يقولونه وكنت أقول معهم فيقولون له
لا دريت ويعذبانه فيمن يعذب وأصل هذه المسألة في كتاب الله تعالى في قوله سبحانه في
صفة آل فرعون النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد
العذاب ولو كان المراد بالأول عذاب النار لما ورد القيامة بعده بالذكر وقوله سبحانه
في صفة المؤمنين يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة
ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء وقوله تعالى خبرا عنهم قالوا ربنا أمتنا اثنتين
وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا وأراد به الإماتة عند الخروج من الدنيا والإحياء
في القبر ثم الإماتة فيه ثم الإحياء يوم الحشر والنشر ولا يمكن حمله إلا على الإحياء
بعد حلول الموت والمواتية لا تسمى موتا في عرف أهل اللغة ولا ينكر ما استفاض به الإخبار
ونطقت به الآيات من الأحياء في القبر إلا من ينكر عموم قدرة الله تعالى ومن أنكر عموم
قدرته سبحانه وتعالى كان خارجا عن زمرة أهل الإسلام
40- وأن تعلم أن الصراط حق والجنة والنار مخلوقتان
وكل ذلك وأرد في القرآن وفي الأخبار الظاهرة عن المصطفى على وجه لا يبقى شكا ولا شبهة
لمن ترك العصبية وقد صرح الله تعالى بذكر النار والجنة ووجودهما وإعداد الجنة للمؤمنين
والنار للكافرين وإنزال آدم عليه السلام في الجنة ثم إخراجه منها وإهباطه إلى الأرض
وما ورد عن الرسول أنه دخل الجنة ليلة المعراج ورأى فيها قصرا لعمر رضي الله عنه وقال
لعمر ما منعني أن أدخله إلا غيرتك فبكى عمر رضي الله عنه وقال أو عليك كنت أغار يا
رسول الله وقال سمعت حسه فالتفت فإذا هو بلال وكان ذلك من صفات الموجودات فإن المعدوم
لا يتصف بهذه الصفات ومن تأمل ما ورد فيه من الآي والأخبار والآثار لم يستجز إنكاره.
41-وأن تعلم أن الإجماع حق وما اجتمع عليه
الأمة يكون حقا مقطوعا على حقيقته قولا كان أو فعلا لقوله لا تجتمع أمتي على الضلالة
ولو جاز اتفاقهم بأجمعهم على الكذب لجاز اتفاقهم على كتمان شيء من الشريعة ولبطل به
الاعتماد على الدلالة الموصلة إلى التكاليف الشرعية ولسقط التكليف والشريعة ولكان العلم
بالبلدان النائيه والقرون الخالية والملوك الماضية متعذرا إذ لا سبيل إلى معرفتها إلا
بالنقل على التظاهر والتواتر والاتفاق عليه من أهل النقل وأصل الإجماع من كتاب الله
تعالى قوله سبحانه وتعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل
المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا.
42-وأن تعلم أن من جملة ما اجتمع عليه المسلمون
أن عشرة من أصحاب رسول الله كانوا من أهل الجنة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير
وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة الجراح رضي الله عنهم اجمعين وأجمعوا أيضا
على أن نساءه وأولاده وأحفاده كلهم كانوا من أهل الجنة وأنهم كانوا مؤمنين وأنهم كانوا
من أعلام الدين لم يكتموا شيئا من القرآن ولا من أحكام الشريعة وكذلك أجمعوا على خلافة
الخلفاء الأربعة بعد الرسول وعلى أنهم لم يكتموا شيئا من القرآن والشريعة بل ساروا
أحسن سيره ووفقوا بحسن السعي في تثبيت المسلمين على الدين وقد أثنى الله تعالى في كتابه
عليهم حيث قال تعالى محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم
ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في
التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع
ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين أمنوا وعلموا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما وقال
في صفة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في دين الله عمر
وقال في صفة عثمان رضي الله عنه ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة وقال في صفة علي
رضي الله عنه أقضاكم على وقال في صفة الحسن والحسين رضي الله عنهما إنهما سيدا شباب
أهل الجنة وقال في فاطمة رضي الله عنها سيدات نساء العالمين أربع فاطمة وخديجة وآسية
ومريم بنت عمران وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام وأخرج هذا
الكلام مخرج عادة العرب في تفضيلهم الثريد حتى قالوا ثردوا ولو بالماء وقال في عائشة
أنها لفقيهة وقال في وصف فاطمة إن فاطمة بضعة مني يسرني ما يسرها ويسوؤني ما يسوؤها
وقال في فضل أصحابه أجمعين كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم وقال في وصف ابن مسعود رضي
الله عنه رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد وقال في وصف أبي ذر الغفاري ما أظلت الخضراء
ولا أقلت الغبراء بعد النبيين أمرءا أصدق لهجة من أبي ذر وقال في صفة أبي عبيدة الجراح
أمين أمتي وقال في الزبير إن في كل أمة حواري وحواري أمتي الزبير والأخبار في فضل الصحابة
رضي الله عنهم أكثر من أن يحتمله هذا المختصر والمقصود ههنا أن تعلم أن الخلفاء الراشدين
كانوا على الحق وإن جملة أصحاب رسول الله كانوا محقين مؤمنين مخلصين صادقين وكان تقديمهم
لمن قدموه وتقريرهم في ما قرروه حقا وصدقا وكلهم كانوا يقولون لأبي بكر رضي الله عنه
يا أمير المؤمنين وكانوا يخاطبون عمر وعثمان وعليا وكذلك علي رضي الله عنه كان يخاطبهم
بذلك وكان يخاطب بمثله في أيامه .
43-وأن تعلم أن كل من تدين بهذا الدين الذي
وصفناه من إعتقاد الفرقة الناجية فهو على الحق وعلى الصراط المستقيم فمن بدعه فهو مبتدع
ومن ضلله فهو ضال ومن كفره فهو كافر لأن من اعتقد أن الايمان كفر وان الهداية ضلالة
وأن السنة بدعة كان اعتقاده كفرا وضلالة وبدعة وأصل هذا مأخوذ من قول النبي من قال
لأخيه المسلم يا كافر فقد باء به أحدهما فجاء من هذه الجملة أنا لا نبدع إلا من بدعنا
ولا نضلل من ضللنا ولا نكفر إلا من كفرنا وقد أنصف القارة من رماها.
44-وأن تعلم أن كل ما يجب معرفته في أصول الاعتقاد
يجب على كل بالغ عاقل أن يعرفه في حق نفسه معرفة صحيحة صادرة عن دلالة عقلية لا يجوز
له أن يقلد فيه ولا أن يتكل فيه الأب على الإبن ولا الإبن على الأب ولا الزوجة على
الزوج بل يستوي فيه جميع العقلاء من الرجال والنساء وأما ما يتعلق بفروع الشريعة من
المسائل فيجوز له أن يقلد فيه من كان من أهل الاجتهاد فإن في تكليف التعليم وتحصيل
أوصاف المجتهدين على العموم قطع الخلق عن المعاش ثم المعاد وما كان في أثباته سقوطه
وسقوط غيره كان ساقطا في نفسه وقد ذكر الله تعالى الأصول والفروع فذم التقليد في الأصول
وحث على السؤال في الفروع فأما مذمة التقليد في الأصول ففي قوله تعالى بل قالوا إنا
وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون وفي آية أخرى مقتدون وأما الحث على السؤال
في الفروع ففي قوله تعالى فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
45-وأن تعلم أن السؤال واجب عند الحاجة ووقوع
الحادث لأنه لو لم يسأل وعمل من ذات نفسه وأخطأ أو أصاب لم يكن فعله امتثالا لأمر الله
تعالى ولم يجز أن يكون عبادة يتقرب بها المتعبد ولهذا أمر الله بالسؤال في قوله فاسألوا
أهل الذكر وهذا كما أن المسلمين اجمعوا على أن الأعمى يسأل عن القبلة ثم يصلي إليها
فإن لم يسأل وأصاب لم يعتد بصلاته وكانت الإعادة واجبة عليه كذلك العامي إذا عمل من
ذات نفسه أو سأل من ليس من أهل السؤال فأصاب في عبادته لم يعتد له بفعله وكانت الإعادة
واجبة عليه هذا في العبادات على قول أكثر أهل السنة فأما في العقود إذا وافق الشرط
المعتبر فيه من غير سؤال كان جائزا لأن النية فيها غير معتبرة وهي في العبادة معتبرة
وحقيقة النية أن يوقع فعله امتثالا لأمر الآمر بطريقة فإذا عدل عن الطريق المأمور به
لم يكن امتثالا لأمر الآمر فلم يصح الإعتداد به.
46-وأن تعلم أن من كان من أهل التقليد في أحكام
الشريعة فإنه يجب عليه السؤال ولا يجوز له أن يسأل كل أحد إذ لو جاز ذلك لجاز أن يعمل
من ذات نفسه إذ لا فرق بين شخص وشخص إذا لم يعتبر فيه صفات المجتهدين ولهذا قال الله
تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وقال إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون
دينكم فثبت بهذا أن على العامي إذا أراد السؤال ضربا من الإجتهاد حتى يميز بين من يكون
أهلا لمعرفة ما يسأل عنه وبين من لا يكون أهلا له ويحصل له المعرفة بطول الدراية والتسامع.
47-وأن تعلم أن من حصل له ما ذكرناه من المعارف
المشروطة في صحة الإعتقاد فواجب عليه إظهاره والإقرار به عند الحاجة إليه والمطالبة
به ولا يجوز له جحوده ولا كتمانه قال الله تعالى وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل
إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون وحقيقة الإيمان أن يصحح المعرفة بما ذكرناه
من شروط الإيمان ويقر به عند التمكن منه والأمان على النفس والمال والحرم والأسباب
وأن أنكره عند المخافة من غير أن يغير من اعتقاده شيئا فلا حرج عليه فيه قال الله تعالى
إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان .
وأعلم أن جميع ما ذكرناه من صفات عقائد
الفرقة الناجية يجب معرفته في صحة الإيمان وقد شرحناه وقررنا كل واحد منها بدليل عقلي
وآخر شرعي ليورد من أحكمه على الخصم المقر بالشريعة الأدلة الشرعية وعلى الخصم المنكر
للشريعة من طبقات الملحدين الأدلة العقلية فيقوى على الفريقين بما جمعناه من الطريقين
ولا تكاد تنفذ عليه حيل أهل الإلحاد والبدعة والخدعة عن الديانة وأعلم أن جميع ما ذكرناه
من اعتقاد أهل السنة والجماعة فلا خلاف في شيء منه بين الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله
وجميع أهل الرأي والحديث مثل مالك والأوزاعي وداود والزهري والليث بن سعد وأحمد بن
حنبل وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة ويحيى بن معين وإسحاق بن راهوية ومحمد بن إسحق
الحنظلي ومحمد بن أسلم الطوسي ويحيى بن يحيى والحسين بن الفضل البجلي وأبي يوسف ومحمد
وزفر وأبي ثور وغيرهم من أئمة الحجاز والشام والعراق وأئمة خراسان وما وراء النهر ومن
تقدمهم من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين ومن أراد أن يتحقق أن لا خلاف بين الفريقين
في هذه الجملة فلينظر فيما صنفه أبو حنيفة رحمه الله في الكلام وهو كتاب العلم وفيه
الحجج القاهرة على أهل الإلحاد والبدعة وقد تكلم في شرح اعتقاد المتكلمين وقرر أحسن
طريقة في الرد على المخالفين وكتاب الفقه الأكبر الذي أخبرنا به الثقة بطريق معتمد
وإسناد صحيح عن نصير بن يحيى عن أبي مطيع عن أبي حنيفة وما جمعه أبو حنيفة في الوصية
التي كتبها إلى أبي عمرو عثمان البتي ورد فيها على المبتدعين ولينظر فيما صنفه الشافعي
في مصنفاته فلم يجد بين مذهبيهما تباينا بحال وكل ما حكى عنهم خلاف ما ذكرناه من مذاهبهم
فإنما هو كذب يرتكبه مبتدع ترويجا لبدعته ومن لا يبالي أن يتدين بما لا حقيقة له في
دينه لا يبالي نسبة الخرافات إلى أئمة الدين لأن من كذب على الله تعالى ورسوله لا يبالي
أن يكذب على أئمة المسلمين وقد نبغ من احداث أهل الرأي من تلبس بشيء من مقالات القدرية
والروافض مقلدا فيها وإذا خاف سيوف أهل السنة نسب ما هو فيه من عقائده الخبيثة إلى
أبي حنيفة تسترا به فلا يغرنك ما أدعوه من نسبتها إليه فإن أبا حنيفة بريء منهم ومما
نسبوه إليه والله تعالى يعصم أهل السنة والجماعة من جميع ما ينسبه إليهم أهل الغواية
والضلالة وبالله التوفيق.
الفصل الثاني من هذا الباب في طريق تحقيق
النجاة لأهل السنة والجماعة في العاقبة
أعلم أن الذي تحقق لهم هذه الصفة أمور منها
قوله تعالى قل أن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور
رحيم والمحبة من الله تعالى في متابعة الرسول سبب محبة الرب للعبد فكل من كان متابعتة
للرسول أبلغ وأتم كانت المحبة له من الله أكمل وأتم وليس في فرق الأمة أكثر متابعة
لأخبار الرسول وأكثر تبعا لسنته من هؤلاء ولهذا سموا أصحاب الحديث وسموا بأهل السنة
والجماعة ومنها أن النبي لما سئل عن الفرقة الناجية قال ما انا عليه وأصحابي وهذه الصفة
تقررت لأهل السنة لأنهم ينقلون الأخبار والآثار عن الرسول والصحابة رضي الله عنهم ولا
يدخل في تلك الجملة من يطعن في الصحابة من الخوارج والروافض ولا من قال من القدرية
إن شهادة اثنين من أهل صفين غير مقبولة على باقة بقل ومن ردهم وطعن فيهم لا يكون متابعا
لهم ولا ملابسا بسيرتهم ومنها ما جاء في رواية أخرى أنه سئل عن الفرقة الناجية فقال
الجماعة وهذه صفة مختصة بنا لأن جميع الخاص والعام من أهل الفرق المختلفة يسمونهم أهل
السنة والجماعة وكيف يتناول هذا الاسم الخوارج وهم لا يرون الجماعة والروافض وهم لا
يرون الجماعة والمعتزلة وهم لا يرون صحة الإجماع وكيف تليق بهم هذه الصفة التي ذكرها
الرسول ومنها أنهم يستعملون في الأدلة الشرعية كتاب الله وسنة رسوله وأجماع الأمة والقياس
ويجمعون بين جميعها في فروع الشريعة ويحتجون بجميعها وما من فريق من فرق مخالفيهم إلا
وهم يردون شيئا من هذه الأدلة فبان أنهم أهل النجاة باستعمالهم جميع أصول الشريعة دون
تعطيل شيء منها ومنها أن أهل السنة مجتمعون فيما بينهم لا يكفر بعضهم بعضا وليس بينهم
خلاف يوجب التبريء والتفكير فهم إذا أهل الجماعة قائمون بالحق والله تعالى يحفظ الحق
وأهله كما قال تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون قال المفسرون أراد به الحفظ
عن التناقض وما من فريق من فرق المخالفين إلا وفيما بينهم تكفير وتبري يكفر بعضهم بعضا
كما ذكرنا من الخوارج والروافض والقدرية حتى اجتمع سبعة منهم في مجلس واحد فافترقوا
عن تكفير بعضهم بعضا وكانوا بمنزلة اليهود والنصارى حين كفر بعضهم بعضا حتى قالت اليهود
ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وقال الله سبحانه وتعالى ولو
كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ومنها أن فتاوى الأمة تدور على أهل السنة
والجماعة فريقي الرأي والحديث ومعظم الأئمة ينتحلون مذهبهم ويجتمعون على طريقهم وهو
الغالب على بلاد المسلمين فهم إذا أهل الجماعة من سائر الوجوه وكلهم متفقون على رد
مذهب الروافض والخوارج والقدرية من أهل الأهواء والبدع ومنها أن عبد الله بن عمر رضي
الله عنه روى عن النبي في تفسير قوله سبحانه وتعالى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه إن الذين
تبيض وجوههم هم الجماعة والذين تسود وجوههم هم أهل الأهواء وأهل الأهواء هم الذين لا
يتابعون الكتاب ولا السنة ومنه قوله تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم
في شيء فتبين أن الذين فارقوا دينهم أو فرقوا دينهم هم ليسوا على طريق الحق وجميع من
ذكرناهم من فرق المخالفين يفرقون فيما بينهم كما وصفناه من اختلافهم فبان به أنهم مفارقون
للدين وأهل السنة والجماعة متمسكون به بعروة الإسلام وحبل الدين مجتمعون في أصولهم
غير متفرقين فكانوا هم أهل النجاة دون من خالفهم في هذه الصفة
الفصل الثالث من فصول المفاخر لأهل الإسلام
وبيان فضائل أهل السنة والجماعة وبيان ما اختصوا به من مفاخرهم
اعلم أنه لا خصلة من الخصال التي تعد في
المفاخر لأهل الإسلام من المعارف والعلوم وأنواع الإجتهادات إلا ولأهل السنة والجماعة
في تزيينها القدح المعلى والسهم الأوفر أما العلوم فأولها الرقي في مدارج الفضل والأدب
هو ترجمان جميع العلوم ومعرض جميع الفوائد الفاخرة في الدنيا والآخرة إذ لا سبيل إلى
تفسير القرآن وأخبار الرسول إلا بمعرفة الأدب وجملة الأئمة في النحو واللغة من أهل
البصرة والكوفة في دولة الإسلام كانوا من أهل السنة والجماعة وأصحاب الحديث والرأي
ولم يكن في مشاهيرهم من تدنس بشيء من بدع الروافض والخوارج والقدرية مثل أبي عمرو بن
العلاء الذي قال له عمرو بن عبيد القدري قد ورد من الله تعالى الوعد والوعيد والله
تعالى يصدق وعده ووعيده فأراد بهذا الكلام أن ينصر بدعته التي ابتدعها في أن العصاة
من المؤمنين خالدون مخلدون فقال أبو عمرو فأين أنت من قول العرب أن الكريم إذا وعد
عفا وإذا وعد وفى وافتخار قائلهم بالعفو عند الوعيد حيث قال
وإني إذا أوعدته أو وعدته ... لمخلف ميعادي
ومنجز موعدي
فعده من الكرم لا من الخلق المذموم وكذلك
لم يكن في أئمة الأدب أحد إلا وله إنكار على أهل البدعة شديد وبعد من بدعهم بعيد مثل
الخليل بن أحمد ويونس بن حبيب وسيبويه والأخفش والزجاج والمبرد وأبي حاتم
السجستاني وابن دريد والأزهري وابن فارس
والفارابي وكذلك من كان من أئمة النحو واللغة مثل الكسائي والفراء والأصمعي وأبي زيد
الأنصاري وأبي عبيدة وأبي عمرو الشيباني وأبي عبيد القاسم بن سلام
وما منهم أحد إلا وله في تصانيفه تعصب لأهل
السنة والجماعة ورد على أهل الإلحاد والبدعة ولم يقر واحد في شيء من الأعصار من أسلاف
أهل الأدب بشيء من بدع الروافض والقدرية غير أن جماعة من المتأخرين من أهل الأدب تدنسوا
بشيء من ذلك تقربا إلى ابن عباد طمعا في شيء من الدنيا والرياسة وأظهروا شيئا من الرفض
والإعتزال ومن كان متدنسا بشيء من ذلك لم يجز الإعتماد عليه في رواية أصول اللغة وفي
نقل معاني النحو ولا في تأويل شيء من الأخبار ولا في تفسير آية من كتاب الله تعالى
وثانيها علم تفسير القرآن ولم يكن في جميع
من نسب إليه شيء من أصول تفسير القرآن من وقت الصحابة إلى يومنا هذا من تلوث بشيء من
مذهب القدرية والخوارج والروافض مثل الخلفاء الراشدين الذين تكلموا في التفسير ومثل
عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت رضي الله عنهم ومثل المشاهير من
التابعين واتباع التابعين الذين تكلموا في التفسير كسعيد بن جبير وقتادة وعطاء وعكرمة
ومكحول وعطية ومن كان بعدهم كالواقدي ومحمد بن إسحاق بن يسار والسدي وغيرهم ممن كان
بعدهم إلى أن انتهت النوبة إلى محمد بن جرير الطبري وأقرانه وكان الزجاج رأسا في نصرة
أهل السنة والرد على أهل البدعة وكذا الفراء قبله وقد ردا في كتابيهما المصنفين في
المعاني على القدرية والخوارج والروافض وصنف بعض متأخري القدرية في تفسير القرآن على
موافقة بدعتهم وذلك لا يتداوله من أهل صنعة التفسير إلا مخذول وقد جمعنا في كتابنا
المعروف بتاج التراجم ما هو المعتمد من أقوال المفسرين ابتعادا عما أحدثه فيه أهل الضلالة
والزيغ من التأويلات على سبيل التحريف وثالثها العلوم المتعلقة بأحاديث المصطفى والتمييز
بين الصحيح والسقيم من الروايات ومعرفة السلف الصالح ولا يدخل في تلك الصنعة إلا أهل
السنة والجماعة وكذلك علوم القرآن لاحظ في شيء منها لأحد من الخوارج والروافض والقدرية
وكيف يكون فيه حظ لمن يدعي أن في القرآن زيادة ونقصا ويقدح في الصحابة الذين عليهم
مدار الأحاديث بل لا يبالي بأن يقدم عليهم بالتضليل والتكفير وقد ندر فيما بين أهل
القرآن والحديث من يتلبس بصنعتهم وهو يضمر سوء بدعته ونحن نذره وسوء سريرته لا نعتد
به ورابعها علوم الفقه ويختص بالتبحر فيه أصحاب الحديث وأصحاب الرأي ولم يكن قط للروافض
والخوارج والقدرية تصنيف معروف يرجع إليه في تعرف شيء من الشريعة ولا كان لهم أمام
يقتدي به من فروع الديانة وخامسها علوم المغازي والسير والتواريخ والتفرقة بين السقيم
والمستقيم وليس لأهل البدعة من هو رأس في شيء من هذه العلوم فهي مختصة بأهل السنة والجماعة
وسادسها علم التصوف والإشارات وما لهم فيها من الدقائق والحقائق لم يكن قط لأحد من
أهل البدعة فيه حظ بل كانوا محرومين مما فيه من الراحة والحلاوة والسكينة والطمأنينة
وقد ذكر أبو عبد الرحمن السلمي من مشايخهم قريبا من ألف وجمع إشاراتهم واحاديثهم ولم
يوجد في جملتهم قط من ينسب إلى شيء من بدع القدرية والروافض والخوارج وكيف يتصور فيهم
من هؤلاء وكلامهم يدور على التسليم والتفويض والتبري من النفس والتوحيد بالخلق والمشئية
وأهل البدع ينسبون الفعل والمشيئة والخلق والتقدير إلى أنفسهم وذلك بمعزل عما عليه
أهل الحقائق من التسليم والتوحيد وسابعها أن لأهل السنة والجماعة التفرد بأكثر من ألف
تصنيف في أصول الدين منها ما هو مبسوط يكثر علمه ومنها ما هو لطيف يصغر حجمه في أعصار
مختلفة من عصر الصحابة إلى يومنا هذا في نصرة الدين والرد على الملحدين والكشف عن أسرار
بدع المبتدعين ولم يكن لواحد من متقدمي القدرية والروافض والخوارج تصنيف في هذا النوع
يظهر ويتداول وهل كان لهم علم حتى يكون لهم فيه تصنيف بلى قوم من متأخريهم تكلفوا جمع
شبه يخادعون به القوم عن أديانهم وصنفوا فيها تصانيف أكثرها لا يوجد إلا بخط المصنف
إذ كان الاشتغال بنقلها من قبيل تعطيل الوقت بالمقت وقيض الله تعالى في عصرنا في كل
إقليم من أقاليم العالم سادة من أعلام أئمة الدين صنفوا في نصرة الدين وتقوية ما عليه
أهل السنة والجماعة والرد على أهل البدع فيما زوروه من الشبه مثل القاضي الإمام أبي
بكر الأشعري وله قريب من خمسين ألف ورقة من تصانيفه في نصرة الدين والرد على أهل الزيغ
والبدع لا تكاد تندرس إلى يوم القيامة مثل كتاب الهداية وكتاب نقض النقض وكتاب التقريب
في الأصول والكتاب الكبير في الأصول يشتمل على عشرة آلاف ورقة وكتاب الكسب وكتاب التمهيد
وغير ذلك من التصانيف التي لا يكاد يتفق مثلها إلا لمن وافقه التوفيق ومثل الإمام أبي
إسحاق الإسفراييني رحمه الله الذي عقمت النساء عن أن يلدن مثله ولم تر عيناه في عمره
مثل نفسه وكان شديدا على خصمه يفرق الشيطان من حسه قدس الله روحه وله تصانيف في أصول
التوحيد وأصول الفقه كل واحد منها معجز في فنه منها كتاب الجامع وهو كتاب لم يصنف في
الإسلام مثله ولم يتفق لأحد من الأئمة في شيء من العلوم مثل ذلك الكتاب ومن حسن أحكامه
أنه لا طريق لأحد من المخالف والموافق إلى نقضه لحسن تحقيقه وإتقانه ولا يتجاسر أحد
لأن يتصدى لنقضه للطف صنعته في وضعه وله في دقائق الفقه والمقدرات كتاب حير به الأفهام
ولا يهتدي لحله إلا من أنفق دهره على حسه وله عدد كثير من لطائف التصانيف يهتدي بها
الناس في أصول الدين مثل المختصر في الرد على أهل الإعتزال والقدر ولم يوجد في الإسلام
كتاب مثل حجمه يجمع ما يجمعه من النكت في الرد على أهل الزيغ والبدع وكتاب الوصف والصفة
لم ير كتاب في مثل حجمه يجمع من الفوائد في أصول الدين ما يجمعه وكتاب تحقيق الدعاوي
وهو في لطافة حجمه يتضمن الطرف التي يتوصل بها إلى إبانة بطلان الباطل من المقالات
وتصحيح الصحيح منها جميعها في سبع طرق من يهدي إليها لم تخف عليه كيفية الرد على شيء
من مقالات الملحدين والمبتدعين وكتاب شرح الاعتقاد الذي لا يطلع على علومه أحد إلا
استبان له طريق أهل السنة على وجه لا يتخالجه فيه شيء من الشك والشبهة وله في الأصول
كتاب ترتيب المذهب وكتاب المختلف في الأصول لم يجمع مثلهما في علم أصول الفقه بعد الشافعي
ومثل الإستاذ أبي بكر بن فورك الأصفهاني رضي الله عنه الذي لم ير مثله في نشر دينه
وقوة يقينه وله أكثر من مائة وعشرين تصنيفا في نشر الدين والرد على الملحدين وتحقيق
أصول الدين وله في الإسلام آثار ظاهرة ولو لم يخرج من مجلسه من المتزهدين والأقوياء
في نصرة الدين إلا الأستاذ الإمام أبو منصور الأيوبي رضي الله عنه وهو الذي كان يفر
من حسه شيطان كل ملحد على وجه الأرض لقوة نظره وحسن عبارته ولطافته في الرد على خصمه
وله كتاب التلخيص ولو لم يكن لهل السنة والجماعة في الرد على أهل الإلحاد والبدعة سوى
ذلك الكتاب في حسن بيانه ولطافة ترتيبه وتهذيبه كان فيه الكفاية في حسنه مع ما له من
التصانيف الأخر التي تداولتها أيدي أهل الأقاليم بحسن البيان ولطافة التنميق
ولو لم يكن لأهل السنة والجماعة من مصنف
لهم في جميع العلوم على الخصوص والعموم إلا من كان فرد زمانه وواحد أقرانه في معارفه
وعلومه وكثرة الغرر من تصانيفه وهو الإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي
التميمي قدس الله روحه وما من علم من العلوم إلا وله فيه تصانيف ولو لم يكن له من التصانيف
إلا كتاب الملل والنحل في أصول الدين وهو كتاب لا يكاد يسع في خاطر بشر أنه يتمكن من
مثله لكثرة ما فيه من فنون علمه وتصانيفه في الكلام والفقه والحديث والمقدرات التي
هي أم الدقائق تخرج عن الحصر لم يسبق إلى مثل كتبه في هذه الأنواع مع حسن عبارته وعذوبة
بيانه ولطافة كلامه في جميع كتبه وقد تأملنا ما جمعه هؤلاء الأئمة في أصول التوحيد
من الكتب البسيطة والوجيزة ومن تقدم من سادة الأئمة وأعيان أهل السنة والجماعة فجمعنا
نكتهم في كتاب الأوسط بعبارات قريبة وألفاظ وجيزة أتباعا لآثارهم وبناء على مقالاتهم
والله تعالى قد ينفع بجميع ما تيسر من التصانيف في الفقه والفرائض
والمقدرات والكلام والتفسير والتعبير بالفارسية
ما شاء الله بفضله وجوده وأما أنواع الاجتهادات الفعلية التي مدارها على أهل السنة
والجماعة في بلاد الإسلام فمشهورة مذكورة مثل المساجد والرباطات المثبتة في بلاد أهل
السنة أما في أيام بني أمية وأما في أيام بني العباس مثل مسجد دمشق المبني في أيام
الوليد بن عبد الملك وكان سنيا قتل في أيامه ما شاء الله من الخوارج والروافض والقدرية
وبني أخوه مسملة بن عبد الملك المسجد بالقسطنطينية وما قام إلى هذه المدة بعمارة مسجد
مكة والمدينة إلا من كان من أهل السنة والجماعة لم يكن لواحد من أهل بدع الخوارج والروافض
والقدرية فيه سعي وكان بعض المصريين يتغلبون ويسعون في عمارة شيء منه لكن لا موقع لما
كانوا يفعلونه مع سوء اعتقادهم كما قال الله تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد
الله شاهدين على أنفسهم بالكفر وكما قال تعالى قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم
إنكم كنتم قوما فاسقين وقد تكلمنا قبل على سوء طريقهم وعظم فتنتهم فيما بين المسلمين
ومن كانت هذه طريقته لم يكن له بعمارته المسجد موقع عند الله تعالى وعند المسلمين ومن
آثارهم الإجتهادية سدهم ثغور الإسلام والمرابطة بها في أطراف الأرض مثل ثغور الروم
وثغور أرمينية وانسداد جميعها ببركات أصحاب الحديث وأما ثغور بلاد الترك فمشتركة بين
أهل الحديث والرأي وليس لأهل الأهواء في شيء من الثغور مرابطة ولا أثر ظاهر بل هم أشد
ضلالة فبان لك بما ذكرناه من مساعي أهل السنة والجماعة في العلوم والاجتهادات أنهم
أهل الإجتهاد والجهاد والجهاد في الدين يكون تارة بإقامة الحجة في الدعوة إلى المحجة
ويكون تارة باستعمال السيف مع المجاهدين ضد أهل الخلاف من الأعداء وببذل الأموال والمهج
وقد خص الله تعالى فيهم قوله والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين
وإذا كان في الجهاد في النوعين صادرا منهم كانت الهداية مختصة بهم ذلك فضل الله يؤتيه
من يشاء والله ذو الفضل العظيم
وقد عصمهم الله أن يقولوا في أسلاف هذه
الأمة منكرا أو يطعنوا فيهم طعنا فلا يقولون في المهاجرين والأنصار وأعلام الدين ولا
في أهل بدر وأحد وأهل بيعة الرضوان إلا أحسن المقال ولا في جميع من شهد النبي لهم بالجنة
ولا في أزواج النبي وأصحابه وأولاده وأحفاده مثل الحسن والحسين والمشاهير من ذرياتهم
مثل عبد الله بن الحسن وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر ابن محمد وموسى بن جعفر وعلي
بن موسى الرضا ومن جرى منهم على السداد من غير تبديل ولا تتغير ولا في الخلفاء الراشدين
ولم يستجيزوا أن يطعنوا في واحد منهم وكذلك في أعلام التابعين وأتباع التابعين الذين
صانهم الله تعالى عن التلوث بالبدع وإظهار شيء من المنكرات ولا يحكمون في عوام المسلمين
إلا بظاهر إيمانهم ولا يقولون بتكفير واحد منهم إلا أن يتبين منه ما يوجب تكفيره ويصدقون
بقول النبي يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب يشفع كل واحد منهم في عدد ربيعة
ومضر ويوجبون على أنفسهم الدعاء لمن سلف من هذه الأمة كما أمر الله تعالى في كتابه
حيث قال ربنا اغفر لنا ولأخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين
آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيمتم الباب وتم بتمامه الكتاب والحمد لله على نعمه وصلى الله
على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه البررة الكرام وعلى أزواجه أمهات أهل الإسلام وحسبنا
الله وكفى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق