في كتاب سنن النسائي بشرح الحافظ السيوطي المجلد الثاني الجزء الثالث , طبعة دار احياء التراث العربي بيروت-لبنان ص 18
قال : قال الإمام النووي في شرحه على مسلم ما نصه: قوله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالـت في السماء، قال: من أنا قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة هذا الحديث من أحاديث الصفات وفيها مذهبان:ـ أحدهما: الإيمان به من غير خوض في معناه مع اعتقاد أن الله تعالى ليس كمثله شئ وتنـزيهه عن سمات المخلوقات.
والثاني: تأويله بما يليق به، فمن قال بهذا قال: كان المراد امتحانها هل هي موحدة تـقر بأن الخالق المدبر الفعال هو الله وحده وهو الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء كما إذا صلى المصلي استقبل الكعبة، وليس ذلك لأنه منحصر في السماء كما أنه ليس منحصرا في جهة الكعبة بل ذلك لأن السماء قبلة الداعين كما أن الكعبة قبلة المصلين.اهـ
قول النووي هذا موجود في كتاب صحيح مسلم بشرح الامام النووي الدمشقي الشافعي المتوفى سنة 677 هجرية , المجلد الثالث الجزء الخامس طبع دار الكتب العلمية الطبعة الثانية سنة 1424 هجرية في الصحيفة 22
يستحيل على الله أن يكون متحيِّزا في الأماكن والجهات، ولو كان الله يسكن السماء كما يزعم بعض الناس لكان الله يزاحم الملائكة، وهذا محال، فقد ثبَت عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال :[[(أَطّتِ السماء وحُقّ لها أن تئِطّ، ما فيها موضعُ أربعِ أصابعَ إلّا وملَك واضعٌ جبهتَه ساجدا لله)]]..ا
رواه الترمذي في[(سننه)/كتاب الزهد عن رسول الله]من حديث أبي ذر وحسَّنه..ا
وفيه دليل على أنه يستحيل على الله أن يكون ساكنَ السماء وإلّا لكان مساويا للملائكة مزاحما لهم..ا
أخرج مسلم في (صحيحه) عن معاويةَ بن الحَكَمِ السُّلَمِيِّ أنه سأل رسول الله عن جارية كانت له، قال :[[قلت :[[يا رسول الله أفلا أُعتقها؟]]، قال :[[(ائتني بها)]]، فأتيته بها، فقال لها :[[(أين الله؟)]]، قالت :[[في السماء]]، قال :[[(من أنا؟)]]، قالت :[[أنت رسول الله]]، قال :[[(أعتقْها فإنها مؤمنة)]]..]]..ا أنظر[(صحيح مسلم)/كتاب المساجد ومواضع الصلاة/باب تحريم الكلام في الصلاة]..ا
ورواية أبي داود عن أبي هريرة أن الرسول لمّا قال للجارية :[[أين الله]] أشارت إلى السماء بإصبعها، وليس في هذه الرواية أنها قالت {{في السماء}}..ا أنظر[(سنن أبي داود)/كتاب الأيمان والنذور/باب في الرقبة المؤمنة]..ا
ورواية مالك في (الموطَّإ) عن عُبَيْدِ الله بنِ عبدِ الله بنِ عُتْبَةَ بنِ مسعود أن رجلا من الأنصار جاء إلى رسول الله بجارية له سوداء فقال :[[يا رسول الله إن عليَّ رقبةً مؤمنة فإن كنتَ تراها مؤمنة أُعتقُها]]، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :[[(أتشهَدين أنْ لا إله إلّا الله؟)]]، قالت :[[نعم]]، قال :[[(أتشهَدين أن محمدا رسولُ الله؟)]]، قالت :[[نعم]]، قال :[[(أتوقِنين بالبعث بعد الموت؟)]]، قالت :[[نعم]]، فقال رسول الله :[[(أعتِقْها)]]..ا أنظر[(موطَّأ الإمام مالك)/كتاب العِتق والولاء/باب ما يجوز من العِتق في الرقاب الواجبة]..ا
ورواية النَسائي في (السنن) عن أبي سَلَمَةَ عن الشَريدِ بن سُوَيدٍ الثَقَفِيِّ قال :[[أتيت رسولَ الله فقلت :[[إن أمي أوصَت أن تُعْتَقَ عنها رَقَبَةٌ وإن عندي جاريةً نُوبيَّة، أفيجزئ عني أن أعتقَها عنها؟]]، قال :[[(ائتني بها)]]، فأتيتُه بها، فقال لها النبي :[[(من ربك؟)]]، قالت :[[الله]]، قال :[[(من أنا؟)]]، قالت :[[أنت رسول الله]]، قال :[[(فأعتِقْها فإنها مؤمنة)]]..]]..ا
إن المتأمل في رواية {{أين الله؟، فقالت : في السماء..}} يجدها مضطربة لأنها جاءت بهذا اللفظ وبلفظ {{أين الله؟، فأشارت إلى السماء}} وبلفظ {{من ربك؟، فقالت : الله..}} وبلفظ {{أتشهَدين أن لا إله الا الله؟، فقالت : نعم..}}..ا
ومما يزيد هذه الرواياتِ اضطرابا أن الرجل الذي ادعى أن الجارية السوداء له اختلفت فيه الروايات أيضا
ا[1]فعند مسلم صاحبُ الجارية السوداء هو معاويةُ بنُ الحَكَمِ السُّلَمِيُّ، فهو الذي ادعى أنها له..ا</p> <p>أنظر[(صحيح مسلم)/كتاب المساجد ومواضع الصلاة/باب تحريم الكلام في الصلاة]..ا
ا[2]وعند مالك صاحبُها هو عُمَرُ بنُ الحَكَمِ، فهو الذي ادعى أنها له..ا أنظر[(موطأ الإمام مالك)/كتاب العتق والولاء/باب ما يجوز من العتق في الرقاب الواجبة]..ا
ا[3]وعند النَسائي صاحبها هو الشَريدُ بنُ سُوَيدٍ الثَقَفِيُّ، فهو الذي ادعى أنها له..ا أنظر(سنن النَسائي)/كتاب الوصايا/باب فضل الصدقة عن الميت]..ا
ثم إن رواية [[أين الله؟]] مخالفة للأصول لأن من أصول الشريعة أن الشخص لا يُحْكَمُ له بقول [[الله في السماء]] بالإسلام لأن هذا القول يشترك فيه اليهود والنصارى وغيرُهم، وإنما الأصل المعروف في شريعة الله ما جاء في الحديث المتواتر :[[(أُمِرْتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يشهَدوا أنْ لا إله إلا الله وأني رسول الله)]].. رواه خمسةَ عَشَرَ صحابيا.. ولفظ رواية مالك :[[(أتشهَدين أنْ لا إله إلا الله؟)]] موافق للأصول..ا
فظهر للمنصف أن حديث الجارية السوداء مضطرب سندا ومتنا، فإن من أراد الدخول في الإسلام يدخل فيه بالنطق بالشهادتين وليس بقول [[الله في السماء]].. وهذا ما عليه الأمة.. سلفُها وخلَفُها.. فكيف يقبل مسلم من نفسه أن يظن في رسول الله أنه حكم بإسلام كافر لمجرد أنه سمعه يقول :[[الله في السماء]]؟.. وأما المشبهة فقد حملوا حديث الجارية على غير مراد الرسول.. والمعنى الحقيقي لهذا الحديث عند من اعتبره صحيحا لا يخالف تنزيهَ الله عن المكان والحد والأعضاء.. فيكون معنى [[أين الله؟]] عند من أخذ بهذا الحديث : ما هو اعتقادك في الله من التعظيم ومن العُلُوِّ ورفعةِ القدر؟.. لأن [[أين]] تأتي للسؤال عن المكان، وهو الأكثر، وتأتي للسؤال عن المكانة أي القدر والمنزلة..ا
وأما قول الجارية :[[في السماء]] أو إشارتُها إلى السماء فإنها أرادت بذلك أن الله رفيعُ القدر جدا، وقد فهم الرسول ذلك من كلامها، أي على تقدير صحة تلك الرواية، أي هذا عند من صحح هذا الحديث من أهل السنة.. أنظر[(الشرح القويم)/ط6/ص124]لمولانا الشيخ عبد الله الهرري..اومن حديث الجارية الذي مر ذكره يُعْلَمُ أن الشخص إذا قال :[[الله في السماء]] وقصد أنه عالي القدر جدّا فلا يكفَّر لأن هذا حالُه مثلُ حال الجارية السوداء، أي على تقدير صحة تلك الرواية، وأما إذا قال :[[الله موجود بذاته في السماء]] فهذا وقع في كفر صريح لأنه أثبت التحيُّز لله..ا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :[[(ما السماواتُ السبعُ مَعَ الكُرْسِيِّ ـ أي في جنب الكرسي ـ إلّا كحلْقة ملقاة بأرضٍ فَلاة، وفضل العرش على الكُرْسِيِّ كفضل الفَلاة على الحلْقة)]]..ا روى هذا الحديثَ الإمامُ ابنُ حِبّانَ في (صحيحه) وصححه..ا
فكيف يكون الله في ما يشبه الحلْقة الملقاة في صحراء واسعة!!..ا
والسماء مخلوقة لله، هو خلقها، لم تكن ثم كانت، هو كان قبلَها، فكيف يَحُلُّ الخالقُ الأزلي في المخلوق الحادث؟!ا.
فمن زعم أن نبيّا من أنبياء الله تعالى كان يظن أن ربه يسكن السماء فقد كفر بالله، وكذلك لو زعم أن نبيّا من أنبياء الله قال لرجل أو امرأة :{{أين مكان الله؟}} فإنه كافر غير مسلم، لأنه نسب الكفر إلى نبي من أنبياء الله تعالى.. وكيف يستقيم في العقل السليم أن ينسُب نبي من أنبياء الله المكان إلى الله، وما من نبي إلّا وهو يعلم أن نسبة المكان إلى الله تعالى كفر مخرج من الإسلام لا يصِح معه الإيمان!!. إن نسبة المكان إلى الله تعالى خروج عن العقل، فيجب علينا أن نسلِّم للعقل حكمَه بأن الله موجود لا في مكان ولا في جهة، لا يشبه العالم بوجه من الوجوه لا يمَسُّه ولا يعلو عليه بالمسافة ولا يحاذيه ولا يستقر عليه..ا
وبالعودة إلى حديث الجارية السوداء نراه يعارض الحديثَ المتواتر الذي رواه خمسةَ عَشَرَ صحابيّا :[[(أُمِرْتُ أن أقاتل الناسَ حتى يشهَدوا أنْ لا إله إلّا الله وأني رسول الله)]].. فهو من أصح الصحيح.. ووجه المعارضة فيه أن فيه الاكتفاءَ بقول [[الله في السماء]] للحكم على قائله بالإسلام، وحديثُ :[[(أُمِرْتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يشهَدوا أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله)]] فيه التصريحُ بأنه لا بد للدخول في الإسلام من النطق بالشهادتين.. فحديث الجارية لا يقاوِم هذا الحديثَ المتواترَ لأن في روايته اضطرابا..ا
وكذلك هناك عدة أحاديث صِحاح لا اختلاف فيها ولا علة تناقض حديث الجارية.. فكيف يؤخذ بظاهر حديث الجارية ويُعْرَضُ عن تلك الأحاديث الصِحاح؟!.. فلولا أن للمشبهة هوًى في تجسيم الله وتحييزه في السماء، كما هو معتقد اليهود والنصارى، لَمَا تشبثوا بحديث الجارية.. ولذلك يرَوْنه أقوى شُبْهَةٍ يجتذبون به ضعفاء الفَهْمِ إلى عقيدتهم عقيدة التجسيم.. فكيف يَخْفَى على ذي لُبٍّ أن عقيدة تحيُّز الله في السماء منافية لقوله تعالى في سورة الشورى ((ليس كمثله شيء))، فإنه على ذلك يَلْزَمُ أن يكون له أمثال كثيرة.. فالسماوات السبع مشحونة بالملائكة، وما فوق هذه السبعِ ملائكةٌ حافّون من حول العرش لا يعلم عددَهم إلّا الله.. وفوقَ العرش الذي هو سقف الجنة يوجد ذلك الكتاب الذي كتب فيه {{إن رحمتي سبقت غضبي}}.. رواه البخاري.. معناه مظاهر رحمتي أكثر من مظاهر غضبي.. فمن حمَل حديثَ الجارية على ظاهره وظن اللهَ في جهة فوق فقد أثبت لله أمثالا لا تُحصى.. فتبين بذلك أن هؤلاء المشبهة مخالفون لقول الله تعالى في سورة الشورى ((ليس كمثله شيء)).. ولا يسلَم من إثبات الأمثال لله إلّا من نزه اللهَ عن التحيز في المكان والجهة مطلقا..ا</p> والحمد لله رب العالمين..ا
أحبابنا الكرام، لم يكن سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجارية السوداء أين الله سؤالا عن الجهة أو المكان، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعرف خلق الله بالله سبحانه و تعالى وهو يعلم أن الله تعالى موجود بلا مكان لا يسكن السماء ولا يجلس على العرش. وإليكم ما يقول السّندي في حاشيته على شرح الحافظ جلال الدين السيوطي على "سنن النسائي". في هذا الكتاب الذي هو المجلد الثاني، الجزء الثالث، من طبع دار إحياء التراث العربي، في الصحيفة 18 يقول الإمام السنديّ : "قول النبي عليه الصلاة والسلام : أين الله، قيل معناه في أي جهة يتوجه المتوجهون إلى الله تعالى، وقولها : في السماء، أي في جهة السماء يتوجهون، والمطلوب معرفة أن تعترف بوجوده تعالى لا إثبات الجهة لله". فيا أحبابنا الكرام هذا ما عليه أئمة الإسلام وهذا ما نحن عليه والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق