قال الإمام مسلم في صحيحه: بَاب مِنْ فَضَائِلِ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَام
قال الإمام النووي في شرح مسلم: جُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ مَوْجُودٌ بَيْن أَظْهُرِنَا، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْد الصُّوفِيَّةِ، وَأَهْل الصَّلَاح وَالْمَعْرِفَة، وَحِكَايَاتهمْ فِي رُؤْيَته وَالِاجْتِمَاع بِهِ وَالْأَخْذ عَنْهُ وَسُؤَاله وَجَوَابه وَوُجُوده فِي الْمَوَاضِع الشَّرِيفَة وَمَوَاطِن الْخَيْر أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ، وَأَشْهَر مِنْ أَنْ يُسْتَرَ. قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح: هُوَ حَيٌّ عِنْد جَمَاهِير الْعُلَمَاء وَالصَّالِحِينَ. وَالْعَامَّة مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ. قَالَ: وَإِنَّمَا شَذَّ بِإِنْكَارِهِ بَعْض الْمُحَدِّثِينَ، قَالَ الْحِبْرِيّ الْمُفَسِّرُ وَأَبُو عَمْرو: هُوَ نَبِيٌّ. وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ مُرْسَلًا. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ وَكَثِيرُونَ: هُوَ وَلِيٌّ…. قَالَ الْمَازِرِيّ: اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْخَضِر هَلْ هُوَ نَبِيّ أَوْ وَلِيّ ؟ قَالَ: وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِنُبُوَّتِهِ بِقَوْلِهِ :[وَمَا فَعَلْته عَنْ أَمْرِي] فَدَلَّ عَلَى إِنَّهُ نَبِيّ أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَبِأَنَّهُ أَعْلَم مِنْ مُوسَى، وَيَبْعُد أَنْ يَكُون وَلِيّ أَعْلَم مِنْ نَبِيٍّ. وَأَجَابَ الْآخَرُونَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْحَى اللَّه إِلَى نَبِيٍّ فِي ذَلِكَ الْعَصْر أَنْ يَأْمُرَ الْخَضِرَ بِذَلِكَ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ الْمُفَسِّر: الْخَضِر نَبِيّ مُعَمَّر عَلَى جَمِيع الْأَقْوَال، مَحْجُوب عَنْ الْأَبْصَار، يَعْنِي عَنْ أَبْصَار أَكْثَر النَّاس. قَالَ: قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَمُوتُ إِلَّا فِي آخِر الزَّمَان حِين يُرْفَعُ الْقُرْآن، وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ ثَلَاثَة أَقْوَال فِي أَنَّ الْخَضِر كَانَ مِنْ زَمَن إِبْرَاهِيم الْخَلِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ أَمْ بِكَثِيرٍ. كُنْيَة الْخَضِر أَبُو الْعَبَّاس، وَاسْمه ( بَلْيَا ) بِمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَة ثُمَّ لَام سَاكِنَة ثُمَّ مُثَنَّاة تَحْتُ، اِبْن ( مَلْكَان ) بِفَتْحِ الْمِيم وَإِسْكَان اللَّام، وَقِيلَ: ( كَلْيَان ) قَالَ اِبْن قُتَيْبَة فِي الْمَعَارِف: قَالَ وَهْب بْن مَنْبَه: اِسْم الْخَضِر ( بَلْيَا بْن مَلْكَان بْن فَالِغ بْن عَابِر بْن شالخ بْن أرفخشد بْن سَام بْن نُوح ). قَالُوا: وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ الْمُلُوك. وَاخْتَلَفُوا فِي لَقَبه الْخَضِر، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَة بَيْضَاء، فَصَارَتْ خَضْرَاء، وَالْفَرْوَة وَجْه الْأَرْض. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى اِخْضَرَّ مَا حَوْله وَالصَّوَاب الْأَوَّل، فَقَدْ صَحَّ فِي الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِر لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَة فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاء"، وَبَسَطْت أَحْوَاله فِي تَهْذِيب الْأَسْمَاء وَاللُّغَات وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ كلام النووي
وفي صحيح مسلم أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا حَدِيثًا طَوِيلًا عَنْ الدَّجَّالِ فَكَانَ فِيمَا حَدَّثَنَا قَالَ: يَأْتِي وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ فَيَنْتَهِي إِلَى بَعْضِ السِّبَاخِ الَّتِي تَلِي الْمَدِينَةَ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ أَوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ فَيَقُولُ لَهُ أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَهُ فَيَقُولُ الدَّجَّالُ أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ أَتَشُكُّونَ فِي الْأَمْرِ فَيَقُولُونَ لَا قَالَ فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ فَيَقُولُ حِينَ يُحْيِيهِ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ فِيكَ قَطُّ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الْآنَ قَالَ فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو إِسْحَقَ: يُقَالُ إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَام. اهـ
قال الإمام النووي في شرح مسلم: قَوْله: ( قَالَ أَبُو إِسْحَاق: يُقَال: إِنَّ الرَّجُل هُوَ الْخَضِر عَلَيْهِ السَّلَام ) أَبُو إِسْحَاق هَذَا هُوَ إِبْرَاهِيم بْن سُفْيَان رَاوِي الْكِتَاب عَنْ مُسْلِم ، وَكَذَا قَالَ مَعْمَر فِي جَامِعه فِي أَثَر هَذَا الْحَدِيث كَمَا ذَكَرَهُ اِبْن سُفْيَان، وَهَذَا تَصْرِيح مِنْهُ بِحَيَاةِ الْخَضِر عَلَيْهِ السَّلَام، وَهُوَ الصَّحِيح.اهـ كلام النووي
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وَقَالَ عَبْد الرَّزَّاق فِي مُصَنَّفه عَنْ مَعْمَر فِي قِصَّة الَّذِي يَقْتُلهُ الدَّجَّال ثُمَّ يُحْيِيه: بَلَغَنِي أَنَّهُ الْخَضِر، وَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيم بْن سُفْيَان الرَّاوِي عَنْ مُسْلِم فِي صَحِيحه. وَرَوَى اِبْن إِسْحَاق فِي " الْمُبْتَدَأ " عَنْ أَصْحَابه أَنَّ آدَم أَخْبَرَ بَنِيهِ عِنْد الْمَوْت بِأَمْرِ الطُّوفَان، وَدَعَا لِمَنْ يَحْفَظ جَسَده بِالتَّعْمِيرِ حَتَّى يَدْفِنهُ، فَجَمَعَ نُوح بَنِيهِ لَمَّا وَقَعَ الطُّوفَان وَأَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ فَحَفِظُوهُ، حَتَّى كَانَ الَّذِي تَوَلَّى دَفْنه الْخَضِر. وَرَوَى خَيْثَمَة بْن سُلَيْمَان مِنْ طَرِيق جَعْفَر الصَّادِق عَنْ أَبِيهِ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ لَهُ صَدِيق مِنْ الْمَلَائِكَة، فَطَلَب مِنْهُ أَنْ يَدُلّهُ عَلَى شَيْء يُطَوِّل بِهِ عُمُره فَدَلَّهُ عَلَى عَيْن الْحَيَاة وَهِيَ دَاخِل الظُّلْمَة، فَسَارَ إِلَيْهَا وَالْخَضِر عَلَى مُقَدِّمَته فَظَفِرَ بِهَا الْخَضِر وَلَمْ يَظْفَر بِهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ.
ثم قال الحافظ ابن حجر: وَرَوَى يَعْقُوب بْن سُفْيَان فِي تَارِيخه وَأَبُو عَرُوبَة مِنْ طَرِيق رِيَاح بِالتَّحْتَانِيَّةِ اِبْن عُبَيْدَة قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا يُمَاشِي عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز مُعْتَمِدًا عَلَى يَدَيْهِ فَلَمَّا اِنْصَرَفَ قُلْت لَهُ مَنْ الرَّجُل ؟ قَالَ: رَأَيْته ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ أَحْسِبك رَجُلًا صَالِحًا، ذَاكَ أَخِي الْخَضِر بَشَّرَنِي أَنِّي سَأُوَلَّى وَأَعْدِل. لَا بَأْس بِرِجَالِهِ. وَرَوَى اِبْن عَسَاكِر فِي تَرْجَمَة أَبِي زُرْعَة الرَّازِيّ بِسَنَد صَحِيح أَنَّهُ رَأَى وَهُوَ شَابّ رَجُلًا نَهَاهُ عَنْ غَشَيَان أَبْوَاب الْأُمَرَاء، ثُمَّ رَآهُ بَعْد أَنْ صَارَ شَيْخًا كَبِيرًا عَلَى حَالَته الْأُولَى فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا، قَالَ فَالْتَفَتّ لِأُكَلِّمهُ فَلَمْ أَرَهُ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهُ الْخَضِر. وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ مِنْ طَرِيق الْحَجَّاج بْن قَرَافِصَة أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا يَتَبَايَعَانِ عِنْد اِبْن عُمَر، فَقَامَ عَلَيْهِمْ رَجُل فَنَهَاهُمَا عَنْ الْحَلِف بِاَللَّهِ وَوَعَظَهُمْ بِمَوْعِظَةٍ، فَقَالَ اِبْن عُمَر لِأَحَدِهِمَا: اُكْتُبْهَا مِنْهُ، فَاسْتَعَادَهُ حَتَّى حَفِظَهَا ثُمَّ تَطَلَّبَهُ فَلَمْ يَرَهُ، قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ الْخَضِر. اهـ كلام الحافظ
وفي صحيح البخاري والترمذي وأحمد –واللفظ للبخاري-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرَ أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءَ . ولفظ أحمد: فَإِذَا هِيَ تَحْتَهُ تَهْتَزُّ خَضْرَاءَ. ولفظ الترمذي: فَاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خَضْرَاءَ. والْفَرْوَةُ أَرْضٌ بَيْضَاءُ لَيْسَ فِيهَا نَبَاتٌ.
وفي صحيحي البخاري ومسلم والترمذي وأحمد وغيرهم –واللفظ لمسلم- عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام صَاحِبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْسَ هُوَ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ سَمِعْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَامَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيل – يُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللَّه وَآلَاء اللَّه نَعْمَاؤُهُ وَبَلَاؤُهُ – حَتَّى إِذَا فَاضَتْ الْعُيُونُ وَرَقَّتْ الْقُلُوبُ – فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ فَقَالَ أَنَا أَعْلَمُ قَالَ فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ – قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَجْمَع بَحْرَيْ فَارِس وَالرُّوم مِمَّا يَلِي الْمَشْرِق، وَحَكَى الثَّعْلَبِيّ عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب أَنَّهُ بَأَفْرِيقِيَّة – هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ- أَعْلَم مِنْك فِي أَمْر مَخْصُوص فالخضر لا يزيد على موسى في العلم الشرعي إنما فيما يتعلق بأحوال الكائنات –
وفي رواية للبخاري: فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ – قَالَ مُوسَى أَيْ رَبِّ كَيْفَ لِي بِهِ فَقِيلَ لَهُ احْمِلْ حُوتًا– الْحُوت السَّمَكَة، وَكَانَتْ سَمَكَة مَالِحَة كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة – فِي مِكْتَلٍ - وَهُوَ الْقُفَّة وَالزَّبِيل- فَحَيْثُ تَفْقِدُ الْحُوتَ– أَيْ يَذْهَبُ مِنْك – فَهُوَ ثَمَّ – هُنَاكَ - فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ – صَاحِبه –وَهُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ فَحَمَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حُوتًا فِي مِكْتَلٍ وَانْطَلَقَ هُوَ وَفَتَاهُ يَمْشِيَانِ حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ فَرَقَدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَفَتَاهُ فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ الْمِكْتَلِ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ –
وفي رواية: وَفِي أَصْل الصَّخْرَة عَيْن يُقَال لَهَا الْحَيَاة لَا يُصِيب مِنْ مَائِهَا شَيْءٌ إِلَّا حَيِيَ، فَأَصَابَ الْحُوت مِنْ مَاء تِلْكَ الْعَيْن فَتَحَرَّكَ وَانْسَلَّ مِنْ الْمِكْتَل فَدَخَلَ الْبَحْر– وَذَكَرَ اِبْن عَطِيَّة أَنَّهُ رَأَى سَمَكَةً أَحَد جَانِبَيْهَا شَوْك وَعَظْم وَجِلْد رَقِيق عَلَى أَحْشَائِهَا وَنِصْفهَا الثَّانِي صَحِيح، وَيَذْكُر أَهْل ذَلِكَ الْمَكَان أَنَّهَا مِنْ نَسْل حُوت مُوسَى، إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ لَمَّا حَيِيَ بَعْدَ أَنْ أَكَلَ مِنْهُ اِسْتَمَرَّتْ فِيهِ تِلْكَ الصِّفَة ثُمَّ فِي نَسْله – قَالَ: وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جِرْيَةَ الْمَاءِ حَتَّى كَانَ مِثْلَ الطَّاقِ– وَالطَّاق عَقْد الْبِنَاء، وصار الماء أثناء جريانه فيه يتحول الى حجر ويغدو كالقناطر فوقها – فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا وَكَانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا – وَمُوسَى نَائِم، فَقَالَ فَتَاهُ: لَا أُوقِظُهُ، حَتَّى إِذَا اِسْتَيْقَظَ فَنَسِيَ أَنْ يُخْبِرَهُ – فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا وَنَسِيَ صَاحِبُ مُوسَى أَنْ يُخْبِرَهُ فَلَمَّا أَصْبَحَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا – التَّعَب – قَالَ: وَلَمْ يَنْصَبْ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ قَالَ -فتاه- أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا – عَجَبُ مُوسَى أَنْ تَسَرَّبَ حُوت مُمَلَّح فِي مِكْتَل– قَالَ مُوسَى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ– نَطْلُبُ - فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا قَالَ يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا –عادا في نفس الطريق الذي أتيا منه ثم رأيا أثر جري السمكة في البحر إذ ظهر مثل أخدود صخري فسلكاه – حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ فَرَأَى رَجُلًا مُسَجًّى – مُغَطَّى- عَلَيْهِ بِثَوْبٍ – رَأَى مُوسَى الْخَضِر عَلَى طِنْفِسَة خَضْرَاء وهو مسجى بثوب أخضر مستلق على ظهره عَلَى وَجْه الْمَاء- فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى –فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُمْ، فَكَشَفَ الثَّوْب عَنْ وَجْهه وَقَالَ: وَعَلَيْكُمْ السَّلَام – فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ أَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ– أَيْ مِنْ أَيْنَ السَّلَام فِي هَذِهِ الْأَرْض الَّتِي لَا يُعْرَف فِيهَا السَّلَام لأن أهل تلك الأرض لم يكونوا في ذاك الوقت مسلمين – قَالَ: أَنَا مُوسَى، قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: نَعَمْ – وفي رواية: مُسَجًّى بِثَوْبِهِ قَدْ جَعَلَ طَرَفَهُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ وَطَرَفَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ هَلْ بِأَرْضِي مِنْ سَلَامٍ مَنْ أَنْتَ قَالَ: أَنَا مُوسَى قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ: نَعَمْ قَالَ فَمَا شَأْنُكَ قَالَ جِئْتُ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا قَالَ أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ بِيَدَيْكَ وَأَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيكَ – قَالَ -الخضر- إِنَّكَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ وَأَنَا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا– لِمَا أَطْلَعَهُ اللَّه عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ مُوسَى لَا يَصْبِر عَلَى تَرْك الْإِنْكَار إِذَا رَأَى مَا يُخَالِف الشَّرْع- وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا – فَأَنَا أَعْرِف أَنَّك سَتُنْكِرُ عَلَيَّ مَا أَنْتَ مَعْذُور فِيهِ وَلَكِنْ مَا اِطَّلَعْت عَلَى حِكْمَته وَمَصْلَحَته الْبَاطِنَة الَّتِي اِطَّلَعْت أَنَا عَلَيْهَا دُونك.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَوَدِدْتُ أَنَّهُ كَانَ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِهِمَا. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَتْ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا. وفي رواية: كَانَتْ الْأُولَى نِسْيَانًا وَالْوُسْطَى شَرْطًا وَالثَّالِثَة عَمْدًا
قال له الخضر: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ –فيصيبون منها رزقا يعينهم على الكسب وكَانَتْ لِعَشَرَةِ إِخْوَة مِنْ الْمَسَاكِين وَرِثُوهَا مِنْ أَبِيهِمْ خَمْسَة زَمْنَى، وَخَمْسَة يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْر. وَقِيلَ: كَانُوا سَبْعَة لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمْ زَمَانَة لَيْسَتْ بِالْآخَرِ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّقَّاش أَسْمَاءَهُمْ: فَأَمَّا الْعُمَّال مِنْهُمْ فَأَحَدهمْ كَانَ مَجْذُومًا، وَالثَّانِي أَعْوَر، وَالثَّالِث أَعْرَج، وَالرَّابِع آدَرّ، وَالْخَامِس مَحْمُومًا لَا تَنْقَطِع عَنْهُ الْحُمَّى الدَّهْر كُلّه وَهُوَ أَصْغَرهمْ، وَالْخَمْسَة الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَ الْعَمَل: أَعْمَى وَأَصَمّ وَأَخْرَس وَمُقْعَد وَمَجْنُون، وَكَانَ الْبَحْر الَّذِي يَعْمَلُونَ فِيهِ مَا بَيْن فَارِس وَالرُّوم.
وقال له الخضر: ولم يكن الإخوة على علم بما يريد الملك فعلَه: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا– أَيْ أَجْعَلهَا ذَات عَيْب، وفي صحيح البخاري:( فَأَرَدْت إِذَا هِيَ مَرَّتْ بِهِ أَنْ يَدَعَهَا لِعَيْبِهَا ) وفِي رِوَايَة النَّسَائِيِّ " فَأَرَدْت أَنْ أَعِيبَهَا حَتَّى لَا يَأْخُذَهَا ".
وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ – أي وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِك فاجر واسمه هُدَد بْن بُدَد – يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا – أي يأخذ كل سفينة صحيحة تمر في بحره غصبا ويترك التي فيها خلل وأعطال – وَفِي صَحِيح مُسْلِم وَجْه الْحِكْمَة بِخَرْقِ السَّفِينَة وَذَلِكَ قَوْله: ( فَإِذَا جَاءَ الَّذِي يُسَخِّرُهَا وَجَدَهَا مُنْخَرِقَة فَتَجَاوَزَهَا، فَأَصْلَحُوهَا بِخَشَبَةٍ .) وفِي رِوَايَة النَّسَائِيِّ " فَإِذَا جَاوَزُوهُ رَقَّعُوهَا فَانْتَفَعُوا بِهَا وَبَقِيَتْ لَهُمْ ".
وَكَانَ اِبْن عَبَّاس يَقْرَأ: وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِك يَأْخُذ كُلّ سَفِينَة صَالِحَة غَصْبًا " وَكَانَ اِبْن مَسْعُود يَقْرَأ: كُلّ سَفِينة صَحِيحَة غَصْبًا
–وَأَمَّا الْغُلَامُ – وَأَمَّا الْغُلَام فَكَانَ كَافِرًا هُوَ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْره أَنْ لَوْ عَاشَ حَتَّى يَبْلُغ واسمه كما في البخاري جَيْسُور – فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا – يَغْشَاهُمَا – طُغْيَانًا وَكُفْرًا – أَنْ يَحْمِلَهَا حُبُّهُ عَلَى أَنْ يُتَابِعَاهُ عَلَى دِينه.
وفي صحيح مسلم: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَطُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ قَدْ عَطَفَا عَلَيْهِ فَلَوْ أَنَّهُ أَدْرَكَ أَرْهَقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً – إِسْلَامًا–
وَأَقْرَبَ رُحْمًا– هُمَا بِهِ أَرْحَمُ مِنْهُمَا بِالْأَوَّلِ الَّذِي قَتَلَ خَضِر وَأَمَّا الرُّحْم فَقِيلَ: مَعْنَاهُ الرَّحْمَة لِوَالِدَيْهِ وَبِرِّهِمَا وَقِيلَ الْمُرَاد يَرْحَمَانِهِ .
أَبْدَلَهُمَا جَارِيَة فَوَلَدَتْ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاء وقيل أَنَّ أُمّ الْغُلَام يَوْم قُتِلَ كَانَتْ حَامِلًا فولدت بنتا كانت أرحم من الذي قتله الخضر والعبرة في قصة الغلام أنه فَرِحَ بِهِ أَبَوَاهُ حِين وُلِدَ وَحَزِنَا عَلَيْهِ حِين قُتِلَ، وَلَوْ بَقِيَ كَانَ فِيهِ هَلَاكهمَا.فَالْوَاجِب عَلَى كُلّ اِمْرِئٍ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّه تَعَالَى.
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ– حكي أن اسْمهمَا أَصْرَم وَصَرِيم واسم أبيهما كَاشِح فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى إِطْلَاق الْقَرْيَة عَلَى الْمَدِينَة لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا " حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْل قَرْيَة " وَقَالَ هَاهُنَا " فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَة "
وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا – وكان تحت الجدار كنز لهما عبارة عن لوح ذهبي ومال كثير من ذهب وفضة تركه لهما والدهما الصالح الذي يؤدي الأمانات والودائع إلى أهلها وقد حُفظا بصلاح أبيهما وفي الحديث الشريف : إن الله يحفظ الرجلَ الصالح في ذريته–
فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ – ولما كان الجدار مشرفا على السقوط ولو سقط لضاع ذلك الكنز أراد الله إبقاءه على اليتيمين رعاية لحقهما وحق صلاح والدهما فأمر الله الخضرَ بإقامة ذلك الجدار ليحفظ الكنز الذي سيكون من نصيب اليتيمين عندما يكبران، وكان اليتيمان جاهلين بأن لهما كنزا الا أن الوصي عليهما كان عالما به، ثم الوصي غاب وأشرف ذلك الجدار في غيبته على السقوط.
وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي – أي ما فعلته باجتهاد مني ورأي، إنما فعلته بأمر الله، وهذا يدل على أنه نبي أوحي إليه.
ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا
قال الإمام النووي في شرح مسلم: وَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاء بِسُؤَالِ مُوسَى السَّبِيل إِلَى لِقَاء الْخَضِر صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اِسْتِحْبَاب الرِّحْلَة فِي طَلَب الْعِلْم، وَاسْتِحْبَاب الِاسْتِكْثَار مِنْهُ، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعِلْم بِمَحَلٍّ عَظِيم أَنْ يَأْخُذَهُ مِمَّنْ هُوَ أَعْلَم مِنْهُ، وَيَسْعَى إِلَيْهِ فِي تَحْصِيلِهِ، وَفِيهِ فَضِيلَةُ طَلَب الْعِلْم وَفِي تَزَوُّدِهِ الْحُوت وَغَيْره جَوَاز التَّزَوُّد فِي السَّفَر. وَفِي هَذَا الْحَدِيث الْأَدَب مَعَ الْعَالِم، وَحُرْمَة الْمَشَايِخ، وَالْوَفَاء بِعُهُودِهِمْ، وَالِاعْتِذَار عِنْد مُخَالَفَة عَهْدهمْ. وَفِيهِ جَوَاز سُؤَال الطَّعَام عِنْد الْحَاجَة، وَجَوَاز إِجَارَة السَّفِينَة، وَجَوَاز رُكُوب السَّفِينَة وَالدَّابَّة وَسُكْنَى الدَّار وَلُبْس الثَّوْب وَنَحْو ذَلِكَ بِغَيْرِ أُجْرَة بِرِضَى صَاحِبه. اهـ
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وَفِي الْحَدِيث جَوَاز رُكُوب الْبَحْر فِي طَلَب الْعِلْم بَلْ فِي طَلَب الِاسْتِكْثَار مِنْهُ، وَمَشْرُوعِيَّة حَمْل الزَّاد فِي السَّفَر، وَلُزُوم التَّوَاضُع فِي كُلّ حَال، وَلِهَذَا حَرَصَ مُوسَى عَلَى الِالْتِقَاء بِالْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَام وَطَلَب التَّعَلُّم مِنْهُ تَعْلِيمًا لِقَوْمِهِ أَنْ يَتَأَدَّبُوا بِأَدَبِهِ، وَتَنْبِيهًا لِمَنْ زَكَّى نَفْسه أَنْ يَسْلُك مَسْلَك التَّوَاضُع.اهـ
قال الحافظ ابن حجر في الفتح-في موضع ءاخر- : وَفِيهِ فَضْل الِازْدِيَاد مِنْ الْعِلْم، وَلَوْ مَعَ الْمَشَقَّة وَالنَّصَب بِالسَّفَرِ، وَخُضُوع الْكَبِير لِمَنْ يَتَعَلَّم مِنْهُ. وَوَجْه الدَّلَالَة مِنْهُ قَوْله تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاهُمْ اِقْتَدِهِ ) وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مِنْهُمْ، فَتَدْخُل أُمَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْت هَذَا الْأَمْر إِلَّا فِيمَا ثَبَتَ نَسْخه.
قال الحافظ ابن حجر: قال القرطبي: ذَهَبَ قَوْم مِنْ الزَّنَادِقَة إِلَى سُلُوك طَرِيقَة تَسْتَلْزِم هَدْم أَحْكَام الشَّرِيعَة فَقَالُوا: إِنَّهُ يُسْتَفَاد مِنْ قِصَّة مُوسَى وَالْخَضِر أَنَّ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الْعَامَّة تَخْتَصّ بِالْعَامَّةِ وَالْأَغْبِيَاء، وَأَمَّا الْأَوْلِيَاء وَالْخَوَاصّ فَلَا حَاجَة بِهِمْ إِلَى تِلْكَ النُّصُوص، بَلْ إِنَّمَا يُرَاد مِنْهُمْ مَا يَقَع فِي قُلُوبهمْ، وَيُحْكَم عَلَيْهِمْ بِمَا يَغْلِب عَلَى خَوَاطِرهمْ، لِصَفَاءِ قُلُوبهمْ عَنْ الْأَكْدَار وَخُلُوّهَا عَنْ الْأَغْيَار. فَتَنْجَلِي لَهُمْ الْعُلُوم الْإِلَهِيَّة وَالْحَقَائِق الرَّبَّانِيَّة، فَيَقِفُونَ عَلَى أَسْرَار الْكَائِنَات وَيَعْلَمُونَ الْأَحْكَام الْجُزْئِيَّات فَيَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْ أَحْكَام الشَّرَائِع الْكُلِّيَّات، كَمَا اِتَّفَقَ لِلْخَضِرِ، فَإِنَّهُ اِسْتَغْنَى بِمَا يَنْجَلِي لَهُ مِنْ تِلْكَ الْعُلُوم عَمَّا كَانَ عِنْد مُوسَى، وَيُؤَيِّدهُ الْحَدِيث الْمَشْهُور: " اِسْتَفْتِ قَلْبك وَإِنْ أَفْتَوْك " قَالَ الْقُرْطُبِيّ:وَهَذَا الْقَوْل زَنْدَقَة وَكُفْر، لِأَنَّهُ إِنْكَار لِمَا عُلِمَ مِنْ الشَّرَائِع، فَإِنَّ اللَّه قَدْ أَجْرَى سُنَّته وَأَنْفَذَ كَلِمَته بِأَنَّ أَحْكَامه لَا تُعْلَم إِلَّا بِوَاسِطَةِ رُسُله السُّفَرَاء بَيْنه وَبَيْن خَلْقه الْمُبَيِّنِينَ لِشَرَائِعِهِ وَأَحْكَامه، كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: ( اللَّه يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَة رُسُلًا وَمِنْ النَّاس ) وَقَالَ: ( اللَّه أَعْلَم حَيْثُ يَجْعَل رِسَالَاته ) وَأَمَرَ بِطَاعَتِهِمْ فِي كُلّ مَا جَاءُوا بِهِ، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتهمْ وَالتَّمَسُّك بِمَا أَمَرُوا بِهِ فَإِنَّ فِيهِ الْهُدَى. وَقَدْ حَصَلَ الْعِلْم الْيَقِين وَإِجْمَاع السَّلَف عَلَى ذَلِكَ، فَمَنْ اِدَّعَى أَنَّ هُنَاكَ طَرِيقًا أُخْرَى يَعْرِف بِهَا أَمْرَهُ وَنَهْيه غَيْر الطُّرُق الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُل يَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ الرَّسُول فَهُوَ كَافِر يُقْتَل وَلَا يُسْتَتَاب . قَالَ: وَهِيَ دَعْوَى تَسْتَلْزِم إِثْبَات نُبُوَّة بَعْد نَبِيّنَا، لِأَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ يَأْخُذ عَنْ قَلْبه لِأَنَّ الَّذِي يَقَع فِيهِ هُوَ حُكْم اللَّه وَأَنَّهُ يَعْمَل بِمُقْتَضَاهُ مِنْ غَيْر حَاجَة مِنْهُ إِلَى كِتَاب وَلَا سُنَّة فَقَدْ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ خَاصَّة النُّبُوَّة كَمَا قَالَ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ رُوح الْقُدُس نَفَثَ فِي رُوعِي"، قَالَ: وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا لَا آخُذ عَنْ الْمَوْتَى، وَإِنَّمَا آخُذ عَنْ الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت. وَكَذَا قَالَ آخَر: أَنَا آخُذ عَنْ قَلْبِي عَنْ رَبِّي. وَكُلّ ذَلِكَ كُفْر بِاتِّفَاقِ أَهْل الشَّرَائِع، وَنَسْأَل اللَّه الْهِدَايَة وَالتَّوْفِيق. اهـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق