فهذا العمل لم يكن في عهد النبيّ ولا فيما يليه، إنّما أحدث في أوائل الستمائة للهجرة، وأول مَن أحدثه ملك إربل، وكان عالمًا تقيًّا شجاعًا يقال له المظفّر، وجمع لهذا كثيرًا من العلماء فيهم من أهل الحديث والصوفية الصادقين، فاستحسن ذلك العمل العلماء في مشارق الأرض ومغاربها منهم الحافظ ابن حجر العسقلاني وتلميذه الحافظ السّخاوي، وكذلك الحافظ السيوطي.
فقد ذكر الحافظ السخاوي في فتاويه أنَّ عمل المولد حدث بعد القرون الثلاثة، ثم لا زال أهل الإِسلام من سائر الأقطار في المدن الكبار يعملون المولد ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم.
وللحافظ السيوطي رسالة سمّاها "حسن المقصد في عمل المولد" قال: "فقد وقع السؤال عن عمل المولد النبويّ في شهر ربيع الأول ما حكمه من حيث الشرع، وهل هو محمود أم مذموم، وهل يُثاب فاعله أم لا؟ والجواب عندي أنَّ أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسّر من القرءان ورواية الأخبار الواردة في مبدإ أمر النبيّ وما وقع في مولده من الآيات، ثمّ يمدّ لهم سِماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يُثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبيّ وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف صلى الله عليه وسلم، وأول مَن أحدث ذلك صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين ابن بكتكين أحد الملوك الأمجاد والكبراء والأجواد، وكان له ءاثار حسنة وهو الذي عمَّر الجامع المظفري بسفح قاسيون" ا.هـ.
وقد سئل الحافظ السخاوي عن عمل المولد فقال ما نصه:
- سئلت عن أصل عمل المولد الشريف.
فأجبت: لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة، وإنما حدث بعد، ثم ما زال أهل الإسلام في سائر الأقطار والمدن العظام يحتفلون في شهر مولده صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم يعملون الولائم البديعة المشتملة على الأمور البهجة الرفيعة، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرات بل يعتنون بقراءة مولده الكريم وتظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم بحيث كان مما جُرب قاله الإمام شمس الدين ابن الجزري: ومن خواصه أنه أمان تام في ذلك العام ويسوى بعَجل حينئذ بما ينبغي ويرام، وأكثرهم بذلك عناية أهل مصر والشام، ولسلطان مصر في تلك الليلة من العام أعظم عام، قال: ولقد حضرت في سنة خمس وثمانين وسبعمائة ليلة مولد عند الملك الظاهر برقوق - رحمه الله - بقلعة الجبل فرأيت ما هالني فيه، حرزت ما أنفق في تلك الليلة على القراء والحاضرين من الوعاظ والمنشدين وغيرهم بنحو عشرة ءالاف مثقال من الذهب العين ما بين خلع ومطعوم ومشروب ومشموم وشموع وغير ذلك وعددت في ذلك المجلس خمسًا وعشرين جوقة من القراء الصبيان ولم ينزل واحد منهم إلا بنحو عشرين خِلعة من السلطان والأمراء يعني من الخلع الفاخرة البهية، ثم لم يزل ملوك مصر خدام الحرمين الشريفين ممن وفقهم الله لهدم كثير من... ونظروا في أمر رعيتهم كالوالد لولده وأشهروا أنفسهم بالعدل وأسعفهم المولى بجنده ومدده كالملك السعيد الشهيد الظاهر أبي سعيد جقمق ويعتنون ويتوجهون طريق سنته بحيث إنه ثبت حرف القراء في أيام تتعين للرفادة على ثلاثين فذكروا بكل جميل وكفوا من المهمات كل عريض طويل، وأما ملوك الأندلس والمغرب فلهم فيه ليلة يسير بها الركبان يجمع فيها أئمة العلماء من كل مكان ويعلو بها بين أهل الكفر به الإيمان وأهله بمكة فيتوجهون إلى المكان المتواتر بين الناس أنه محل مولده وهو في سوق الليل رجاء بلوغ كل منهم بذلك لقصده، ويزيد اهتمامهم به على يوم العيد حتى لم يتخلف عنه أحد من صالح ولا طالح ومقل وسعيد، وكان للملك المظفر صاحب إربل كذلك فيها أتم عناية واهتمامًا بشأنه، جاوز الغاية، أثنى عليه به العلامة أبو شامة أحد شيوخ النووي الفائق في الاستقامة في كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث وقال: مثل هذا الحسن يتقرب إليه ويشكر فاعله ويثنى عليه".
ثم قال الحافظ ما نصه: "قلت: بل خرج شيخنا شيخ مشايخ الإسلام خاتمة الأئمة الأعلام فعله على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وسلم دخل المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله سبحانه وتعالى فيه فرعون ونجّى موسى عليه السلام، فنحن نصومه شكرًا لله عزَّ وجلَّ، فقال صلى الله عليه وسلم: "فأنا أحق بموسى عليه السلام منكم، فصامه وأمر بصيامه"، وقال: "إن عشت إلى قابل... الحديث". قال شيخنا: فيستفاد منه فعله الشكر لله تعالى على ما مَنّ به في يوم معيّن من إسداء نعمة أو دفع نقمة ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله تعالى يحصل بأنواع العبادة، كالسجود والصيام والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، وعلى هذا ينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما ذكر، أما ما يتبعه من السماع واللهو وغيرهما فينبغي أن يقال: ما كان من ذلك مباحًا بحيث يعين السرور بذلك اليوم فلا بأس بإلحاقه، ومهما كان حرامًا أو مكروهًا فيمنع، وكذا ما كان خلاف الأولى.
قلت: ولما كان الزاهد القدوة المعمر أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن جماعة بالمدينة النبوية كان يعمل طعامًا في المولد النبوي ويطعم الناس ويقول: لو تمكنت عملت بطول الشهر كل يوم مولدًا انتهى.
ولأجل ما انضم إليه من المناكير أطال ابن الحاج في مدخله في تقبيح فعله ومنع الظاهر جَقمق رحمه الله من فعله بطِنتداء.
قال شيخنا: ثم ينبغي أن يتحرى اليوم بعينه وإن كان ولد ليلًا فليقع الشكر بما يناسب الليل كالإطعام وإن كان ولد نهارًا فبما يناسبه كالصيام، ولا بد أن يكون ذلك اليوم من عدد أيام ذلك الشهر بعينه حتى يطابق قصة موسى عليه السلام في يوم عاشوراء ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة وفيه ما فيه.
قلت: كان مولده الشريف على الأصح ليلة الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وقيل: لليلتين خلتا منه، وقيل: لثمان، وقيل: لعشر وقيل غير ذلك، وحينئذ فلا بأس بفعل الخير في هذه الأيام والليالي على حسب الاستطاعة بل يحسن في أيام الشهر كلها ولياليه.
وأما قراءة المولد فينبغي أن يقتصر منه على ما أورده أئمة الحديث في تصانيفهم المختصة به كالمورد الهني للعراقي، وقد حدثتُ به في المحل المشار إليه بمكة، وغير المختصة به بل ذكر ضمنًا كدلائل النبوة للبيهقي، وقد ختم عليَّ بالروضة النبوية لأن أكثر ما بأيدي الوعاظ منه كذب واختلاق، بل لم يزالوا يولدون فيه ما هو أقبح وأسمج مما لا تحل روايته ولا سماعه، بل يجب على من علم بطلانه إنكاره الأمر بترك قراءته على أنه لا ضرورة إلى سياق ذكر المولد، بل يكتفي بالتلاوة والإطعام والصدقة، وإنشاد شىء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة والله يهدي من يشاء" اهـ.
فقد ذكر الحافظ السخاوي في فتاويه أنَّ عمل المولد حدث بعد القرون الثلاثة، ثم لا زال أهل الإِسلام من سائر الأقطار في المدن الكبار يعملون المولد ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم.
وللحافظ السيوطي رسالة سمّاها "حسن المقصد في عمل المولد" قال: "فقد وقع السؤال عن عمل المولد النبويّ في شهر ربيع الأول ما حكمه من حيث الشرع، وهل هو محمود أم مذموم، وهل يُثاب فاعله أم لا؟ والجواب عندي أنَّ أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسّر من القرءان ورواية الأخبار الواردة في مبدإ أمر النبيّ وما وقع في مولده من الآيات، ثمّ يمدّ لهم سِماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يُثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبيّ وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف صلى الله عليه وسلم، وأول مَن أحدث ذلك صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين ابن بكتكين أحد الملوك الأمجاد والكبراء والأجواد، وكان له ءاثار حسنة وهو الذي عمَّر الجامع المظفري بسفح قاسيون" ا.هـ.
وقد سئل الحافظ السخاوي عن عمل المولد فقال ما نصه:
- سئلت عن أصل عمل المولد الشريف.
فأجبت: لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة، وإنما حدث بعد، ثم ما زال أهل الإسلام في سائر الأقطار والمدن العظام يحتفلون في شهر مولده صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم يعملون الولائم البديعة المشتملة على الأمور البهجة الرفيعة، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرات بل يعتنون بقراءة مولده الكريم وتظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم بحيث كان مما جُرب قاله الإمام شمس الدين ابن الجزري: ومن خواصه أنه أمان تام في ذلك العام ويسوى بعَجل حينئذ بما ينبغي ويرام، وأكثرهم بذلك عناية أهل مصر والشام، ولسلطان مصر في تلك الليلة من العام أعظم عام، قال: ولقد حضرت في سنة خمس وثمانين وسبعمائة ليلة مولد عند الملك الظاهر برقوق - رحمه الله - بقلعة الجبل فرأيت ما هالني فيه، حرزت ما أنفق في تلك الليلة على القراء والحاضرين من الوعاظ والمنشدين وغيرهم بنحو عشرة ءالاف مثقال من الذهب العين ما بين خلع ومطعوم ومشروب ومشموم وشموع وغير ذلك وعددت في ذلك المجلس خمسًا وعشرين جوقة من القراء الصبيان ولم ينزل واحد منهم إلا بنحو عشرين خِلعة من السلطان والأمراء يعني من الخلع الفاخرة البهية، ثم لم يزل ملوك مصر خدام الحرمين الشريفين ممن وفقهم الله لهدم كثير من... ونظروا في أمر رعيتهم كالوالد لولده وأشهروا أنفسهم بالعدل وأسعفهم المولى بجنده ومدده كالملك السعيد الشهيد الظاهر أبي سعيد جقمق ويعتنون ويتوجهون طريق سنته بحيث إنه ثبت حرف القراء في أيام تتعين للرفادة على ثلاثين فذكروا بكل جميل وكفوا من المهمات كل عريض طويل، وأما ملوك الأندلس والمغرب فلهم فيه ليلة يسير بها الركبان يجمع فيها أئمة العلماء من كل مكان ويعلو بها بين أهل الكفر به الإيمان وأهله بمكة فيتوجهون إلى المكان المتواتر بين الناس أنه محل مولده وهو في سوق الليل رجاء بلوغ كل منهم بذلك لقصده، ويزيد اهتمامهم به على يوم العيد حتى لم يتخلف عنه أحد من صالح ولا طالح ومقل وسعيد، وكان للملك المظفر صاحب إربل كذلك فيها أتم عناية واهتمامًا بشأنه، جاوز الغاية، أثنى عليه به العلامة أبو شامة أحد شيوخ النووي الفائق في الاستقامة في كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث وقال: مثل هذا الحسن يتقرب إليه ويشكر فاعله ويثنى عليه".
ثم قال الحافظ ما نصه: "قلت: بل خرج شيخنا شيخ مشايخ الإسلام خاتمة الأئمة الأعلام فعله على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وسلم دخل المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله سبحانه وتعالى فيه فرعون ونجّى موسى عليه السلام، فنحن نصومه شكرًا لله عزَّ وجلَّ، فقال صلى الله عليه وسلم: "فأنا أحق بموسى عليه السلام منكم، فصامه وأمر بصيامه"، وقال: "إن عشت إلى قابل... الحديث". قال شيخنا: فيستفاد منه فعله الشكر لله تعالى على ما مَنّ به في يوم معيّن من إسداء نعمة أو دفع نقمة ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله تعالى يحصل بأنواع العبادة، كالسجود والصيام والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، وعلى هذا ينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما ذكر، أما ما يتبعه من السماع واللهو وغيرهما فينبغي أن يقال: ما كان من ذلك مباحًا بحيث يعين السرور بذلك اليوم فلا بأس بإلحاقه، ومهما كان حرامًا أو مكروهًا فيمنع، وكذا ما كان خلاف الأولى.
قلت: ولما كان الزاهد القدوة المعمر أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن جماعة بالمدينة النبوية كان يعمل طعامًا في المولد النبوي ويطعم الناس ويقول: لو تمكنت عملت بطول الشهر كل يوم مولدًا انتهى.
ولأجل ما انضم إليه من المناكير أطال ابن الحاج في مدخله في تقبيح فعله ومنع الظاهر جَقمق رحمه الله من فعله بطِنتداء.
قال شيخنا: ثم ينبغي أن يتحرى اليوم بعينه وإن كان ولد ليلًا فليقع الشكر بما يناسب الليل كالإطعام وإن كان ولد نهارًا فبما يناسبه كالصيام، ولا بد أن يكون ذلك اليوم من عدد أيام ذلك الشهر بعينه حتى يطابق قصة موسى عليه السلام في يوم عاشوراء ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة وفيه ما فيه.
قلت: كان مولده الشريف على الأصح ليلة الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وقيل: لليلتين خلتا منه، وقيل: لثمان، وقيل: لعشر وقيل غير ذلك، وحينئذ فلا بأس بفعل الخير في هذه الأيام والليالي على حسب الاستطاعة بل يحسن في أيام الشهر كلها ولياليه.
وأما قراءة المولد فينبغي أن يقتصر منه على ما أورده أئمة الحديث في تصانيفهم المختصة به كالمورد الهني للعراقي، وقد حدثتُ به في المحل المشار إليه بمكة، وغير المختصة به بل ذكر ضمنًا كدلائل النبوة للبيهقي، وقد ختم عليَّ بالروضة النبوية لأن أكثر ما بأيدي الوعاظ منه كذب واختلاق، بل لم يزالوا يولدون فيه ما هو أقبح وأسمج مما لا تحل روايته ولا سماعه، بل يجب على من علم بطلانه إنكاره الأمر بترك قراءته على أنه لا ضرورة إلى سياق ذكر المولد، بل يكتفي بالتلاوة والإطعام والصدقة، وإنشاد شىء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة والله يهدي من يشاء" اهـ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق