بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 16 نوفمبر 2018

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا

عبد الله بن أبي بن سلول

قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (سورة النساء/ءاية145)
إن النفاق في الاعتقاد مرض قلبي خبيث ومعناه التظاهر بالإسلام ظاهراً وإضمار وإبطان الكفر والضلال، فالمنافقون مخادعون، أصحاب نفوس خبيثة يدعون الانتساب للإسلام ظاهراً وأما بواطنهم وقلوبهم فتعتقد الكفر، وهم متلونون كالحرباء يخادعون الناس ويشككون بالحق، ولكن الله تبارك وتعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم حقيقتهم لأنه سبحانه لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء، لهذا قال الله تعالى: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} سورة المنافقون/ءاية1
ومع أن المنافقين يتظاهرون بالإسلام من حيث الظاهر فإن لهم علامات يعرفون بها: “تحيتهم لعنه وطعامهم نهبة وغنيمتهم غلول ولا يقربون المساجد إلا هجر ولا يأتون الصلاة إلا دبر مستكبرين لا يألفون ولا يؤلفون خشب بالليل صخب بالنهار”
وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافقون بالمدينة المنورة، وكانوا مصدر خطر داهم وكبير على المسلمين وعلى الدعوة الإسلامية حيث كانوا يتحينون الفرص والمناسبات للتفريق بين وحدة المسلمين المهاجرين والأنصار، وضرب قوتهم في المدينة، وكان على رأس هؤلاء المنافقين رجل خبيث ماكر من الخزرج هو “عبد الله بن أبي بن سلول” يجيد أساليب الخداع والمكر، وكان هذا المنافق مع أصحابه يثير الفتن وينشر الأكاذيب ويدبر المكائد للمسلمين، ولكن الله تعالى فضحه هو وأمثاله في القرءان الكريم وأخبر رسوله الكريم بأحوالهم ليحذرهم، وفي هذا يقول الله عزّ وجلّ: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} (سورة المنافقون/ءاية 4) ويروي الطبري في تفسير جامع البيان عن جابر بن عبد الله قال: إن الأنصار كانوا أكثر من المهاجرين، ثم إن المهاجرين كثروا فخرجوا في غزوة لهم فكسع (ضرب) رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فكان بينهما قتال فصرخ الأنصاري: يا معشر الأنصار، وصرخ المهاجر: يا معشر المهاجرين، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مالكم ولدعوة الجاهلية، دعوها فإنها منتنة (يعني العصبية) وكان زيد بن أرقم غلاماً حديث السن يجلس مع رهط من أصحاب المنافق عبد الله بن أبي بن سلول فسمع ابن سلول يقول: كما أخبر تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} (سورة المنافقون/ءاية 7) يعني الأعراب من المهاجرين وقال: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} سورة المنافقون/ءاية 8
فأخبر زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول ابن سلول، فجاء فحلف كاذباً للنبي ما قال ذلك، قال زيد: فجلست في بيتي حتى أنزل الله تصديق زيد، قوله: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} (سورة المنافقون/ءاية 1-2-3)
وطلب سيدنا عمر الفاروق من النبي أن يقتل ابن أبي سلول المنافق، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: “إني أكره أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه” وذلك لأن ابن سلول كان يظهر الإسلام ويبطن الكفر، فلما علم ابنه يعني عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول الصحابي الأنصاري الجليل بمقوله أبيه قال للنبي: دعني أضرب عنقه فلم يأذن له النبي بقتل أبيه المنافق، فقال هذا الصحابي: لقد صدق والله يا رسول الله، أنت والله الأعز وهو الأذل
اللَّهم نجنا من النفاق والمنافقين يا أرحم الراحمين.
الوليد بن المغيرة
إن من الذين كذبو النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا بما جاء به من عند الله، واستكبروا عن اتباع الحق وءاثروا الحياة الدنيا على الآخرة، واحد من زعماء قريش هو الوليد بن المغيرة المخزومي الذي كان سيد بني المخزوم وأحد رؤساء قريش الذي ختم الله على قلوبهم، وكان له بين قومه وعشيرته مكانه مرموقة ورأي ومشوارة
ولما علم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه من عبادة الله تعالى وحده، وترك عبادة الأصنام، والإيمان بأنه رسول من الله تعالى، قرر الذهاب إلى النبي عليه السلام ليسمع منه القرءان بنفسه ويقف على حقيقة الأمر، فلما جاء إليه وسمع منه القرءان الكريم كأنه رق له قلبه لما وجد فيه من معان سامية وبلاغة وفصاحة عالية، فبلغ ذلك عدو الله أبا جهل عمرو بن هشام فجاءه فقال له: يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه، ولكنك أتيت محمداً تتعرض له؟ فقال الوليد: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا، فقال له أبو جهل اللعين: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له وكاره، قال الوليد بن المغيرة: وماذا أقول؟ فوالله مافيكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزها وبقصيدها مني، والله مايشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، فقال له عدو الله أبو جهل: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال الوليد: فدعني حتى أفكر فيه فلبث الوليد مليا ثم قال متبعا شيطانه: “هذا سحر يؤثر” أي يأخذه عن غيره
وإذا كان الوليد بن المغيرة عدو الله قد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر وأخبر أن سحره يأخذه ويأثره عن غيره فقد ذمه الله عز وجل ووصفه بتسع صفات ذميمة، يقول الله عزّ وجلّ {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} (سورةالقلم/ءاية 10-16)
لقد تمادى الوليد بن المغيرة الكذاب الذي أضله الله تعالى وختم على قلبه في اتهامه النبي صلى الله عليه وسلم بالباطل، وقد أدبر عن الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقال عن القرءان الكريم الذي هو تنزيل من الرحمن الرحيم: إن هذا إلا قول البشر أي ليس هو من كلام الله تعالى
لقد أنعم الله على الوليد بن المغيرة في الحياة الدنيا بالأموال والأولاد والبساتين الغناء وهذا بلاء واختبارمن الله عز وجل لعباده، فلما كذب رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم وجحد أنعم الله تبارك وتعالى، جعله الله تعالى من الأشقياء وبشره وهو ما زال في الحياة الدنيا بالعذاب الأليم في الآخرة فنزل فيه قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (سورة المدثر/ءاية 11-30)
ذلك هو الوليد بن المغيرة عدو الله المتكبر الذي ءاثر الدنيا الفانية على الآخرة الباقية فهو وأمثاله الكافرون مبشرون من الله عز وجل بعذاب النار يوم القيامة وبئس المصير.
أمية بن خلف الجهول المتسلط
كان أمية بن خلف من سادات قريش الطغاة المستكبرين المتسلطين الذين حاربوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في بدايتها وصدوا عنها ووقفوا في وجه كل من يتبعها خاصة الفقراء والمستضعفين
وكان من بين هؤلاء المستضعفين الصحابي الجليل بلال بن رباح، الذي دخل في دين الإسلام خفية بدون علم أمية بن خلف
وفي يوم جاء رجل مشرك إلى أمية بن خلف وهو في مجلس لقريش وناداه قائلا: أو ما بلغك الخبر؟ لقد شهدت عبدك بلالا يختلي مع محمد وصحبه
وهنا ثارت ثورة أمية، وقام من مجلسه كالثور الهائج وقد تملكه الغضب والغيظ ودخل داره منتظراً رجوع بلال
ولما قربت الشمس على الغروب، دخل بلال على أمية فرءاه مغتاظاً يخرج الشرر من عينه، فقال لبلال، ما هذا الذي بلغني عنك أيها العبد الحبشي؟ أحقاً أنك اتبعت دين محمد؟ فأجاب بلال، ونور الإسلام يملأ قلبه، أما وأنه بلغك أمري وعملت بإسلامي فإني لا أخفي عليك أني ءامنت بالله ورسوله وأنا من جنوده
فأجابه أمية في غرور: لست أيها العبد إلا مملوك، لا تملك من أمرك شيئاٍ
وأقسم أن يذيق بلالا صنوف العذاب ليرغمه على الرجوع إلى الكفر والشرك كما كان
فأعد الحبال وشد بها أقدام بلال رضي الله عنه وقيدت يداه إلى الخلف، وجر على الأرض وسط الصحراء الملتهبة ورملها الساخن، أمية يستمتع بتعذيب هذا الإنسان المؤمن الذي اختار عبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر
ويترك بلال في الصحراء من الظهيرة إلى غروب الشمس، ويأتي الظالم أمية قائلا له: ما رأيك الآن يا بلال؟ أذقت العذاب؟ وهل ءان لك أن ترجع إلى عبادة اللات والعزى
ولكن بلال الصابر ماكان يزيد في رده عن قوله: أحد أحد وأبى أن يعود إلى الشرك، واحتمل في سبيل الله ألوان العذاب وصنوف الهوان
يقول الله تبارك وتعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (سورة العنكبوت/ءاية 2)
ويقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: “إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم”
وطلعت شمس اليوم التالي وبلال مكبل اليدين والقدمين عاري الجسم على رمل الصحراء الملتهبة، وأمية بن خلف غارق في سكره، يعميه الحقد والغضب، ويتوجه إلى بلال رضي الله عنه وقد وضع على صدره حجر كبير، وجعل يناديه: ما رأيك يا بلال في قول محمد
وبلال بقي ثابتاً في قوله: أحد أحد
ومرت الأيام وبلال يعذب وهو صابر حتى مر أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوماً فآلمه ما رأى من عذاب بلال، فقال لأمية: متى تترك هذا المسكين؟ فقال أمية: إنه عبدي وملكي، وإذا كنت مشفقاً عليه فاشتره
فاشتراه الصديق واعتقه لوجه الله تعالى
وأما أمية بن خلف فقد بشره الله تعالى بعذاب أليم في جهنم وبئس المصير جزاء كفره وظلمه، قال تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (سورة الليل/ءاية 14-16)
أبو لهب المكابر العنيد
أبو لهب هو أحد أعمام النبي صلى الله عليه وسلم واسمه عبد العزى بن عبد المطلب وكنيته أبو عتبة وسمي أبا لهب لإشراق وجهه، وكانت زوجته أم جميل من سادات نساء قريش واسمها أروى بنت حرب بن أمية وهي أخت أبي سفيان، وكانت عونا لزوجها على كفره وجحوده وعناده وبطشه وإيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم وسوف تكون يوم القيامة شريكة له يعذبان في نار جهنم
اشتهر أبو لهب بإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيب دعوته بين قومه فصد الناس عن الإيمان بما جاء به عليه الصلاة والسلام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “كنت بين شر جارين عقبة بن أبي معيط وأبي لهب، كانا يرميان بما يخرج من الناس على بابي”. أي أنه صلى الله عليه وسلم كان يتحمل أذاهما مع أنه كان أشجع خلق الله على الإطلاق. وقف المكابر أبو لهب موقفاً عدائياً من النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته في أول الدعوة الإسلامية عندما أمر الله تعالى نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم بتبليغ دعوته، فكان أبو لهب يضع كل همته في صد النبي صلى الله عليه وسلم عن دعوته وتكذيبه بين قومه فيما جاء به من عند الله عز وجل. فقد روى الإمام أحمد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتبع القبائل ووراءه رجل، يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبيلة فيقول: “يابني فلان إني رسول الله إليكم ءامركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا”، وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه وهو أبو لهب: “يابني فلان هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وخلفاءكم من الجن إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تسمعوا له ولا تتبعوه”
وعندما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وأمره الله عز وجل بتبليغ دعوة الإسلام قومه وعشيرته الأقربين كما قال سبحانه وتعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} (سورة الشعراء/ءاية 214-216)
قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتنفيذ ما أمره الله عز وجل به من تبليغ دعوته بهمة عالية فصعد عليه الصلاة والسلام على جبل الصفا وجعل ينادي: يابني فهر، يابني عدي حتى اجمتمعوا فجعل الذي لا يستطيع أن يخرج يرسل رسولا لينظر ما هو؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي، قالوا: “ما جربنا عليك كذباً”، قال: “فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد” وجعل النبي يكرر هذا النداء لباقي القبائل وهو يقول: “إني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا في الآخرة نصيباً إلا أن تقولوا: لا إله إلا الله، وهنا صاح أبو لهب بعد أن قام بنفض يديه، وكان رجلا بذيئاً سريع الغضب فقال للنبي: تباً لك سائر هذا اليوم ألهذا جمعتنا؟ وصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم والأسى والحزن يملأ قلبه، قال الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} (سورة المسد)
معنى قوله تعالى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أي خسرت يدا أبي لهب
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم دعا أقرباءه إلى الله عز وجل فقال أبو لهب: إن كان مايقول ابن أخي حقاً فإني أفتدي بمالي وولدي فقال الله عز وجل: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} والمعنى ما أغنى ماله وما كسبه أي ولده يوم القيامة
ولما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وسمعت بها أم جميل زوجة أبي لهب أتت أبا بكر رضي الله عنه وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فقالت: إن صاحبك هجاني، ولأفعلن وأفعلن وأعمى الله بصرها عن رسوله المصطفى عليه الصلاة والسلام فلم تره، فقال لها أبو بكر: هل ترين معي أحداً؟ فقالت: أتهزأ بي، لا أرى غيرك
فسكت أبو بكر رضي الله عنه ومضت زوجة أبي لهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لقد حجبتني عنها ملائكة فما رأتني”
وروي أنها ماتت مخنوقة بحبلها، وأما زوجها الكافر المعاند أبو لهب فقد رماه الله تعالى بالعدسة وهو بثرة تخرج من البدن ينفر الناس ممن يصاب بها، فمات بهذا المرض بعد وقعة بدر الكبرى بسبع ليال
وقد بشره الله عز وجل بالعذاب ومعه زوجته المكابرة في نار جهنم
اللهم سلمنا في الدنيا والآخرة وقنا عذاب النار
صاحب الجنتين المفتون
كثير من الناس يفتنون بالمال وبزينة الحياة الدنيا فيكفرون بالرحمن وينكرون البعث والحساب
وكثير من الناس يسبون خالقهم والعياذ بالله من أجل المال وعروض الدنيا الفانية فيكفرون
وقد قص الله سبحانه وتعالى علينا في القرءان الكريم قصة رجلين أحدهما مؤمن بالله تعالى وبالبعث بعد الموت، والآخر كافر بالله منكر للبعث والحساب، وقد بغى وتكبر وغرته الحياة الدنيا، يقول الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (سورة الكهف/ءاية 46)
وقد روي عن قصة هذين الرجلين أنهما كانا شريكين ثم اقتسما المال، فصار لكل واحد منهما ثلاثة ءالاف دينار، فاشترى المؤمن بالأف الأولى عبيداً وأعتقهم لوجه الله تعالى، وبالألف الثانية ثياباً فكسا العراة، وبالألف الثالثة طعاما فأطعم الجائعين وبنى أيضا مساجد وفعل خيراً كثيراً وأما الآخر وكان كافراً منكراً للبعث والحساب فنكح بماله نساء غنيات، واشترى دواباً وبقراً، فنمت نماء مفرطًا، وتجر بالباقي فربح حتى فاق أهل زمانه ثراء وغنى
وأدركت الأول الحاجة ولم يعد يملك المال، فأراد أن يستخدم نفسه أجيراً في بستان فقال: لو ذهبت لصاحبي فسألته أن يسخدمني في جنته (أي بستانه) رجاء أن يكون ذلك أصلح لي، فجاء ووصل إليه بصعوبة لكثرة الحجاب على أبوابه، فلما دخل عرفه وسأله حاجته، فقال له شريكه: ألم أكن قاسمتك المال نصفين؟ فما صنعت بمالك؟ فأجابه المؤمن: اشتريت به من الله تعالى ما هو خير منه وأبقى
فقال له شريكه القديم وهو يعلن كفره بالله وينكر البعث والحساب ويوم القيامة: أئنك لمن المصدقين؟ ما أظن الساعة قائمة وما أراك إلا سفيهاً وما جزاؤك عندي على سفاهتك إلا الحرمان، عندئذ قال له المؤمن ما أخبر عنه الله عز وجل: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} (سورة الكهف/ءاية 37) ثم أكد إيمانه فأعلن أمام صاحبه الكافر المتكبر قائلا: {لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} (سورة الكهف/ءاية 38) أي لكن أنا لا اقول بمقالتك بل أعترف بوجود الله تعالى، وأقر بوحدانيته فهو واحد لا شريك له ولا رب سواه
وبدأ الرجل المؤمن يهدي النصيحة لصاحبه الكافر
ويخوفه وعيد الله تعالى وعذابه، عسى أن يتوب فيؤمن ويعود إلى رشده وصوابه
قال الله تعالى مخبراًعن الصاحب المؤمن يعظ صاحبه الكافر: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} (سورة الكهف/ءاية 39-41)
ولم يعتبر صاحب الجنة ولم يتعظ بنصح صاحبه المؤمن بل ظل ساخراً مستهزئاً متكبراً
وأنزل الله به العذاب في الدنيا فأذهب جنته وثمارها ودمرها جزاء كفره
وفي اليوم التالي جاء الكافر إلى بستانه ليتمتع به كعادته، ولكنها كانت المفاجأة إذ وجده خاوياً محطماً ليس فيه زرع ولا ثمار، فجلس حزينًا متأسفًا على ما أنفق على بستانه من المال ونادماً على إشراكه بربه وخالقه
قال تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} (سورة الكهف/ءاية 42)
وأخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، ولم ينفعه ماله وسلطانه ولم يجد له عوناً، قال تعالى: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} (سورة الكهف /ءاية 43-44
نمرود بن كنعان
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (سورة ءال عمران /ءاية 21)
من الكافرين الذين بشرهم الله تعالى بالعذاب الأليم في الآخرة نمرود بن كنعان حاكم بابل في العراق وكان ملكا متسلطا مستبداً برأيه، بغى في الأرض وتكبر وادعى الألوهية والعياذ بالله ودعا الناس إلى عبادته، وقيل إنه كان أحد ملوك الدنيا الذين حكموا طويلا وكان طغى وبغى وتكبر وتجبر وءاثر الحياة الدنيا
لما دعا نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام قومه إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام وأقام الحجة عليهم بعد أن حطم أصنامهم التي لا تضر ولا تنفع، اغتاظ قومه منه وأخبروا ملكهم نمرود أنه يسفه أصنامهم، وأخذت نمرود العزة بالإثم وصار ينكر على نبي الله إبراهيم عليه السلام دعوته إلى دين الإسلام وعبادته الله تعالى وحده الذي يستحق العبادة ولا رب سواه
وأخذ نمرود بن كنعان يدعي أمام قومه وأمام إبراهيم أنه هو الإله الذي يستحق العبادة وصار ينكر أمام الملأ وجود الله سبحانه وتعالى الخالق العلي القدير، ثم قال لإبراهيم عليه السلام: أرأيت الذي تعبد وتدعو إلى عبادته ماهو؟ فقال إبراهيم عليه السلام بلسان اليقين: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ} (سورة البقرة / ءاية 258) فقال نمرود: أنا أحيي وأميت، أحيي من أشاء بالعفو عنه بعد أن أصدر الحكم عليه بالقتل فينعم بالحياة، وأميت من أشاء بأمري وأقضي عليه
ثم أتى برجلين فأمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر، ثم قال مستكبراً: لقد أحييت هذا وأمت الآخر
لقد ظن هذا نمرود الجهول بمقالته هذه البعيدة عن الصواب والحقيقة أنه على صواب وهدى ولكن نبي الله إبراهيم، وقف أمام هذا الملك الجبار بالمرصاد وأراد أن يفحمه بالحجة القوية ويضيق عليه الخناق، ويظهر له أمام قومه ورعيته جهله وسخف عقله، فأعطاه دليلا قويًا على أن الله عز وجل هو الخالق الصانع المدبر لهذا العالم بأسره وأن ما ادعاه هذا الكافر باطل فأخبرنا الله سبحانه وتعالى عنه أنه قال {فإنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} (سورة البقرة/ءاية 258) أي أن هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها الله تعالى بقدرته فهو خالقها وخالق كل شئ، فإن كنت كما زعمت باطلا تحيي وتميت فأت بهذه الشمس من المغرب فإن الذي يحيي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء فلا يمانع ولا يغالب
أمام هذه الحجة الساطعة وقف نمرود مبهوتًا مبغوتًا وظهر له وللملأ حوله بطلان ما ادعاه وتبجح به فانقطع وسكت عن الكلام، وظهر عليه الخزي وباء بالهزيمة، قال الله عز وجل: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (سورة البقرة/ءاية 258)
وورد أن الله عز وجل بعث إلى نمرود ملكا يأمره بالإيمان بالله تعالى والدخول في دين الإسلام فأبى وعاند ثم ثانية فأبى عليه، ثم دعاه الثالثة فأبى عليه وعاند ثم قال نمرود له: اجمع جموعك وأجمع جموعي، فجمع نمرود جيشه وقت طلوع الشمس وأرسل الله عز وجل ذبابا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس من كثرته، وسلط الله تعالى هذه الحشرات عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظامًا
وأما نمرود فقد دخلت ذبابة في منخره فمكثت فيه زمانًا طويلا يعذبه الله تعالى بها في الدنيا فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله عز وجل بها جزاء جحوده وكفره وادعائه الألوهية، وله في الآخرة الخلود الأبدي في النار
فرعون مصر الطاغية الظالم
اعتلى الملك الطاغية “فرعون” واسمه الوليد بن مصعب عرش مصر كغيره من الملوك السابقين وكان ملكا كافراً ظالماً اشتهر بالطغيان والجبروت وقال لقومه: “أنا ربكم الأعلى” زاعما أنه الإله المستحق للعبادة، قال الله تعالى إخباراً عن فرعون: {فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (سورة النازعات/ءاية23) وقال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (سورة القصص/ءاية 38) ولقد تسلط “فرعون” الذي عاش عمراً طويلا على بني إسرائيل في مصر يذيقهم أنواعا من العذاب يذبح أبناءهم ويستبقي نساءهم للخدمة ويستخدم الرجال منهم في أخس الصنائع والحرف، وعاث في الأرض فساداً وعذب كل معترض عليه وفتح السجون للخارجين عليه وأوقع ببني إسرائيل التنكيل والعذاب
وأراد الله سبحانه وتعالى أن يفرج عن بني إسرائيل ما هم فيه فبعث إليهم سيدنا موسى بن عمران عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده والدخول في دين الإسلام ولينقذهم من ظلم وشر فرعون
وأرسل الله سبحانه وتعالى سيدنا موسى عليه السلام ومعه أخوه هارون عليه السلام إلى فرعون يدعوانه بالرفق واللين إلى دين الإسلام وعبادة الله تعالى وحده، لأنه سبحانه هو الإله الذي يستحق العبادة دون سواه ولكن فرعون الطاغية كذب الحق الذي جاء به موسى وهارون واستكبر وعاند ولم يتراجع عن كفره وضلاله بل هدد موسى عليه السلام واستمر على طغيانه وكفره مع ما أظهر له موسى عليه السلام من المعجزات الباهرات والبراهين الساطعة على صدقه فيما جاء به من عند الله
قال الله عز وجل: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ} (سورة الشعراء / ءاية 29-33)
واستمر موسى عليه السلام في دعوته قومه للدخول في الإسلام وعبادة الله تعالى وحده بعد أن أظهر لفرعون وأتباعه الآيات الكبرى، واشتد حقد وغيظ فرعون عليه وعلى من ءامن معه وقرر الانتقام منهم وبدأ يدبر لهم المكائد ويحيك لهم الحيل للفتك بهم، حتى أمر الله تعالى نبيه موسى عليه السلام أن يخرج ليلا مع من ءامن معه من مصر إلى بلاد الشام، فلما علم فرعون الطاغية بخروج موسى عليه السلام ومن معه أعد جنوده ولاحقهم في محاولة منه للقضاء عليهم وعلى الدعوة التي جاء بها موسى عليه السلام، ولكن العاقبة الوخيمة كانت على فرعون وأتباعه، فقد أنزل الله عز وجل بفرعون ومن معه من الكافرين عذاب الاستئصال بأن أغرقهم في البحر بسبب كفرهم وتكذيبهم نبيه موسى عليه السلام
وأنجى الله تبارك وتعالى موسى عليه السلام ومن ءامن معه من بني إسرائيل من كيد فرعون الطاغية وجنوده الذين أرادوا أن يبطشوا بهم
وقد أخرج الله عز وجل جسد فرعون من البحر بعد أن أنكر بعض أتباعه غرقه في البحر فكان ذلك ءاية على صدق موسى عليه السلام وعبرة عظيمة لمن اعتبر وحكمة من الله عز وجل لعباده لعلهم يتقون ويعتبرون
كنعان بن نوح
أرسل الله تبارك وتعالى نبيه نوحًا عليه السلام لقومه الكافرين الذين كانوا يعبدون الأصنام مبشراً ونذيراً
يدعوهم لدين الإسلام وعبادة الله تعالى وحده ونبذ عبادة الأصنام، ولبث فيهم عليه السلام ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة ليردهم عن غيهم وضلالهم، ولكنهم تكبروا عن اتباع الحق وأصروا على كفرهم وباطلهم
لقد صبر نوح عليه السلام على قومه بعد أن لقي منهم مختلف أنواع الأذى، ومع ذلك ظل يدعوهم مدة طويلة إلى الإسلام ثم أوحى الله تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومه إلا الذي قد ءامن، وأخبره أنه سيرسل طوفاناً كبيراً يعم الأرض، وأمره أن يصنع سفينة كبيرة أمام منزله ليركب فيها ومن ءامن معه من قومه ويغرق الكافرين الذين كذبوه
وصار نوح عليه السلام يصنع السفينة كما أمره الله عزَّ وجلَّ وكان كلما مر عليه ملأ من قومه الكافرين سخروا منه واستهزءوا به كيف يصنع سفينة على أرض يابسة ليس عليها ماء
ولما جاء موعد الطوفان الكبير، أمر نبي الله نوح عليه السلام قومه المؤمنين أن يركبوا معه في السفينة كما قال الله تعالى عز وجل: {وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (سورة هود/اية 41)
فلما ركب نوح عليه السلام السفينة هو ومن ءامن معه فتح الله عز وجل أبواب السماء بماء منهمر كثير فصارت السماء تمطر بغزارة، وفجر الله تعالى عيون الأرض فالتقى ماء السماء وماء الأرض وكان الطوفان الكبير الذي غطى أرجاء المعمورة، قال الله عز وجل: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ} (سورة القمر/ءاية 11-14)
ورأى نوح عليه السلام ابنه “كنعان” وكان كافرًا عنيدًا كذب والده نوحًا عليه السلام وعصاه ولم يؤمن بما جاء به من عند الله تعالى، وكان يقف متنحيا، فأشفق نوح على ابنه “كنعان” فدعاه أن يؤمن ويركب معه في السفينة مع من ءامن فلا يغرق مثل ما يغرق الكافرون، ولكنه أبى وأصر على كفره واعتقد لجهله أن الطوفان لا يصل إلى رؤوس الجبال فقال ردا على أبيه نوح وفي كبر وغرور: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء} (سورة هود/ءاية 43) فقال له أبوه نوح عليه السلام ما أخبر الله عز وجل عنه: {قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ} ( سورة هود/ءاية 43)
ثم كان من الأمر كما قال تعالى: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} (سورة هود/ءاية 43) حيث أنهى الموج الهائج حوار الأب مع ابنه فنظر نوح عليه السلام فلم يجد ابنه ووجد الأمواج الهائلة كالجبال الشاهقة، فغرق كنعان مع من غرق من الكافرين بذلك خسر الدنيا والآخرة ولم تنفعه درجة قرابته من أبيه نوح عليه السلام مع كفره وتكبره عن الإيمان واتباع الحق الذي جاء به أبوه نوح عليه السلام، فليس للنسب هنا اعتبار فكل إنسان مجزي بعمله كما قال الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} أي مرهونة بعملها إن خيرا فخير وإن شرا فعذاب شديد، يقول الله تبارك وتعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى} (سورة النجم/ءاية 39-41) وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: “من أبطأ به عمله لم يُسرع به نسبه” رواه أبو داود
إبليس اللعين
خلق الله تعالى الإنس والجن ليأمُرهم بعبادته، وأنعم عليهم بإرسال الرُسُل ليبينوا لهم طريق الجنة ليتبعوه وطريق النار ليبتعدوا عنه، وخلق الله تبارك وتعالى الملائكة من نور وهم عباد مكرمون لا يعصون الله تعالى ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فالملائكة كلهم مسلمون أتقياء ليس فيهم كافر ولا فاسق.
وخلق الله عز وجل الجن من مارج من نار وهو لهيب النار الصافي، وهم كالإنس حيث إن فيهم الكافر وفيهم المسلم التقي وفيهم المسلم الفاسق العاصي، وأما أبوهم الأول فهو إبليس اللعين وكان اسمه عزازيل وقد كان في بداية أمره في السماء مسلما مؤمناً يعبد الله تعالى مع الملائكة، لم يكن طاووس الملائكة كما يظن بعض الجهال
وقد شاء الله عز وجل إعمار هذه الأرض التي نحن عليها فخلق ءادم عليه السلام من طين ونفخ الملك فيه بأمر الله تعالى روح ءادم المشرفة المكرمة، وأراد الله سبحانه وتعالى تشريف ءادم عليه السلام فأمر ملائكته المكرمين، وأمر إبليس، أن يسجدوا لآدم عليه السلام سجود تحية، فسجد الملائكة كلهم أجمعون، ولكن إبليس اللعين تحركت فيه نوازع الشر والكبرياء والحسد فاعترض على الله عز وجل وأبى أن يسجد لآدم عليه السلام سجود تحية كما أمره الله تعالى وقال معترضاً على الله عز وجل: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} سورة ص /ءاية76
وبهذا الاعتراض استحق إبليس اللعنة والطرد من رحمة الله فكان من الكافرين. لقد بشر الله عز وجل عدوه إبليس اللعين بنار جهنم التي سيدخلها في الآخرة هو ومن اتبعه على الكفر من الجن والإنس، قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} سورة ص/ءاية 84-85
فلما علم إبليس اللعين أنه مطرود من رحمة الله تعالى في الآخرة وأن الله عز وجل قد بشَّره بنار جهنم، أراد أن يفسد الإنسان حقداً وكراهية وأن يجعله مثله من أهل جهنم، قال الله عزَّ و جلَّ إخبارا عن عدوه إبليس اللعين: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} سورة ص/ءاية 82-83
صار إبليس اللعين في هذه الحياة الدنيا يتربص ببني ءادم ويقف لهم بكل طريق فيه خير لهم، وطاعة وعبادة لله عزَّ و جلَّ ليصدهم عنه، صار هذا العدو اللعين عدوًا للإنسان ظاهر العداوة يزين له أبواب الكفر والضلال ويشجعه على أعمال الشر والمعاصي حتى إذا جاء يوم القيامة تخلى عنه وأعلن أنه بريء، قال الله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ} سورة الحشر/ ءاية 16-17
إن إبليس اللعين زعيم الكافرين يقود أتباعه الشياطين فينشرهم في نواحي الأرض ليضلوا الناس وينشروا الكفر والضلال والبدع الفاسدة بينهم، وليوقظوا الفتن بين الناس فالشيطان عدو مبين للإنسان، وقد حذر الله تعالى بني ءادم في القرءان الكريم من ألاعيبه ومكره وخداعه ليتيقظوا له ولحيله، يقول الله عز وجلَّ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (سورة فاطر / ءاية 6)
فلنحذر من فتنة الشيطان اللعين وألاعيبه ومكره وحيله ولنتحصن بسلاح العلم الشرعي والعمل به حتى نحذره فنخالفه ولا نعمل بوساوسه، بل نتبع نبينا الأكرم فيما جاءنا به فنؤدي الواجبات ونجتنب المحرمات وبذلك نكون من المتقين الفائزين يوم القيامة
إنّ جهنّم كانت مرصادا
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيرا} (سورة الأحزاب / ءاية 64-65)
النار حَقٌّ أي وجودُها ثابتٌ فيجبُ الإيمانُ بها وبأَنّها مخلوقة الآنَ كما يُفْهَمُ ذلك من النصوصِ الواردةِ كحديثِ: “أُوقِدَ على النَّارِ ألفَ سنةٍ حتى احمَرّت وألفَ سنةٍ حتّى ابيضَّت وألفَ سنةٍ حتَّى اسوَدَّت فهي سَوداءُ مظلمةٌ” رواه الترمذي
وجهنّمُ ليست متَّصلةً بالأرضِ السابعةِ بل تحتها منفصلة عنها، لها أرضُهَا وسقفُهَا المستقلانِ.ما بينَ مَنكبي الكافِرِ يومَ القيامةِ مسيرة ثلاثةِ أيّامٍ، ولو كانت خِلقَتُهُم تكون كما هي في الدُّنيا لذابوا بِلَحظةٍ
والكفَّارُ يخلدونَ في النَّارِ أبدًا لا يخرجون منها كما ثبت ذلك في النصوص الشَّرعية كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيرا} (سورة الأحزاب /ءاية 64-65) ولا يموتون في النار فيرتاحون من العذاب ولا يحيون حياة هنئية طيبة بل هم دائما في نكد وعذاب، وهذا معنى قول الله تعالى: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى} (سورة طه/ءاية 74)، وقال ملاحدة المتصوفة: إن أهل النار يعودون يتلذذون في النار حتى لو أمروا بالخروج لا يرضون، وهذا رد النصوص الشرعية ورَدُّ النصوص كفر
وَطعامُهُم من ضريع وهو شجرٌ كريهُ المنظر كريهُ الطَّعم كريهُ الرائحةِ، يوجد في البلاد الحارة شبيهُهُ، قال تعالى: { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ} (سورة الغاشية /ءاية 6-7)، وقال تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} سورة الدخان/ءاية 43-44-45-46
وهذه الشجرة منظرها قبيح جداً ورائحتها كريهة جداً لا تطاق لكن هم من شدة اضطرارهم ومن شدة جوعهم وحرمانهم كأنهم يأكلونه بدون اختيار، ملائكة العذاب يطعمونهم من هذا، قال تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} سورة الصافات/ ءاية 62-66
وكذلك يأكل أهل النار من الغِسلين قال تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} (سورة الحاقة/ ءاية 35-37)، والغسلين هو مايسيل من جلود أهل النار لأنه كلما أنضجت جلودهم النار يُكسون جلوداً غيرها فيها رطوبة ثم تحترق هذه وقد سال منها شئ كثير من المستقذر، فهذا الذي يسيل من جلودهم جعله الله طعام أهل النار وأما شراب أهل النار فهو الماء المتناهي في الحرارة قال تعالى: {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} (سورة النبأ / ءاية 25)، والحميم هو الماء المتناهي في الحرارة، والغَسَّاق هو ما يسيل من جلود أهل النار، ملائكة العذاب يسقونهم من هذا فيقطع أمعاءهم. وثياب الكفَّار من نار قال تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} (سورة الحج / ءاية19)
وقد خلق الله في جهنم لتعذيب الكفار حيّات الحيّة الواحدة كالوادي، وعقارب كالبغال. نسأل الله السلامة من عذاب القبر ومن عذاب النّار

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك

  حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك تأليف: أبي الفضل عبد الله محمد الصديقي الغماري تقديم الترك ليس بحجة في شرعنا … لا يقتضي منعًا ولا إيجابا فم...