كتاب الباز الأشهب المنقض على مخالفي المذهب لابن الجوزي (2)
فصل قلت وقد وقع غلط المصنفين الذين ذكرتهم في سبعة أوجه:أولها: أنهم سموا الأخبار أخبار صفات، وإنما هي إضافات، وليس كل مضاف صفة، فإنه قال سبحانه وتعالى: {وَنَفَختُ فيهِ مِن رُّوحِي} وليس لله صفة تسمى روحًا، فقد ابتدع من سمى المضاف صفة.الثاني: أنهم قالوا: إن هذه الأحاديث من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله تعالى. ثم قالوا: نحملها على ظواهرها، فوا عجباً ما لا يعلمه إلا الله أي ظاهر له؟ فهل ظاهر الاستواء إلا القعود، وظاهر النزول إلا الانتقال!الثالث: أنهم أثبتوا الله تعالى صفات، وصفات الحق لا تثبت إلا بما يثبت به الذات من الأدلة القطعية.والرابع: أنهم لم يفرقوا في الإثبات بين خبر مشهور كقوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل إلى السماء الدنيا" وبين حديث لا يصح كقوله: "رأيت ربي في أحسن صورة" بل أثبتوا هذا صفة وهذا صفة.الخامس: أنهم لم يفرقوا بين حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين حديث موقوف على صحابي أو تابعي، فأثبتوا بهذا ما أثبتوا بهذا.والسادس: أنهم تأولوا بعض الألفاظ في موضع ولم يتأولوها في ءاخر كقوله: "ومن أتاني يمشي أتيته هرولة".قالوا: هذا ضرب مثل للأنعام.والسابع: أنهم حملوا الأحاديث على مقتضى الحس فقالوا: ينزل بذاته وينتقل ويتحرك، ثم قالوا: لا كما يعقل. فغالطوا من يسمع فكابروا الحس والعقل فحملوا الأحاديث على الحسيات، فرأيت الرد عليهم لازماً لئلا ينسب الإمام إلى ذلك، وإذا سكت نسبت إلى اعتقاد ذلك، ولا يهولني أمر عظيم في النفوس، لأن العمل على الدليل، وخصوصاً في معرفة الحق لا يجوز فيه التقليد.وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن مسألة فأفتى فيها فقيل: هذا لا يقول بها ابن المبارك فقال: ابن المبارك لم ينزل من السماء، وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: استخرت الله تعالى في الرد على الإمام مالك رحمه الله.ولما صنف هؤلاء الثلاثة كتبًا وانفرد القاضي "أبو يعلى" فصنف الأحاديث التي ذكرتها على ترتيبه، وقدمت عليها الآيات الشريفة التي وردت في ذلك.
فصل فإن قال قائل: ما الذي دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بألفاظ موهمة للتشبيه؟ قلنا: إن الخلق غلب عليهم الحس فلا يكادون يعرفون غيره، وسببه المجانسة لهم في الحديث، فعبد قوم النجوم وأضافوا إليها المنافع والمضار، وعبد قوم النور وأضافوا إليه الخير، وأضافوا الشر إلى الظلمة، وعبد قوم البقر والأكثرون الأصنام فآنست نفوسهم بالحس المقطوع بوجوده ولذلك قال قوم لموسى: (إِجعَل لَنا إِلَهًا) فلو جاءت الشرائع بالتنزيه المحض جاءت بما يطابق النفي فلما قالوا: (صف لنا ربك) نزلت: (قُل هُوَ اللهُ أَحد) ولو قال لهم ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا طويل ولا عريض ولا يشغل الأمكنة ولا يحويه مكان ولا جهة من الجهات الست وليس بمتحرك ولا ساكن ولا تدركه الإحساس لو قالوا حد لنا النفي بأن تميز ما تدعونا إلى عبادته عن النفي وإلا فأنت تدعو إلى عدم. فلما علم الحق سبحانه ذلك جاءهم بأسماء يعقلونها من السمع والبصر والحلم والغضب، وبنى البيت وجعل الحجر بمثابة اليمين المصافحة، وجاء بذكر الوجه واليدين والقدم والاستواء والنزول لأن المقصود الإثبات فهو أهم عند الشرع من التنزيه، وإن كان التنزيه منها، ولهذا قال للجارية: أين الله، وقيل له: أيضحك ربنا؟ قال: نعم، فلما أثبت وجوده بذكر صور الحسيان نفى الخيال التشبيه بقوله {لَيسَ كَمثلِهِ شَيء}، ثم لم يذكر الرسول الأحاديث جملة وإنما كان يذكر الكلمة في الأحيان فقد غلط من ألفها أبوابًا على ترتيب صورة غلطًا قبيحًا، ثم هي مجموعها يسيرة، والصحيح منها يسير: ثم هو عربي وله التجوز، أليس هو القائل: (تأتي البقرة وءال عمران كأنهما غمامتان أو فرقان من طير صاف، ويؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيذبح.فإن قيل لما سكت السلف عن تفسير الأحاديث وقالوا: أمروها كما جاءت؟ قلت لثلاثة أوجه: أحدها: أنهاذكرت للإيناس بموجود فإذا فسرت لم يحصل الإيناس مع أن فيها ما لا بد من تأويله كقوله تعالى: {وَجاءَ رَبُكَ} أي جاء أمره. وقال أحمد بن حنبل: وإنما صرفه إلى ذلك أدلة العقل فإنه لا يجوز عليه الانتقال.والوجه الثاني: أنه لو تأولت اليد بمعنى القدرة جز أن يتناول معنى القوة فيحصل الخطر بالصرف عما يحتمل.والثالث: أنهم لو أطلقوا في التأويل اتسع الخرق فخلط المتأول، فإذا سئل العامي عن قوله تعالى: {ثُمَ استَوى عَلى العَرش} قيل له: الإستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وإنما فعلنا هذا لأن العوام لا يدركون الغوامض.
فصلوكان الإمام أحمد يقول: أمروا الأحاديث كما جاءت وعلى هذا من كبار أصحابه كإبراهيم الحربي، وأبي داود الأشرم، ومن كبار أصحابنا أبو الحسن التميمي، وأبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب، وأبو الوفاء ابن عقيل فنبغ الثلاثة الذين ذكرناهم ابن حامد، والقاضي، والزاغوني.
وقد سئل الإمام أحمد عن مسألة فأفتى فيها فقيل هذا لا يقول به ابن المبارك فقال: ابن المبارك لم ينزل من السماء، وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: استخرت الله تعالى في الرد على الإمام مالك. ولما صنف هؤلاء الثلاث كتباً، وانفرد القاضي فصنف الأحاديث التي ذكرتها على ترتيبه، وقدمت عليها الآيات التي وردت في ذلك.
باب ما جاء في القرءان العظيم من ذلك
قال الله تعالى: {وَيَبقى وَجهُ رَبِّكَ ذو الجَلالِ وَالإِكرام}.قال المفسرون: يبقى ربك، وكذا قالوا في قوله: (يُريدونَ وَجهِهِ). أي يريدونه.وقال الضحاك وأبو عبيدة في قوله: {كُلُ شَيءٍ هالِك إِلّا وَجهِهِ} أي إلا هو.وقد ذهب الذين أنكرنا عليهم إلى أن الوجه صفة تختص باسم زائد على الذات.قلت: فمن أين قالوا هذا وليس لهم دليل إلا ما عرفوه من الحسيات؟ وذلك يوجب التبعيض، ولو كان كما قالوا: كان المعنى: أن ذاته يهلك إلا وجهه.وقال ابن حامد: أثبتنا لله وجهاً ولا نجوز إثبات رأس.قلت: ولقد اقشعر بدني من جراءته على ذكر هذا فما أعوزه في التشبيه غير الرأس.قلت: ومن ذلك قوله: {وَلِتَُصْنَع عَلى عَيني} [سورة طه].وقوله عز وجلّ: {وَاصْنَعِ الفَلْكَ بِأَعيُنِنا} [سورة هود].قال المفسرون: بأمرنا، أي بمرأى منا، قال أبو بكر بن الأنباري: أما جمع العين على مذهب العرب في إيقاعها الجمع على الواحد يقول: خرجنا في السفر إلى البصرة، وإنما جمع لأن عادة الملك أن يقول: أمرنا ونهينا.وقد ذهب القاضي إلى أن العين صفة زائدة على الذات وقد سبقه أبو بكر بن خزيمة فقال في الآية: "لِرَبِنا عَينان ينظر بِهما".وقال ابن حامد: يجب الإيمان أن له عينين.قلت: وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه وإنما أثبتوا عينين من دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام: "وإن الله ليس بأعور".وإنما أراد نفي النقص عنه تعالى، ومتى ثبت أنه لا يتجزأ، لم يكن لما يتخايل من الصفات وجه.
ومنها قوله تعالى: {لِمَا خَلَقتُ بِيَديَّ}.اليد في اللغة: بمعنى النعمة والإحسان.قال الشاعر:مَتى ما تَناخي عِندَ بابِ بَني هاشم
تَريحي فَتَلقى من فَواضِلَهُ يَداً
ومعنى قول اليهود لعنهم الله: {يَدُ اللهِ مَغلولَةٌ} أي محبوسة عن النفقة، واليد القوة، يقولون:له بهذا الأمر يد.وقوله تعالى: {بَل يَداهُ مَبسوطَتانِ} أي نعمته وقدرته.وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} أي بقدرتي ونعمتي، وقال الحسن في قوله تعالى: {يَدُ اللهِ فَوقَ أَيديهِم}أي منته وإحسانه. قلت: هذا كلام المحققين.وقال القاضي أبو يعلى: اليدان صفتان ذاتيتان تسميان باليدين، وهذا تصرف بالرأي لا دليل عليه.وقال: لو لم يكن لآدم مزية على سائر الحيوانات باليد التي هي صفة لما عظمه بذكرها وأجله فقال {بِِيَدَيَّ}. ولو كانت القدرة لما كانت له مزية، فإن قالوا القدرة لم تثن.قلنا: بلى قال العرب: ليس لي بهذا الأمر يدان، أي ليس لي به قدرة، وقال عروة بن حزام في شعره:فَقالا شَفاكَ الله وَالله مالَنابِما ضَمت مِنكَ الضُلوعُ يَدانِوقولهم: ميزه بذلك عن الحيوان فقد قال عز وجل: {خَلَقنا لَهُم مِمَّا عَمِلَت أَيدينا أَنعامًا}.ولم يدل هذا على تمييز الأنعام على بقية الحيوان.قال الله تعالى: {وَالسَماءُ بَنَيناها بِأَيْدٍ} أي بقوة.ثم قد أخبر أنه نفخ فيه من روحه، ولم يرد إلا الوضع بالفعل والتكوين، والمعنى: نفخت أنا، ويكفي شرف الإضافة، إذ لا يليق بالخالق سوى ذلك لأنه لا يحتاج أن يفعل بواسطة، فلا له أعضاء وجوارح يفعل بها، لأنه تعالى الغني بذاته، فلا ينبغي أن يتشاغل بطلب تعظيم ءادم مع الغفلة عما يستحقه الباري سبحانه من التعظيم بنفي الأبعاض والآلات في الأفعال، لأن هذه الأشياء صفة الأجسام.وقد ظن بعض البله أن الله تعالى يمسّ، حتى توهموا أنه مس طينة ءادم بيد هي بعض ذاته، وما فطنوا أنه من جملة مخلوقاته جسمًا يقابل جسمًا فيتحد به ويفعل فيه، أفتراه سبحانه جعل أفعال الأشخاص والأجسام تتعدى إلى أجسام بعيدة، ثم يحتاج هو في أفعاله إلى معاناة الطين؟ وقد ردّ قول من قال هذا بقوله تعالى: {إِن مَثلَ عيسى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكونُ}.ومنها قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ}.وقوله تعالى على لسان عيسى: {تَعْلَمُ ما فِيْ نَفْسِي وَلا أََعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}. قال المفسرون: ويحذركم الله إياه، وقالوا: تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك.وقال المحققون: المراد بالنفس هاهنا الذات ونفس الشيء ذاته.
وقد ذهب القاضي إلى أن لله نفسًا وهي صفة زائدة على ذاته. قلت: وهذا قوله لا يستند إلا إلى التشبيه لأنه يوجب أن الذات شيء والنفس غيرها.وحكى ابن حامد أعظم من هذا فقال: ذهبت طائفة في قوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فيهِ مِن روحي} إن تلك الروح صفة من ذاته وإنها إذا خرجت رجعت إلى الله تعالى قلت: وهذا أقبح من كلام النصارى فما أبقى هذا من التشبيه بقية.ومنها قوله تعالى: {لَيْسَ كَمثلِهِ شَيْءٌ).ظاهر الكلام أن له مثل، فليس كمثله شيء، وليس كذلك، وإنما معناه عند أهل اللغة: أن يقام المثل مقام الشيء نفسه.يقول الرجل: مثلي لا يكلم مثلك، وإنما المعنى: ليس كهو شيء.ومنها قوله تعالى: {يَومَ يَكشِفُ عِن ساق}.قال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم النخعي وقتادة وجمهور العلماء: يكشف عن شدة، وأنشدوا: وقامت الحرب بنا على ساق.وقال ءاخرون: إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرًا.قال ابن قتيبة: وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناة الجد فيه شمّر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشدة.وبهذا قال الفراء وأبو عبيد، وثعلب واللغويون، وروى البخاري ومسلم في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يكشف عن ساقه".وهذه إضافة إليه معناها: يكشف عن شدته وأفعاله المضافة إليه ومعنى يكشف عنها، يزيلها.وقال عاصم بن كليب: رأيت سعيد بن جبير. غضب وقال: يقولون يكشف عن ساقه وإنما ذلك من أمر شديد.
وقد ذكر أبو عمر الزاهد أن الساق بمعنى النفس، وقال: ومنه قول علي رضي الله عنه لما قالت البغاة: لا حكم إلا لله فقال: لا بد من محاربتهم ولو بلغت ساقي، فعلى هذا يكون المعنى يتجلى لهم.
وفي حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يكشف لهم الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فيخرون سجدًا، ويبقى أقوام في ظهورهم مثل صياصي البقر، يريدون السجود فلا يستطيعون". فذلك قوله تعالى: {يَومَ يَكشَفُ عَن ساقِ ويُدْعَونَ إِلى السُجودِ فَلا يَستَطيعون}.وقد ذهب القاضي (المجسم) أبو يعلى إلى أن الساق صِفة ذاتية. وقال في مثله يضع قدمه في النار، وحكى عن ابن مسعود قال: ويكشف عن ساقه اليمنى فتضيء من نور ساقه الأرض.قلت: وذكر الساق مع القدم تشبيه محض، وما ذكره عن ابن مسعود محال ولا تثبت لله صفة بمثل هذه الخرافات، ولا يوصف ذاته بنور شعاع تضيء به الأمكنة، واحتجاجه بالإضافة ليس بشيء لأنه إذا كشف عن شدته، فقد كشف عن ساقه، وهؤلاء وقع لهم أن معنى يكشف، يظهر وإنما المعنى: يزيل ويرفع.قال ابن حامد (المجسم) : يجب الإيمان بأن لله تعالى ساقاً صفة لذاته، فمن جحد ذلك كفر.قلت: ولو تكلم بهذا عامي جلف كان قبيحًا، فكيف بمن ينسب إلى العلم؟ فإن المتأولين أعذر منهم لأنهم ردوا الأمر إلى اللغة، وهؤلاء أثبتوا ساقًا للذات، وقدمًا حتى يتحقق التجسيم والصورة.ومنها قوله تعالى: {ثُمَ اِستَوى عَلى العَرش}.قال الخليل بن أحمد: العرش: السرير، فكل سرير ملك يسمى عرشًا، والعرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام قال الله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَويهِ عَلى العَرش}. وقال تعالى: {أَيّكُم يَأتيني بِعَرشِها}.واعلم أن الاستواء في اللغة على وجوه منها: الاعتدال. قال بعض بني تميم فاستوى ظالم العشيرة والمظلوم. أي اعتدلا، والاستواء: تمام الشيء قال الله تعالى: {وَلَما بَلَغَ أَشَدَّهُ وَاستَوى}، أي تم.والاستواء: القصد إلى الشيء قال تعالى: {ثُمَ استَوى إِلى السماءِ}.أي قصد خلقها، والاستواء في الاستيلاء على الشيء قال الشاعر:قَد اِستَوى بَشَرٌ عَلى العِراقِمِن غَيرِ سَيفٍ وَدَم مِهراق
وقال الآخر:إِذا ما غَزى قَومًا أَباحَ حَريمَهُموَأَضحى عَلى ما مَلَكوهُ قَدِ استَوى
وروى إسماعيل بن أبي خالد الطائي قال: العرش ياقوتة حمراء.قلت: وجميع السلف على إمرار هذه الآية كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل.قال عبد الله بن وهب: كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَحمَنُ عَلى العَرشِ استَوى} كيف استوى؟ فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ولا يقال له كيف وكيف عنه مرفوع وأنت رجل سوء صاحب بدعة فأخرجوه فأخرج.وقد حمل قوم من المتأخرين هذه الصفة على مقتضى الحس فقالوا: {استوى على العرش بذاته}، وهي زيادة لم تنقل، إنما فهموها من إحساسهم، وهو أن المستوي على الشيء إنما تستوي عليه ذاته، قال أبو حامد (المجسم) : الاستواء مماسته وصف لذاته، والمراد به القعود، قال: وقد ذهبت طائفة من أصحابنا إلى أن الله سبحانه وتعالى على عرشه ما ملأه، وأنه يقعد فيه، ويقعد نبيه صلى الله عليه وسلم معه على العرش.قال أبو حامد: والنزول انتقال.قلت: وعلى ما حكى تكون ذاته أصغر من العرش فالعجب من قول هذا ما نحن مجسمة..؟؟وقيل لابن الزاغوني (المجسم) : هل تجدون له صفة لم تكن له بعد خلق العرش..؟ قال: لا إنما خلق العالم بصفة التحت، فصار العالم بالإضافة إليه أسفل فإذا ثبت لإحدى الذاتين صفة التحت تثبت للأخرى صفة استحقاق الفوق قال: وقد ثبت أن الأماكن ليست في ذاته، ولا ذاته فيها، فثبت انفصاله عنها، ولا بد من شيء يحصل به الفصل، فلما قال: {ثُمَّ استوى} علمنا اختصاصه بتلك الجهة.قال ابن الزاغوي: ولا بد أن تكون لذاته نهاية وغاية نعلمها.قلت: وهذا رجل لا يدري ما يقول لأنه إذا قدر غايةً وفصلاً بين الخالق والمخلوق فقد حدده، وأقر بأنه جسم، وهو يقول في كتابه: إنه ليس بجوهر، لأن الجوهر ما تحيز ثم يثبت له مكانًا يتحيز فيه.قلت: وهنا كلام جهل من قائله، وتشبيه محض، فما عرف هذا الشيخ ما يجب للخالق، ما يستحيل عليه. فإن وجوده تعالى ليس كوجود الجواهر والأجسام التي لا بد لها من حيّز، والتحت والفوق إنما يكون فيما يقابل ويحاذي، ومن ضرورة المحاذي أن يكون أكبر من المحاذي أو أصغر أو مثله، وأن هذا ومثله إنما يكون في الأجسام، وكل ما يحاذي الأجسام يجوز أن يمسّها، وما جاز عليه مماسة الأجسام ومباينتها فهو حادث، إذ قد ثبت أن الدليل على حدوث الجواهر قبولها المباينة والمماسة. فإذا أجازوا هذا عليه، قالوا بجواز حدوثه، وإن منعوا جواز هذا عليه، لم يبق لنا طريق لإثبات حدوث الجواهر، ومتى قدرنا مستغنيًا عن المحل والحيز ومحتاجًا إلى الحيز، ثم قلنا، إما أن يكون مجاورين ومتباين، كان ذلك محالاً فإن المتجاور والمتباين من لوازم المتحيز في المتحيزات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق