كتاب الباز الأشهب المنقض على مخالفي المذهب لابن الجوزي (3)
وقد ثبت أن الاجتماع والافتراق من لوازم التحيز، والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالتحيز، لأنه لو كان متحيزًا لم يخل إما أن يكون ساكنًا في حيزه أو متحركًا عنه، ولا يجوز أن يوصف بحركة ولا سكون، ولا اجتماع ولا افتراق، ومن جاور أو باين فقد تناهى ذاتًا، والمتناهي إذا اختص بمقدار استدعى مخصصًا، وكذا ينبغي أن يقال ليس بداخل العالم وليس بخارج منه لأن الدخول والخروج من لوازم المتحيزات وهما كالحركة والسكون وسائر الأعراض التي تختص بالأجرام. وأما قولهم: "خلق الأماكن لا في ذاته فثبت انفصاله عنها".
قلنا: ذاته تعالى لا تقبل أن يخلق منها شيء ولا أن يحلّ فيها شيء، والفصل من حيث الحس يوجب عليه ما يوجب على الجواهر، ومعنى الحيّز أن الذي يختص به يمنع مثله أن يوجد، وكلام هؤلاء كله مبني على الحس، وقد حملهم الحس على التشبيه والتخليط حتى قال بعضهم: إنما ذكر الاستواء على العرش لأنه أقرب الموجودات إليه وهذا جهل أيضًا لأن قرب المساحة لا يتصور إلا في حق الجسم، وقال بعضهم: جهة العرش تحاذي ما يقابله من الذات ولا تحاذي جميع الذات وهذا صريح في التجسيم والتبعيض، ويعز علينا كيف هذا القائل ينسب إلى مذهبنا؟
واحتج بعضهم بأنه على العرش بقوله تعالى: {إِلَيهِ يَصعَدُ الكَلَمُ الطَيبُ وَالعَمَلُ الصالحُ يرفعُهُ}.
وبقوله: {وَهُوَ القاهِرُ فَوقَ عِبادِهِ} وجعلوا ذلك فوقية حسية، ونسوا أن الفوقية الحسية إنما تكون لجسم أو جوهر، وأن الفوقية قد تطلق لعلو المرتبة فيقال: فلان فوق فلان، ثم أنه كما قال: {فوق عباده} قال: {وهُوَ مَعَكُمْ}.
فمن حملهما على العلم، حمل خصمه الاستواء على القهر. أخبرنا علي بن محمد بن عمر الدباس، قال أنبأنا رزق الله بن عبد الوهاب التميمي قال: كان أحمد بن حنبل يقول: الاستواء صفة مسلّمة وليست بمعنى القصد ولا الاستعلاء. قال: وكان أحمد لا يقول بالجهة للباري لأن الجهات تخلى عما سواها. وقال ابن حامد (المجسم) : الحق يختص بمكان دون مكان ومكانه الذي هو فيه وجود ذاته على عرشه وقال: وذهبت طائفة إلى أن الاستواء على عرشه قد ملأه، والأشبه أنه مماس للعرش، والكرسي موضع قدميه.
قلت: المماسة إنما تقع بين جسمين، وما أبقى هذا في التجسيم بقية..؟؟
فصل
واعلم أن كل من يتصور وجود الحق سبحانه وجودًا مكانيًا طلب له جهة كما أن من تخيل أن وجوده زمانيًا طلب له مدة في تقدمه على العالم بأزمنة وكلا التخييلين باطل.
وقد ثبت أن جميع الجهات تتساوى بالإضافة إلى القائل بالجهة فاختصاصه ببعضها ليس بواجب لذاته بل هو جائز فيحتاج إلى مخصص يخصصه ويكون الاختصاص بذلك المعنى زائدًا على ذاته وما تطرق الجواز إليه استحال قدمه لأن القديم هو الواجب الوجود من جميع الجهات. ثم ان كل من هو في جهة يكون مقدرًا محدودًا وهو يتعالى عن ذلك وإنما الجهات للجواهر والأجسام لأنها أجرام تحتاج إلى جهة والجهة ليست في جهة وإذا ثبت بطلان الجهة ثبت بطلان المكان ويوضحه أن المكان إذا كان يحيط بمن فيه والخالق لا يحويه شيء ولا تحدث له صفة.
فإن قيل: فقد أخرج في الصحيحين عن شريك عن أبي نمر أنس بن مالك رضي الله عنهم: أنه ذكر المعراج فقال فيه: "فعلاً به إلى الجبار تعالى" فقال وهو في مكانه: " يا رب خفف عنا".
فالجواب: أن أبا سليمان الخطابي قال: هذه لفظة تفرد بها شريك ولم يذكرها غيره وهو كثير التفرد بمناكير الألفاظ، والمكان لا يضاف إلى الله عز وجل، إنما هو مكان النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه: مقامه الأول الذي أقيم فيه.
قال الخطابي: وفي هذا الحديث "فاستأذنت على ربي وهو في داره". يوهم مكانًا، وإنما المعنى في داره التي دورها لأوليائه، وقد قال القاضي: أبو يعلى في كتابه "المعتمد" "إن الله عز وجل لا يوصف بالمكان".
فإن قيل: نفي الجهات يحيل وجوده، قلنا: إن كان الموجود يقبل الاتصال والانفصال فقد صدقت، فأما إذا لم يقبلهما فليس خلوه من طرق النقيض بمحال.
فإن قيل: أنتم تلزموننا أن نقر بما لا يدخل تحت الفهم.
قلنا: إن أردت بالفهم التخيل والتصور فإن الخالق لا يدخل تحت ذلك إذ ليس بمحسوس ولا يدخل تحت ذلك إلا جسم له لون وقدر فإن الخيال قد أنس بالمبصرات فهو لا يتوهم شيئًا إلا على وفق ما رءاه لأن الوهم من نتائج الحس، وإن أردت أنه لا يعلم بالعقل فقد دللنا أنه ثابت بالعقل لأن العقل مضطر إلى التصديق بموجب الدليل.
واعلم أنك لما لم تجد إلا حسًا أو عرضًا وعلمت تنزيه الخالق عن ذلك بدليل العقل الذي صرفك عن ذلك فينبغي أن يصرفك عن كونه متحيزًا أو متحركًا أو متنقلاً، ولما كان مثل هذا الكلام لا يفهمه العامي قلنا: لا تسمعوه ما لا يفهمه ودعوا اعتقاده لا تحركوه بل يسروه أن لا يساكن الجبال، ويقال إن الله تعالى استوى على عرشه كما يليق به.
ومن الآيات قوله تعالى: {أَءَمِنتُم مَن في السَماء}.
قلت: وقد ثبت قطعًا أنها ليست على ظاهرها، لأن لفظة في للظرفية والحق غير مظروف، وإذا امتنع الحس أن يتصرف في مثل هذا، بقي وصف التعظيم بما هو عظيم عند الخلق ومنها قوله تعالى: {يا حَسرَتي عَلى ما فَرَّطتُ في جَنبِ اللهِ}.
أي في طاعته وأمره، أي لأن التفرط لا يقع إلا في ذلك، وأما الجنب المعهود من ذي الجوارح، فلا يقع فيه تفريط، وقال ابن حامد (والعياذ بالله) : نُؤمِنُ بِأَنَ لله جَنباً بِهذه الآية.
قلت: وآعجبًا من عدم العقول، إذا لم يتهيأ التفريط في جنب مخلوق كيف يتهيأ في صفة الخالق وأنشد ثعلب وفسره: خليلي كفا فاذكر الله في جنبي أي في أمري..
ومنها قوله تعالى: {فَنَفخنا فيهِ مِن رُوحِنا}.
قال المفسرون: أي من رحمتنا.
وإنما نسب الروح إليه، لأنه بأمره كان.
ومنها قوله تعالى: {يُؤذونَ الله}.
قلت: أي يؤذون أولياءه، كقوله تعالى: {وَاسأَلِ القَريَةَ} أي أهلها. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "أحد جبل يحبنا ونحبه".
قال الشاعر:
أَنبَئتَ أَنَّ النارَ بَعدَكَ أَوقَدَت
وَاِستَبَّ بَعدَكَ يا كُليب المَجلِسِ
ومنها قوله تعالى: (هَل يَنظُرونَ إِلا أَن يَأتيهُمُ اللَهُ في ظَللٍ من الغَمامِ) أي بظل.
وكذلك قوله تعالى: (وَجاءَ رَبُكَ).
قلت: قال القاضي أبو يعلى عن أحمد بن حنبل أنه قال: في قوله تعالى: (يَأَتيهُمُ) قال المراد به: قدرته وأمره، قال: وقد بينه في قوله تعالى: (أَو يَأتي أَمرُ رَبِكَ)، ومثل هذا في التوراة: (وَجاءَ رَبُكَ) قال: إنما هو قدرته.
قال ابن حامد (والعياذ بالله): هذا خطأ، إنما ينزل بذاته بانتقال.
قلت: وهذا الكلام في ذاته تعالى بمقتضى الحس، كما يتكلم في الأجسام، قال ابن عقيل في قوله تعالى: (قُل الروحُ مِن أَمرِ رَبي).
قال: من كف خلقه عن السؤال عن مخلوق، فكفهم عن الخالق وصفاته أولى. وأنشده:
كَيفيةِ النَفسِ لَيسَ المَرءُ يُدرِكُها
فَكَيفَ كَيفيةِ الجَبارِ في القَدَمِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق