هؤلاء الوهابية كل ءاية يتمسكون بها يدل ظاهرها على أن الله حجم متحيز في جهة فوق وأنه يتحرّك ينزل وينتقل من العرش إلى تحت إلى السماء الدنيا وأنه يوم القيامة ينزل إلى الأرض مع الملائكة بذاته إلى الأرض فيحكم بين العباد يقولون ينزل كما تنزل الملائكة بالحركة والسكون بذاته ينتقل إلى الأرض كما هو ظاهر الآية {وجاء ربّك والملك صفّا صفّا} يُجاب عن هذا كله بأن هذه الآيات تفسيرها على الظواهر يؤدّي إلى التناقض في القرءان. والقرءان مُنَـزَّهٌ عن التناقض. لأن هذه الآيات لو فسرت على الظاهر لناقضتها ءايات أخرى ظواهرها أنّ الله في جهة الآرض {ولله المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثَمّ وجه الله}. ظاهر هذه الآية أنّ الله هنا في محيط الأرض بحيث يكون الذي يصلّي إلى الجنوب أو إلى الشمال إو إلى المشرق أو إلى المغرب يكون اتجه إلى ذات الله. وهذا لا تقولون به.
يقال لهم هذه الآية وأمثالها من القرءان وتلك الآيات التي أنتم فسّرتموها على الظواهر واعتقدتم أنّ الله حجم متحيّز في جهة فوق وأنه يتحرك وينزل. تلك الآيات قرءانٌ وهذه الآية وأمثالها قرءان. أنتم لا تحملون هذه الآيات التي ظاهرها أنّ الله في جهة تحت وأمثالها كآية { وقال إنّي ذاهبٌ إلى ربّي سيهدين} هذه الآية تخبر عن إبراهيم أنّه لما ترك قومه الذين لم يقبلوا منه تَرْكَ عِبادة الأوثان. {قال إنّي ذاهب إلى ربّي} ظاهر هذه الآية أنّ الله متحيز في فِلسطين لأنّ إبراهيم كان قاصدا أن يذهب إلى فلسطين. وأنتم لا تقولون بظاهر هذه الآية ولا تلك الآية وكلّ تلك التي فسّرتموها على الظاهر والتي لم تفسروها على الظاهر قرءان. على هذا يلزمكم التناقض في القرءان.
فلا سبيل للنّجاة من لزوم التناقض في القرءان إلا أن تُؤَوّلَ هذه الآيات التي ظواهرها أن الله في جهة فوق متحيز. والآيات التي ظواهرها أنّ الله في جهة تحت. يجب أن لا تحمل على الظواهر، هذه تؤوّل وهذه تؤوّل.
ثمّ التأويل بعضُ أهل السُنّة قالوا:"بلا كيف" وكلمة بلا كيف، معناها ليس على حسب الشكل والكمية. أو يقال على ما يليق بالله. كما في ءاية {الرحمن على العرش استوى}استوى بلا كيف أو على ما يليق بنفي التحيّز والجلوس على العرش عن الله. وفي ءاية {فأينما تولّوا فثم وجه الله} يقال: فثم قِبلة الله. كما قال بعض السلف مجاهد الذي أخذ العلم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وأما ءاية {وقال إنّي ذاهب إلى ربّي} معناه أنه ذاهب {إلى ربّي} أي إلى المكان الذي أعبد فيه ربّي بلا إيذاء. لأنّ قومه رمَوه في النار فلم يحترق ومع هذا لم يُسلموا له ولم يتبعوه بالإسلام
لِفَهْم هَذا المَوضُوعِ كَما يَنْبَغِي يَجبُ مَعْرفَةُ أنَّ القرءانَ تُوجَدُ فِيْهِ ءايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وءايَاتٌ مُتَشَابِهاتٌ، قالَ تَعَالى : {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأمَا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا وَمَا يَذّكَّرُ إلآ أُوْلُوا الألْبَابَ(7)} [سورة ءال عمران]؟
الآيَاتُ المُحْكَمَةُ: هِيَ مَا لا يَحْتمِلُ منَ التَأوِيْلِ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُغَةِ إلا وَجْهًا وَاحِدًا، أوْ مَا عُرِفَ المُرادُ به بوُضُوْحٍ كقَولِه تَعَالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ(11)}، وقَولِه: {وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُوًا أحَدُ(4)} ، وقَولِهِ:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًا(65)} [سورة مريم].
الآياتُ المُتَشَابِهَةُ: والمُتَشابِهُ هُو ما لم تَتّضِح دِلالتُه أوْ يَحتَمِلُ أوْجُهًا عَدِيدِةً واحتاجَ إلى النَّظَر لِحَمْلِهِ على الوَجهِ المُطابِقِ كقَولِه تِعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ استَوَى(5)}[سورة طه].
مثلا: قَوْله تعالى: { إليهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيّبُ والعَمَلُ الصَّالحُ يَرْفَعُهُ (10)}[سورة فاطر].أي أنَّ الكَلِمَ الطيّبَ كـَلا إله إلا اللهُ يَصْعَدُ الى مَحَلِّ كَرَامَتِهِ وهُوَ السَّمَاءُ ، والعَمَلُ الصّالِحُ يرفَعُه أي الكلمُ الطيبُ برفَعُ العملَ الصالحَ وَهَذَا مُنْطَبِقٌ وَمُنْسَجِمٌ مَعَ الآيَةِ المحُكَمَةِ:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ(11)} .
ولتَفْسِيرُ الآيَاتِ المُتَشَابِهَة يَجبُ أنْ يُرَدَّ ألى الآيَاتِ المُحْكَمَةِ، هَذا في المُتَشَابِهِ الذي يَجُوزُ للعُلَماءِ أنْ يَعْلَمُوهُ، وأمّا المُتَشابهُ الذي أُريدَ بقوله: { وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إلا اللهُ(7)} [سورة ءال عمران] على قراءةِ الوَقفِ على لفظِ الجَلالةِ فهوَ ما كانَ مثلَ وَجْبَةِ القيامةِ، وخروجِ الدَّجَّالِ على التّحديدِ فلَيسَ مِن قَبيْلِ ءايةِ الاستواءِ.
مَسْلَكُ السَّلَفِ: وهُم أهْلُ القُرونِ الثّلاثَةِ الأولى أي أكثرهم فإنَّهُم يُؤوّلونَها تأوِيْلا إجْماليّا بالإيمانِ بها واعتِقَادِ أنها ليسَت من صفاتِ الجسمِ بل أنْ لَها مَعْنًى يَليقُ بجَلالِ الله وعظَمَتِه بلا تَعْيِينٍ، بَلْ رَدُّوا تِلْكَ الآيَاتِ إلى الآياتِ المحكَمَةِ كقولِهِ تعالى :{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ(11)} [سورة الشورى].
وهُو كمَا قالَ الإمامٌ الشًّافعيُّ رضيَ الله عنه: " ءامنْتُ بما جَاءَ عن الله على مُرادِ رَسُولِ الله " يعني رضي الله عنه لا علَى ما قد تذهَبُ إليه الأوْهَامُ والظُّنُونُ من المَعاني الحِسّيَّةِ الجِسْمِيَّةِ التي لا تَجُوزُ في حَقّ الله تعالى.
نفيُ التأويلِ التفصيلي عن السلفِ كما زعمَ بعضٌ مَردُودٌ بما في صَحيحِ البُخَاريّ في كِتابِ تَفْسير القُرءانِ وعِبارتُه هُناكَ : "سورة القصَص"{ كُلُّ شَىءٍ هَالِكٌ إلا وَجْهَهُ(88)} " إلا مُلْكَهُ ويقال ما يتقرب به إليه" اه ، فملكُ الله صفةٌ من صفاتِهِ الأزليةِ ليس كالملكِ الذي يعطيهِ للمَخلوقينَ.
وَفيهِ غَيرُ هَذَا المَوْضِعِ كتَأوِيلِ الضَّحِكِ الوَارِدِ في الحَدِيثِ بالرَّحْمَةِ.
وصَحَّ أيْضًا التَّأويلُ التَّفصيليُّ عَن الإمام أحمَدَ وهُوَ منَ السَّلَفِ فَقد ثبَتَ عنْه أنَّه قالَ في قَولِهِ تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ(33)} [ سورة الفجر] إنما جَاءَتْ قُدْرتُه، صَحَّحَ سَنَدَهُ الحافِظُ البَيْهقيُّ الذي قالَ فِيهِ الحافِظُ صَلاحُ الدّينِ العَلائيُّ:" لم يَأتِ بَعْدَ البَيْهقِيّ والدَّارَقُطنِيّ مِثْلُهمَا ولا من يُقارِبُهُما". أما قولُ البيهقيّ ذلك ففي كتابِ "مَناقبِ أحمدَ"، وأمَّا قَولُ الحافِظِ أبي سَعِيدٍ العَلائيّ في البَيهقيّ والدّارَقُطنيّ فذلكَ في كِتَابِه "الوَشْيُ المُعْلَمُ"، وأمَّا الحَافِظُ أبو سَعِيدٍ فَهُو الذي يَقُولُ فِيه الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ :"شَيْخُ مَشَايخِنا" وَكَانَ مِنْ أهْلِ القَرْنِ السَّابعِ الهِجْرِي.
وهُنَاكَ خَلْقُ كَثِيْرٌ مِنَ العُلَماءِ ذَكَرُوا في تآليْفِهم أنَّ أحمدَ أوَّلَ مِنْهُمُ الحافِظُ عبدُ الرحمنِ بنُ الجَوزِيّ الذي هُو أحَدُ أسَاطِينِ المَذْهَبِ الحنبليّ لكَثْرةِ اطّلاعِهِ عَلى نُصُوصِ المذهَبِ وأحوالِ أحمدَ.
وَقَد بَيّنَ أبُو نَصْرٍ القُشَيْريُّ رَحمَهُ الله الشَّنَاعَةَ التي تَلْزَمُ نُفَاةَ التّأوِيلِ، وأبُو نَصْرٍ القُشَيْرِيُّ هُوَ الذي وصَفَهُ الحَافِظُ عَبدُ الرّزاقِ الطَّبْسِيُّ بإمَامِ الأئِمَّةِ كَمَا نَقلَ ذَلِكَ الحَافِظُ ابنُ عَسَاكِرَ في كِتَابِه "تَبْيِينُ كَذِبِ المفْتَري".
مَسْلَكُ الخَلَفِ: أن يُؤَوّلُونَها تَفْصِيلا بتَعْيِينِ مَعَانٍ لَهَا مِمّا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ العَرَبِ ولا يَحْمِلُونَها علَى ظَوَاهِرِها أيضًا كَالسَّلَفِ، ولا بَأسَ بسُلُوكِهِ ولا سِيَّمَا عنْدَ الخَوفِ مِنُ تَزَلزُلِ العَقِيْدةِ حِفْظًا منَ التّشبِيهِ مثْلُ قَولِهِ تَعالى في تَوبيخِ إبْليسَ:{مَا مَنَعَكَ أن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىّ(75)}[سورة ص].
فَيَجوزُ أن يُقَالَ المُرادُ باليَدَيْنِ العِنَايةُ والحِفْظُ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق