غاية البيان في تنزيه الله عن المكان
بسم الله
الرحمن الرحيم
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد، وعلى ءاله الأطهار وصحابته الأخيار.
وبعد، فإن علماء دمشق وحلب وحمص وسائر علماء برّ الشام لبنان والأردن وفلسطين بل وعلماء الهند وباكستان وماليزيا وأندونيسيا والعراق وتركيا وشمال أفريقيا واليمن بل وسائر البلاد الإسلامية على عقيدة تنزيه الله عن المكان والجهة والجسمية وهذا هو اعتقاد السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا حتى ظهر في القرن الثاني عشر من الهجرة رجل اسمه محمد بن عبد الوهاب ليس له باع في العلم خالف جماعة المسلمين وشقّ الصف وجاء بدعوة ممزوجة بأفكار منه زعم أنها من الكتاب والسنة، وأخذ ببعض بدع ابن تيمية فأحياها، ومنها: تحريم التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتحريم السفر لزيارة قبر الرسول، وتحريم قصد قبور الصالحين بقصد الدعاء هناك رجاء الإجابة من الله، وتكفير من ينادي يا رسول الله أو يا محمد أو يا علي أو يا عبد القادر أغثني إلا للحي الحاضر، وتحريم الاحتفال بذكرى ولادة النبي صلى الله عليه وسلم ولو خَلت هذه الاحتفالات من أي منكر لأنها بزعمهم فيها تشبه باليهود، مع العلم أن أتباعه الذين يسمّون أنفسهم الوهابية والسلفية يقيمون احتفالاً في ذكرى انطلاقة دعوة زعيمهم تحت عنوان "أسبوع محمد بن عبد الوهاب"!!!.
ومن أراد زيادة تفصيل في بيان حال هؤلاء فليرجع إلى فصل "فتنة الوهابية" من تاريخ الشيخ أحمد زيني دحلان مفتي مكة في أواخر السلطنة العثمانية.
وقد جمعنا في هذا الكتاب الأدلة الواضحة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأقوال مشاهير العلماء من المذاهب الأربعة وقد قسمنا الكتاب على أبواب:
- الباب الأول: تعريف المكان والجهة.
- الباب الثاني: ذكر الآيات الدالة على تنزيه الله عن المكان والجهة.
- الباب الثالث: ذكر الأحاديث الدالة على تنزيه الله عن المكان والجهة.
- الباب الرابع: ذكر إجماع أهل السنة على تنزيه الله عن المكان والجهة.
- الباب الخامس: ذكر الدليل العقلي على تنزيه الله عن المكان والجهة.
- الباب السادس: بيان أنه لا يمتنع شرعًا ولا عقلاً أن يكون فوق العرش مكان.
- الباب السابع: بيان حكم من يجعل لله مكانًا أو جهة.
- الباب الثامن: ذكر النقول من المذاهب الأربعة وغيرها على أن أهل السنة يقولون: الله موجود بلا مكان ولا جهة.
- الباب التاسع: بيان أنه لا يجوز القول: الله في كل مكان.
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد، وعلى ءاله الأطهار وصحابته الأخيار.
وبعد، فإن علماء دمشق وحلب وحمص وسائر علماء برّ الشام لبنان والأردن وفلسطين بل وعلماء الهند وباكستان وماليزيا وأندونيسيا والعراق وتركيا وشمال أفريقيا واليمن بل وسائر البلاد الإسلامية على عقيدة تنزيه الله عن المكان والجهة والجسمية وهذا هو اعتقاد السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا حتى ظهر في القرن الثاني عشر من الهجرة رجل اسمه محمد بن عبد الوهاب ليس له باع في العلم خالف جماعة المسلمين وشقّ الصف وجاء بدعوة ممزوجة بأفكار منه زعم أنها من الكتاب والسنة، وأخذ ببعض بدع ابن تيمية فأحياها، ومنها: تحريم التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتحريم السفر لزيارة قبر الرسول، وتحريم قصد قبور الصالحين بقصد الدعاء هناك رجاء الإجابة من الله، وتكفير من ينادي يا رسول الله أو يا محمد أو يا علي أو يا عبد القادر أغثني إلا للحي الحاضر، وتحريم الاحتفال بذكرى ولادة النبي صلى الله عليه وسلم ولو خَلت هذه الاحتفالات من أي منكر لأنها بزعمهم فيها تشبه باليهود، مع العلم أن أتباعه الذين يسمّون أنفسهم الوهابية والسلفية يقيمون احتفالاً في ذكرى انطلاقة دعوة زعيمهم تحت عنوان "أسبوع محمد بن عبد الوهاب"!!!.
ومن أراد زيادة تفصيل في بيان حال هؤلاء فليرجع إلى فصل "فتنة الوهابية" من تاريخ الشيخ أحمد زيني دحلان مفتي مكة في أواخر السلطنة العثمانية.
وقد جمعنا في هذا الكتاب الأدلة الواضحة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأقوال مشاهير العلماء من المذاهب الأربعة وقد قسمنا الكتاب على أبواب:
- الباب الأول: تعريف المكان والجهة.
- الباب الثاني: ذكر الآيات الدالة على تنزيه الله عن المكان والجهة.
- الباب الثالث: ذكر الأحاديث الدالة على تنزيه الله عن المكان والجهة.
- الباب الرابع: ذكر إجماع أهل السنة على تنزيه الله عن المكان والجهة.
- الباب الخامس: ذكر الدليل العقلي على تنزيه الله عن المكان والجهة.
- الباب السادس: بيان أنه لا يمتنع شرعًا ولا عقلاً أن يكون فوق العرش مكان.
- الباب السابع: بيان حكم من يجعل لله مكانًا أو جهة.
- الباب الثامن: ذكر النقول من المذاهب الأربعة وغيرها على أن أهل السنة يقولون: الله موجود بلا مكان ولا جهة.
- الباب التاسع: بيان أنه لا يجوز القول: الله في كل مكان.
تمهيد 1
ليعلم أن العلم بالله تعالى وصفاته أجلّ العلوم وأعلاها وأوجبها وأولاها ، وهو أصل كل علم ومنشأ كل سعادة ، ولهذا سمي علم الأصول ، وقد خصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نفسه بالترقي في هذا العلم فقال : "أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له " رواه البخاري 2، فكان هذا أهم العلوم تحصيلاً وأحقّها تبجيلاً وتعظيمًا ، قال تعالى : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } سورة محمد / الآية 19 ، قدم الأمر بمعرفة التوحيد على الأمر بالاستغفار إشارة إلى علم الفروع ، لأنه ما لم يعلم وجود الصانع يمتنع الاشتغال بطاعته . وقد حثّ الله تعالى عباده في كثير من ءايات القرءان على النظر في ملكوته لمعرفة جبروته فقال : { أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } سورة الأعراف / الآية 185 ، وقال تعالى : { سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } سورة فصلت / الآية 53 .
فإن قيل : لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم علّم أحدًا من أصحابه هذا العلم ، ولا عن أحد من أصحابه أنه تعلّم أو علّم غيره ، وإنما حدث هذا العلم بعد انقراضهم بزمان ، فلو كان هذا العلم مهمًا في الدين لكان أولى به الصحابة والتابعون .
قلنا : إن عني به أنهم لم يعلموا ذات الله وصفاته وتوحيده وتنزيهه وحَقيّة رسوله وصحة معجزاته بدلالة العقل فأقروا بذلك تقليدًا ، فهو بعيد من القول شنيع من الكلام وقد ردّ الله عزّ وجلّ في كتابه على من قلّد ءاباءه في عبادة الأصنام بقوله : { إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ } سورة الزخرف / الآية 23 ، أي على دين { وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِمْ مُّقْتَدُون } سورة الزخرف / الآية 23 . وقد حاجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كثيرًَا من المشركين واليهود والنصارى وذلك مما لا يخفى .
وإن أريد به أنهم لم يتلفظوا بهذه العبارات المصطلحة عند أهل هذه الصناعة نحو الجوهر والعرض والجائز والمحال والحَدث والقِدم ، فهذا مسلّم ، ولكنا نعارض بمثله في سائر العلوم ، فإنه لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه التلفظ بالناسخ والمنسوخ ، والمجمل والمتشابه وغيره كما هو مستعمل عند أهل التفسير ، ولا بالقياس والاستحسان ، والمعارضة والمناقضة والعلة وغيرها كما هو المستعمل عند الفقهاء ، ولا بالجرح والتعديل ، والآحاد والمشهور والمتواتر ، والصحيح والغريب ، وغير ذلك كما هو المستعمل عند أهل الحديث ، فهل لقائل أن يقول يجب رفض هذه العلوم لهذه العلة .
فإن قيل : قال ابن عباس : " تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق " فإنه منهي عنه .
قلنا إنه ورد النهي عن التفكر في الخالق مع الأمر بالتفكر في الخلق ، فإنه يوجب النظر والتأمل في ملكوت السموات والأرض ليستدل بذلك على الصانع أنه لا يشبه شيئًا من خلقه ، ومن لم يعرف الخالق من المخلوق كيف يعمل بهذا الأثر ؟
وموضوع هذا العلم علم التوحيد النظر في الخلق لمعرفة الخالق ، وقيل في تعريفه : إنه علم يتكلم فيه عن أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله وأحوال المخلوقين من الملائكة والأنبياء والأولياء والأئمة والمبدإ والمعاد ، على قانون الإسلام لا على أصول الفلاسفة ، فإنهم – أي الفلاسفة – تكلموا في حق الله وفي حق الملائكة وغير ذلك اعتمادًا على مجرد النظر والعقل فجعلوا العقل أصلاً للدين فلا يتقيدون بالتوفيق بين النظر العقلي وبين ما جاء عن الأنبياء .
أما علماء التوحيد فيتكلمون في ذلك من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن الله وعلى صحة ما جاء عن رسول الله ، فعندهم العقل شاهد للدين وليس أصلاً للدين " اهـ .
وقال الشيخ العلامة عبد الله الهرري ما نصه 3 : " قواعد نافعة
أحدهما : ما ذكره الحافظ الفقيه البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه ونصه : " والثانية : لا تثبت الصفة لله بقول صحابي أو تابعي إلا بما صح من الأحاديث النبوية المرفوعة المتفق على توثيق رواتها ، فلا يحتج بالضعيف ولا بالمختلف في توثيق رواته حتى لو ورد إسنادٌ فيه مُختَلَف فيه وجاء حديث ءاخر يَعْضِدُه فلا يُحتجُّ به " .
الثانية : قال فيه أيضًا 4 ما نصّه : " وإذا روى الثقة المأمون خبرًا متصل الإسناد رُدّ بأمور : أحدهما : أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما يَرِدُ بمجوّزات العقول وأما بخلاف العقول فلا ، والثاني : أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ ، والثالث : أن يخالف الإجماع فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له ، لأنه لا يجوز أن يكون صحيحًا غير منسوخ وتجمع الأمة على خلافه " انتهى .
الثالثة : ذكر علماء الحديث أن الحديث إذا خالف صريح العقل أو النصّ القرءاني أو الحديث المتواتر ولم يقبل تأويلاً فهو باطل ، وذكره الفقهاء والأصوليون في كتب أصول الفقه كتاج الدين السبكي في " جمع الجوامع " وغيره .
قال أبو سليمان الخطابي : " لا تثبت لله صفة إلا بالكتاب أو خبر مقطوع له بصحته يستند إلى أصل في الكتاب أو في السنة المقطوع على صحتها ، وما بخلاف ذلك فالواجب التوقف عن إطلاق ذلك ويتأول على ما يليق بمعاني الأصول المتفق عليها من أقوال أهل العلم من نفي التشبيه " . قال : " وذِكر الأصابع لم يوجد في الكتاب ولا في السنة التي شرْطها في الثبوت ما وصفناه ، فليس معنى اليد في الصفات معنى الجارحة حتى توهم بثبوتها ثبوت الأصابع بل هو توقيف شرعي أطلقنا الاسم فيه على ما جاء به الكتاب من غير تكييف ولا تشبيه " اهـ . انتهى كلام الهرري .
وقال أيضًا ما نصّه 5 : " قاعدة مهمة :
إن الشرع إنما ثبت بالعقل ، فلا يتصوّر وروده بما يكذب العقل فإنه شاهده ، فلو أتى بذلك لبطل الشرع والعقل معًا ، إذا تقرّر هذا فنقول : كل لفظ يرد من الشرع في الذات والأسماء والصفات بما يوهم خلاف العقل فلا يخلو إما أن يكون متواترًا أو ءاحادًا ، فإن كان ءاحادًا وهو نصّ لا يحتمل التأويل قطعنا بتكذيب ناقله أو سهوه أو غلطه ، وإن كان ظاهرًا فالظاهر منه غير مراد ، وإن كان متواترًا فلا يُتصوّر أن يكون نصًّا لا يحتمل التأويل ، فلا بدّ أن يكون ظاهرًا أو محتملاً ، فحينئذٍ نقول الاحتمال الذي دلّ العقل على خلافه ليس بمراد منه ، فإن بقي بعد إزالته احتمال واحد تعيّن أنه المراد بحكم الحال ، وإن بقي احتمالان فصاعدًا فلا يخلو إما أن يدلّ قاطع على تعيين واحد منها أو لا ، فإن دلّ حمل عليه ، وإن لم يدلّ قاطع على التعيين فهل يعين بالظنّ والاجتهاد ؟ اختلف فيه ، فمذهب السلف عدم التعيين خشية الإلحاد " اهـ .
وقال الشيخ الفقيه شيث بن إبراهيم المالكي ( توفي سنة 598 هـ ) ما نصّه 6 : " أهل الحق جمعوا بين المعقول والمنقول أي بين العقل والشرع ، واستعانوا في درك الحقائق بمجموعهما فسلكوا طريقًا بين طريقي الإفراط والتفريط ، وسنضرب لك مثالاً يقرّب من أفهام القاصرين ذكره العلماء كما أن الله تعالى يضرب الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ، فنقول لذوي العقول : مثال العقل العين الباصرة ، ومثال الشرع الشمس المضيئة ، فمن استعمل العقل دون الشرع كان بمنزلة من خرج في الليل الأسود البهيم وفتح بصره يريد أن يدرك المرئيات ويفرق بين المبصَرات فيعرف الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، والأحمر من الأخضر والأصفر ، ويجتهد في تحديق البصر فلا يدرك ما أراد أبدًا مع عدم الشمس المنيرة وإن كان ذا بصر وبصيرة ، ومثال من استعمل الشرع دون العقل ، مثال من خرج نهارًا جهارًا وهو أعمى أو مغمض العينين ، يريد أن يدرك الألوان ويفرق بين الأعراض ، فلا يدرك الآخر شيئًا أبدًا ، ومثال من استعمل العقل والشرع جميعًا مثال من خرج بالنهار وهو سالم البصر ، مفتوح العين والشمس ظاهرة مضيئة ، فما أجدره وأحقّه أن يدرك الألوان على حقائقها ، ويفرق بين أسودها وأحمرها وأبيضها وأصفرها .
فنحن بحمد الله السالكون لهذه الطريق وهو الطريق المستقيم ، وصراط الله المبين ، ومن زلّ عنها وحاد وقع في طريق الشيطان المتشعّبة عن اليمين والشمال ، قال تعالى : { وَأَنَّ هذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } سورة الأنعام / الآية 153 . اهـ .
ومن هنا يعلم أن المشبهة المجسمة تائهون في المعتقد لأنهم خالفوا الشرع والعقل بقولهم إن الله جالس على العرش ، وتارة يقولون إنه مستقرّ عليه ، ومنهم من يقول إنّ الله ترك مكانًا يجلس فيه معه محمدًا يوم القيامة ، وبقولهم إن الله متحيّز في مكان فوق العرش بذاته ، وبقولهم إن الله يتحرّك كل ليلة بنزوله من العرش إلى السماء الدنيا ، حتى إن بعض هؤلاء قال إن الله يضع رجله في جهنّم لكنها لا تحترق والعياذ بالله تعالى ، وغير ذلك من أقوالهم التي تدلّ على التشبيه والتجسيم لقياسهم الخالق على المخلوق ، واتباعهم الوهم .
فنحمد الله تعالى الذي جعلنا على منهج أهل السنة والجماعة الذين تكلموا في أمور التوحيد من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن الله ، وعلى صحة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
_______________
1 ) أنظر كتاب إظهار العقيدة السنية شرح العقيدة الطحاوية ( ص / 17 ) .
2 ) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب الإيمان : باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا أعلمكم بالله " .
3 ) صريح البيان في الرد على من خالف القرءان ( ص / 57 – 58) .
4 ) الفقيه والمتفقه ( ص / 132 ) .
5 ) صريح البيان في الرد على من خالف القرءان ( ص / 65 ) .
6 ) حَزّ الغلاصم في إفحام المخاصم ( ص / 94 ) .
ليعلم أن العلم بالله تعالى وصفاته أجلّ العلوم وأعلاها وأوجبها وأولاها ، وهو أصل كل علم ومنشأ كل سعادة ، ولهذا سمي علم الأصول ، وقد خصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نفسه بالترقي في هذا العلم فقال : "أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له " رواه البخاري 2، فكان هذا أهم العلوم تحصيلاً وأحقّها تبجيلاً وتعظيمًا ، قال تعالى : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } سورة محمد / الآية 19 ، قدم الأمر بمعرفة التوحيد على الأمر بالاستغفار إشارة إلى علم الفروع ، لأنه ما لم يعلم وجود الصانع يمتنع الاشتغال بطاعته . وقد حثّ الله تعالى عباده في كثير من ءايات القرءان على النظر في ملكوته لمعرفة جبروته فقال : { أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } سورة الأعراف / الآية 185 ، وقال تعالى : { سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } سورة فصلت / الآية 53 .
فإن قيل : لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم علّم أحدًا من أصحابه هذا العلم ، ولا عن أحد من أصحابه أنه تعلّم أو علّم غيره ، وإنما حدث هذا العلم بعد انقراضهم بزمان ، فلو كان هذا العلم مهمًا في الدين لكان أولى به الصحابة والتابعون .
قلنا : إن عني به أنهم لم يعلموا ذات الله وصفاته وتوحيده وتنزيهه وحَقيّة رسوله وصحة معجزاته بدلالة العقل فأقروا بذلك تقليدًا ، فهو بعيد من القول شنيع من الكلام وقد ردّ الله عزّ وجلّ في كتابه على من قلّد ءاباءه في عبادة الأصنام بقوله : { إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ } سورة الزخرف / الآية 23 ، أي على دين { وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِمْ مُّقْتَدُون } سورة الزخرف / الآية 23 . وقد حاجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كثيرًَا من المشركين واليهود والنصارى وذلك مما لا يخفى .
وإن أريد به أنهم لم يتلفظوا بهذه العبارات المصطلحة عند أهل هذه الصناعة نحو الجوهر والعرض والجائز والمحال والحَدث والقِدم ، فهذا مسلّم ، ولكنا نعارض بمثله في سائر العلوم ، فإنه لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه التلفظ بالناسخ والمنسوخ ، والمجمل والمتشابه وغيره كما هو مستعمل عند أهل التفسير ، ولا بالقياس والاستحسان ، والمعارضة والمناقضة والعلة وغيرها كما هو المستعمل عند الفقهاء ، ولا بالجرح والتعديل ، والآحاد والمشهور والمتواتر ، والصحيح والغريب ، وغير ذلك كما هو المستعمل عند أهل الحديث ، فهل لقائل أن يقول يجب رفض هذه العلوم لهذه العلة .
فإن قيل : قال ابن عباس : " تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق " فإنه منهي عنه .
قلنا إنه ورد النهي عن التفكر في الخالق مع الأمر بالتفكر في الخلق ، فإنه يوجب النظر والتأمل في ملكوت السموات والأرض ليستدل بذلك على الصانع أنه لا يشبه شيئًا من خلقه ، ومن لم يعرف الخالق من المخلوق كيف يعمل بهذا الأثر ؟
وموضوع هذا العلم علم التوحيد النظر في الخلق لمعرفة الخالق ، وقيل في تعريفه : إنه علم يتكلم فيه عن أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله وأحوال المخلوقين من الملائكة والأنبياء والأولياء والأئمة والمبدإ والمعاد ، على قانون الإسلام لا على أصول الفلاسفة ، فإنهم – أي الفلاسفة – تكلموا في حق الله وفي حق الملائكة وغير ذلك اعتمادًا على مجرد النظر والعقل فجعلوا العقل أصلاً للدين فلا يتقيدون بالتوفيق بين النظر العقلي وبين ما جاء عن الأنبياء .
أما علماء التوحيد فيتكلمون في ذلك من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن الله وعلى صحة ما جاء عن رسول الله ، فعندهم العقل شاهد للدين وليس أصلاً للدين " اهـ .
وقال الشيخ العلامة عبد الله الهرري ما نصه 3 : " قواعد نافعة
أحدهما : ما ذكره الحافظ الفقيه البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه ونصه : " والثانية : لا تثبت الصفة لله بقول صحابي أو تابعي إلا بما صح من الأحاديث النبوية المرفوعة المتفق على توثيق رواتها ، فلا يحتج بالضعيف ولا بالمختلف في توثيق رواته حتى لو ورد إسنادٌ فيه مُختَلَف فيه وجاء حديث ءاخر يَعْضِدُه فلا يُحتجُّ به " .
الثانية : قال فيه أيضًا 4 ما نصّه : " وإذا روى الثقة المأمون خبرًا متصل الإسناد رُدّ بأمور : أحدهما : أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما يَرِدُ بمجوّزات العقول وأما بخلاف العقول فلا ، والثاني : أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ ، والثالث : أن يخالف الإجماع فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له ، لأنه لا يجوز أن يكون صحيحًا غير منسوخ وتجمع الأمة على خلافه " انتهى .
الثالثة : ذكر علماء الحديث أن الحديث إذا خالف صريح العقل أو النصّ القرءاني أو الحديث المتواتر ولم يقبل تأويلاً فهو باطل ، وذكره الفقهاء والأصوليون في كتب أصول الفقه كتاج الدين السبكي في " جمع الجوامع " وغيره .
قال أبو سليمان الخطابي : " لا تثبت لله صفة إلا بالكتاب أو خبر مقطوع له بصحته يستند إلى أصل في الكتاب أو في السنة المقطوع على صحتها ، وما بخلاف ذلك فالواجب التوقف عن إطلاق ذلك ويتأول على ما يليق بمعاني الأصول المتفق عليها من أقوال أهل العلم من نفي التشبيه " . قال : " وذِكر الأصابع لم يوجد في الكتاب ولا في السنة التي شرْطها في الثبوت ما وصفناه ، فليس معنى اليد في الصفات معنى الجارحة حتى توهم بثبوتها ثبوت الأصابع بل هو توقيف شرعي أطلقنا الاسم فيه على ما جاء به الكتاب من غير تكييف ولا تشبيه " اهـ . انتهى كلام الهرري .
وقال أيضًا ما نصّه 5 : " قاعدة مهمة :
إن الشرع إنما ثبت بالعقل ، فلا يتصوّر وروده بما يكذب العقل فإنه شاهده ، فلو أتى بذلك لبطل الشرع والعقل معًا ، إذا تقرّر هذا فنقول : كل لفظ يرد من الشرع في الذات والأسماء والصفات بما يوهم خلاف العقل فلا يخلو إما أن يكون متواترًا أو ءاحادًا ، فإن كان ءاحادًا وهو نصّ لا يحتمل التأويل قطعنا بتكذيب ناقله أو سهوه أو غلطه ، وإن كان ظاهرًا فالظاهر منه غير مراد ، وإن كان متواترًا فلا يُتصوّر أن يكون نصًّا لا يحتمل التأويل ، فلا بدّ أن يكون ظاهرًا أو محتملاً ، فحينئذٍ نقول الاحتمال الذي دلّ العقل على خلافه ليس بمراد منه ، فإن بقي بعد إزالته احتمال واحد تعيّن أنه المراد بحكم الحال ، وإن بقي احتمالان فصاعدًا فلا يخلو إما أن يدلّ قاطع على تعيين واحد منها أو لا ، فإن دلّ حمل عليه ، وإن لم يدلّ قاطع على التعيين فهل يعين بالظنّ والاجتهاد ؟ اختلف فيه ، فمذهب السلف عدم التعيين خشية الإلحاد " اهـ .
وقال الشيخ الفقيه شيث بن إبراهيم المالكي ( توفي سنة 598 هـ ) ما نصّه 6 : " أهل الحق جمعوا بين المعقول والمنقول أي بين العقل والشرع ، واستعانوا في درك الحقائق بمجموعهما فسلكوا طريقًا بين طريقي الإفراط والتفريط ، وسنضرب لك مثالاً يقرّب من أفهام القاصرين ذكره العلماء كما أن الله تعالى يضرب الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ، فنقول لذوي العقول : مثال العقل العين الباصرة ، ومثال الشرع الشمس المضيئة ، فمن استعمل العقل دون الشرع كان بمنزلة من خرج في الليل الأسود البهيم وفتح بصره يريد أن يدرك المرئيات ويفرق بين المبصَرات فيعرف الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، والأحمر من الأخضر والأصفر ، ويجتهد في تحديق البصر فلا يدرك ما أراد أبدًا مع عدم الشمس المنيرة وإن كان ذا بصر وبصيرة ، ومثال من استعمل الشرع دون العقل ، مثال من خرج نهارًا جهارًا وهو أعمى أو مغمض العينين ، يريد أن يدرك الألوان ويفرق بين الأعراض ، فلا يدرك الآخر شيئًا أبدًا ، ومثال من استعمل العقل والشرع جميعًا مثال من خرج بالنهار وهو سالم البصر ، مفتوح العين والشمس ظاهرة مضيئة ، فما أجدره وأحقّه أن يدرك الألوان على حقائقها ، ويفرق بين أسودها وأحمرها وأبيضها وأصفرها .
فنحن بحمد الله السالكون لهذه الطريق وهو الطريق المستقيم ، وصراط الله المبين ، ومن زلّ عنها وحاد وقع في طريق الشيطان المتشعّبة عن اليمين والشمال ، قال تعالى : { وَأَنَّ هذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } سورة الأنعام / الآية 153 . اهـ .
ومن هنا يعلم أن المشبهة المجسمة تائهون في المعتقد لأنهم خالفوا الشرع والعقل بقولهم إن الله جالس على العرش ، وتارة يقولون إنه مستقرّ عليه ، ومنهم من يقول إنّ الله ترك مكانًا يجلس فيه معه محمدًا يوم القيامة ، وبقولهم إن الله متحيّز في مكان فوق العرش بذاته ، وبقولهم إن الله يتحرّك كل ليلة بنزوله من العرش إلى السماء الدنيا ، حتى إن بعض هؤلاء قال إن الله يضع رجله في جهنّم لكنها لا تحترق والعياذ بالله تعالى ، وغير ذلك من أقوالهم التي تدلّ على التشبيه والتجسيم لقياسهم الخالق على المخلوق ، واتباعهم الوهم .
فنحمد الله تعالى الذي جعلنا على منهج أهل السنة والجماعة الذين تكلموا في أمور التوحيد من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن الله ، وعلى صحة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
_______________
1 ) أنظر كتاب إظهار العقيدة السنية شرح العقيدة الطحاوية ( ص / 17 ) .
2 ) أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب الإيمان : باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا أعلمكم بالله " .
3 ) صريح البيان في الرد على من خالف القرءان ( ص / 57 – 58) .
4 ) الفقيه والمتفقه ( ص / 132 ) .
5 ) صريح البيان في الرد على من خالف القرءان ( ص / 65 ) .
6 ) حَزّ الغلاصم في إفحام المخاصم ( ص / 94 ) .
الباب الأوّل
في تعريف المكان والجهة
1 ـ عَرَّف المكان جمعٌ من اللغويين وأهل العلم ، ونقتصر على ذكر البعض ، فقد قال اللغوي أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني ( 502 هـ ) ما نصه 7 : " المكان عند أهل اللغة الموضع الحاوي للشيء " اهـ .
2 ـ وقال اللغوي مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي صاحب القاموس ( 817 هـ ) ما نصه 8 : " المكان : الموضع ، ج : أمكنة وأماكن " اهـ .
3 ـ وقال العلامة كمال الدين أحمد بن حسن البَياضي الحنفي ( 1098 هـ ) ما نصه 9 : " المكان هو الفراغ الذي يشغله الجسم " اهـ .
4 ـ وقال الشيخ يوسف بن سعيد الصفتي المالكي ( 1193 هـ ) ما نصه 10 : " قال أهل السُّنة : المكان هو الفراغ الذي يحُلُّ فيه الجسم " اهـ .
5 ـ وقال الحافظ المحدّث الفقيه اللغوي الحنفي السيد مرتضى الزبيدي ( 1205 هـ ) ما نصه 11 : " المكان : الموضع الحاوي للشيء " اهـ .
6 ـ وقال الشيخ سلامة القضاعي العزامي الشافعي 12 ( 1376 هـ ) ما نصه 13 : " المكان هو الموضع الذي يكون فيه الجوهر على قدره ، والجهة هي ذلك المكان " اهـ .
7 - وقال الشيخ المحدّث الفقيه العلامة الشيخ عبد الله الهرري المعروف بالحبشي حفظه الله ما نصه : " المكان هو ما يأخذه الحجم من الفراغ " اهـ .
فهذا النقل عن اللغويين وأهل العلم لبيان معنى المكان دليلٌ على أن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم كانوا يعتقدون أن الله تعالى موجودٌ بلا مكان ، وأن الله لا يسكن العرش ولا يسكن السماء ، لأن القرءان نزل بلغة العرب كما قال الله عزّ وجلّ في القرءان الكريم : { بِلِسَانٍ عَرَبيّ ٍمُّبِينٍ } سورة الشعراء /195 والنبي أعلم الناس بلغة العرب ، فبطل بذلك تمسك المشبهة المجسمة بظواهر بعض الآيات والأحاديث المتشابهة التي ظاهرها يوهم أن لله مكانًا ، فمثل هذه النصوص لا تُحمل على الظاهر باتفاق علماء السلف والخلف لاعتقادهم بأن الله تبارك وتعالى يستحيل عليه المكان كما هو ثابت بالقرءان والحديث والإجماع وكلام اللغويين وغيرهم .
وبعد هذا البيان يتبيَّن لك أيها القارىء أن الله تعالى ليس في مكان من الأماكن العلوية والسفلية وإلا لكان المكان حاويًا لله تعالى ، ومن كان المكانُ حاويًا له كان ذا مقدار وحجم ، وهذا من صفات الأجسام والمخلوقين ، واتصاف الله تعالى بصفة من صفات البشر محال على الله ، وما أدى إلى المحال فهو محال ، فثبت صحة معتقد أهل السُّنة الذين ينزّهون اللهَ عن المكان والجهة .
أما موضوع الجهة فإن مجسمة هذا العصر يعمدون إلى التمويه على الناس فيقولون : " الله موجود في جهة ما وراء العالم " ، فلبيان الحق من الباطل نبيّن معنى الجهة من أقوال العلماء من فقهاء ومحدثين ولغويين وغيرهم .
8 ـ قال اللغوي الشيخ محمد بن مكرّم الإفريقي المصري المعروف بابن منظور، كان عارفًا بالنحو واللغة والأدب ( 711 هـ ) ما نصه : " والجِهةُ والوِجْهةُ جميعًا : الموضع الذي تتوجه إليه وتقصده " اهـ .
9 ـ وقال الشيخ مصطفى بن محمد الرومي الحنفي المعروف بالكستلي ( 901 هـ ) ما نصه : " قد يطلق الجهة ويراد بها منتهى الإشارات الحِسيّة أو الحركات المستقيمة فيكون عبارة عن نهاية البُعد الذي هو المكان ، ومعنى كون الجسم في جهة أنه متمكّن في مكان يلي تلك الجهة ، وقد يُسمى المكان الذي يلي جهة ما باسمها كما يقال فوق الأرض وتحتها ، فيكون الجهة عبارة عن نفس المكان باعتبار إضافة ما " اهـ .
10 ـ وقال اللغويُّ مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي ( 817 هـ ) ما نصه : " والجهة : الناحية ، ج : جهات " انتهى باختصار .
11 ـ وقال العلاّمة كمال الدين أحمد بن حسن المعروف بالبياضي ، وكان وَلِيَ قضاء حلب ( 1098 هـ ) ما نصه : " والجهة اسم لمنتهى مأخذ الإشارة ومقصد المتحرك فلا يكونان إلا للجسم والجسمانيّ ، وكل ذلك مستحيل ـ أي على الله ـ " اهـ .
12 ـ وقال الشيخ عبد الغني النابلسي ( 1143هـ ) ما نصه : " والجهة عند المتكلمين هي نفس المكان باعتبار إضافة جسم ءاخر إليه " اهـ .
13 ـ وقال الشيخ سلامة القضاعي الشافعي ( 1376 هـ ) ما نصه : " واعلم أن بين المقدرات من الجواهر التي هي الأجسام فما دونها وبين المكان والجهة لزومًا بَيّنًا ، وهو ما لا يحتاج عند العقلاء إلى دليل ، فإن المكان هو الموضع الذي يكون فيه الجوهر على قدره ، والجهة هي ذلك المكان لكن بقيد نسبته إلى جزء خاص من شيء ءاخر " اهـ .
14 – وقال الشيخ العلامة المحدّث الفقيه عبد الله الهرري الشافعي الأشعري المعروف بالحَبشي ما نصّه 14 : " وإذا لم يكن – الله – في مكان لم يكن في جهة لا علوّ ولا سُفل ولا غيرهما لأنها إما حدود وأطراف للأمكنة أو نفس الأمكنة باعتبار عروض الإضافة إلى شيء " اهـ .
_________________
7 ) المفردات في غريب القرءان ( مادة : م ك ن ، ص / 471 ) .
8 ) القاموس المحيط ( مادة : م ك ن ، ص / 1594 ) .
9 ) إشارات المرام ( ص / 197 ) .
10 ) حاشية الصفتي نواقض الوضوء ( ص / 27 ) .
11 ) تاج العروس : مادة ( م ك ن ، جزء 9 / ص 348 ) .
12 ) تخرّج من أزهر مصر عام 1328 هـ .
13 ) فرقان القرءان ( مطبوع مع كتاب الأسماء والصفات للبيهقي ) ( ص / 62 ) .
14 ) المطالب الوفية شرح العقيدة النسفية ( ص / 47 ) .
في تعريف المكان والجهة
1 ـ عَرَّف المكان جمعٌ من اللغويين وأهل العلم ، ونقتصر على ذكر البعض ، فقد قال اللغوي أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني ( 502 هـ ) ما نصه 7 : " المكان عند أهل اللغة الموضع الحاوي للشيء " اهـ .
2 ـ وقال اللغوي مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي صاحب القاموس ( 817 هـ ) ما نصه 8 : " المكان : الموضع ، ج : أمكنة وأماكن " اهـ .
3 ـ وقال العلامة كمال الدين أحمد بن حسن البَياضي الحنفي ( 1098 هـ ) ما نصه 9 : " المكان هو الفراغ الذي يشغله الجسم " اهـ .
4 ـ وقال الشيخ يوسف بن سعيد الصفتي المالكي ( 1193 هـ ) ما نصه 10 : " قال أهل السُّنة : المكان هو الفراغ الذي يحُلُّ فيه الجسم " اهـ .
5 ـ وقال الحافظ المحدّث الفقيه اللغوي الحنفي السيد مرتضى الزبيدي ( 1205 هـ ) ما نصه 11 : " المكان : الموضع الحاوي للشيء " اهـ .
6 ـ وقال الشيخ سلامة القضاعي العزامي الشافعي 12 ( 1376 هـ ) ما نصه 13 : " المكان هو الموضع الذي يكون فيه الجوهر على قدره ، والجهة هي ذلك المكان " اهـ .
7 - وقال الشيخ المحدّث الفقيه العلامة الشيخ عبد الله الهرري المعروف بالحبشي حفظه الله ما نصه : " المكان هو ما يأخذه الحجم من الفراغ " اهـ .
فهذا النقل عن اللغويين وأهل العلم لبيان معنى المكان دليلٌ على أن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم كانوا يعتقدون أن الله تعالى موجودٌ بلا مكان ، وأن الله لا يسكن العرش ولا يسكن السماء ، لأن القرءان نزل بلغة العرب كما قال الله عزّ وجلّ في القرءان الكريم : { بِلِسَانٍ عَرَبيّ ٍمُّبِينٍ } سورة الشعراء /195 والنبي أعلم الناس بلغة العرب ، فبطل بذلك تمسك المشبهة المجسمة بظواهر بعض الآيات والأحاديث المتشابهة التي ظاهرها يوهم أن لله مكانًا ، فمثل هذه النصوص لا تُحمل على الظاهر باتفاق علماء السلف والخلف لاعتقادهم بأن الله تبارك وتعالى يستحيل عليه المكان كما هو ثابت بالقرءان والحديث والإجماع وكلام اللغويين وغيرهم .
وبعد هذا البيان يتبيَّن لك أيها القارىء أن الله تعالى ليس في مكان من الأماكن العلوية والسفلية وإلا لكان المكان حاويًا لله تعالى ، ومن كان المكانُ حاويًا له كان ذا مقدار وحجم ، وهذا من صفات الأجسام والمخلوقين ، واتصاف الله تعالى بصفة من صفات البشر محال على الله ، وما أدى إلى المحال فهو محال ، فثبت صحة معتقد أهل السُّنة الذين ينزّهون اللهَ عن المكان والجهة .
أما موضوع الجهة فإن مجسمة هذا العصر يعمدون إلى التمويه على الناس فيقولون : " الله موجود في جهة ما وراء العالم " ، فلبيان الحق من الباطل نبيّن معنى الجهة من أقوال العلماء من فقهاء ومحدثين ولغويين وغيرهم .
8 ـ قال اللغوي الشيخ محمد بن مكرّم الإفريقي المصري المعروف بابن منظور، كان عارفًا بالنحو واللغة والأدب ( 711 هـ ) ما نصه : " والجِهةُ والوِجْهةُ جميعًا : الموضع الذي تتوجه إليه وتقصده " اهـ .
9 ـ وقال الشيخ مصطفى بن محمد الرومي الحنفي المعروف بالكستلي ( 901 هـ ) ما نصه : " قد يطلق الجهة ويراد بها منتهى الإشارات الحِسيّة أو الحركات المستقيمة فيكون عبارة عن نهاية البُعد الذي هو المكان ، ومعنى كون الجسم في جهة أنه متمكّن في مكان يلي تلك الجهة ، وقد يُسمى المكان الذي يلي جهة ما باسمها كما يقال فوق الأرض وتحتها ، فيكون الجهة عبارة عن نفس المكان باعتبار إضافة ما " اهـ .
10 ـ وقال اللغويُّ مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي ( 817 هـ ) ما نصه : " والجهة : الناحية ، ج : جهات " انتهى باختصار .
11 ـ وقال العلاّمة كمال الدين أحمد بن حسن المعروف بالبياضي ، وكان وَلِيَ قضاء حلب ( 1098 هـ ) ما نصه : " والجهة اسم لمنتهى مأخذ الإشارة ومقصد المتحرك فلا يكونان إلا للجسم والجسمانيّ ، وكل ذلك مستحيل ـ أي على الله ـ " اهـ .
12 ـ وقال الشيخ عبد الغني النابلسي ( 1143هـ ) ما نصه : " والجهة عند المتكلمين هي نفس المكان باعتبار إضافة جسم ءاخر إليه " اهـ .
13 ـ وقال الشيخ سلامة القضاعي الشافعي ( 1376 هـ ) ما نصه : " واعلم أن بين المقدرات من الجواهر التي هي الأجسام فما دونها وبين المكان والجهة لزومًا بَيّنًا ، وهو ما لا يحتاج عند العقلاء إلى دليل ، فإن المكان هو الموضع الذي يكون فيه الجوهر على قدره ، والجهة هي ذلك المكان لكن بقيد نسبته إلى جزء خاص من شيء ءاخر " اهـ .
14 – وقال الشيخ العلامة المحدّث الفقيه عبد الله الهرري الشافعي الأشعري المعروف بالحَبشي ما نصّه 14 : " وإذا لم يكن – الله – في مكان لم يكن في جهة لا علوّ ولا سُفل ولا غيرهما لأنها إما حدود وأطراف للأمكنة أو نفس الأمكنة باعتبار عروض الإضافة إلى شيء " اهـ .
_________________
7 ) المفردات في غريب القرءان ( مادة : م ك ن ، ص / 471 ) .
8 ) القاموس المحيط ( مادة : م ك ن ، ص / 1594 ) .
9 ) إشارات المرام ( ص / 197 ) .
10 ) حاشية الصفتي نواقض الوضوء ( ص / 27 ) .
11 ) تاج العروس : مادة ( م ك ن ، جزء 9 / ص 348 ) .
12 ) تخرّج من أزهر مصر عام 1328 هـ .
13 ) فرقان القرءان ( مطبوع مع كتاب الأسماء والصفات للبيهقي ) ( ص / 62 ) .
14 ) المطالب الوفية شرح العقيدة النسفية ( ص / 47 ) .
الباب
الثاني
الدليل على تنزيه الله عن المكان والجهة من القرءان
1 - قال الله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } سورة الشورى / الآية 11 ، أي أن الله تعالى لا يشبه شيئًا من خلقه بوجه من الوجوه ، ففي هذه الآية نفي المشابهة والمماثلة ، فلا يحتاج إلى مكان يحُلّ فيه ولا إلى جهةٍ يتحيّز فيها ، بل الأمر كما قال سيدنا علي رضي الله عنه : " كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان " رواه أبو منصور البغدادي . وفي هذه الآية دليلٌ لأهل السنة على مخالفة الله للحوادث ومَعنى مُخالفة الله للحوادث أنه لا يشبه المخلوقات ، وهذه الصفة من الصفات السلبية الخمسة أي التي تدلّ على نفي ما لا يليق بالله .
والدليل العقلي على ذلك أنه لو كان يشبه شيئًا من خلقه لجاز عليه ما يجوز على الخلق من التغيّر والتطوّر ، ولو جاز عليه ذلك لاحتاج إلى من يُغيّره والمحتاج لا يكون إلهًا ، فثبت له أنّه لا يشبه شيئًا .
والبرهان النقلي لوجوب مخالفته تعالى للحوادث قوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } سورة الشورى / الآية 11 ، وهو أوضح دليل نقلي في ذلك جاء في القرءان ، لأن هذه الآية تُفهم التنزيه الكليّ لأن الله تبارك وتعالى ذكر فيها لفظ شيء في سياق النفي ، والنكرة إذا أُوردت في سياق النفي فهي للشمول ، فالله تبارك وتعالى نفى بهذه الجملة عن نفسه مشابهة الأجرام والأجسام والأعراض ، فهو تبارك وتعالى لا يشبه ذوي الأرواح من إنس وجنّ وملائكة وغيرهم ، لا يشبه الجمادات من الأجرام العلوية والسفلية أيضًا ، فالله تبارك وتعالى لم يُقيّد نفي الشّبه عنه بنوع من أنواع الحوادث بل شمل نفي مشابهته لكلّ أفراد الحادثات ، ويشمل نفي مشابهة الله لخلقه تنزيهه تعالى عن المكان والجهة والكمية والكيفية ، فالكمية هي مقدار الجِرم فهو تبارك وتعالى ليس كالجِرم الذي يدخله المِقدار والمِساحة والحَدّ فهو ليس بمحدودٍ ذي مقدار ومسافة فلو كان الله فوق العرش بذاته كما يقول المشبهة لكان محاذيًا للعرش ، ومن ضرورة المحاذي أن يكون أكبر من المُحاذَى أو أصغر أو مثله ، وأنّ هذا ومثله إنما يكون في الأجسام التي تقبل المِقدار والمساحة والحدّ وهذا مُحالٌ على الله تعالى وما أدّى إلى المحال فهو محال وبَطَلَ قولهم إنّ الله متحيّزٌ فوق العرش بذاته . ومن قال في الله تعالى إنّ له حَدًّا فقد شبّهه بخلقه لأنّ ذلك ينافي الألوهية والله تبارك وتعالى لو كان ذا حدّ ومِقدار لاحتاج إلى من جعله بذلك الحدّ والمقدار كما تحتاج الأجرام إلى من جعلها بحدودها ومقاديرها لأنّ الشيء لا يخلق نفسه بمقداره ، فالله تبارك وتعالى لو كان ذا حدّ ومقدار كالأجرام لاحتاج إلى من جعله بذلك الحدّ لأنه لا يصحّ في العقل أن يكون هو جعل نفسه بذلك الحدّ ، والمحتاجُ إلى غيره لا يكون إلهًا لأنّ من شرط الإله الاستغناء عن كلّ شيء .
2 – قال الله تعالى : { وللهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى } سورة النحل / الآية 60 ، أي الوصف الذي لا يشبه وصف غيره ، فلا يوصف ربنا عزّ وجلّ بصفات المخلوقين من التغيّر والتطوّر والحلول في الأماكن والسُّكنى فوق العرش ، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا .
قال المفسّر اللغوي أبو حيّان الأندلسي في تفسيره 15 : { وللهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى } سورة النحل / الآية 60 ، أي الصفة العليا من تنزيهه تعالى عن الولد والصاحبة وجميع ما تنسب الكفرة إليه مما لا يليق به تعالى كالتشبيه والانتقال وظهوره تعالى في صورة " اهـ .
3 – ومما يدلّ على ما قدّمنا قول الله تعالى : { فَلاَ تَضْرِبُواْ للهِ الأَمْثَالَ } سورة النحل / الآية 74 ، أي لا تجعلوا لله الشبيه والمِثل فإن الله تعالى لا شبيه له ولا مثيل له ، فلا ذاته يشبه الذوات ولا صفاته تشبه الصفات .
4 – وقال الله تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } سورة مريم / الآية 65 ، أي مِثلاً ، فالله تعالى لا مِثل له ولا شبيه ولا نظير فمن وصفه بصفة من صفات البشر كالقعود والقيام والجلوس والاستقرار يكون شبّهه بهم ، ومن قال بأن الله يسكن العرش أو أنه ملأه يكون شبّه الله بالملائكة سُكّان السماوات . وهذا الاعتقاد كفر والعياذ بالله تعالى لتكذيبه قول الله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } سورة الشورى / الآية 11 ، وقول الله تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } سورة مريم / الآية 65 .
5 – وكذلك مما يدلّ على تنزيهه تعالى عن المكان قول الله تعالى : { هُوَ الأََوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } سورة الحديد / الآية 3 ، قال الطبري في تفسيره 16 : " فلا شيء أقرب إلى شيء منه ، كما قال { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } سورة ق / الآية 16 ، اهـ . أي أن الطبري نفى القرب الحسيّ الذي تقول به المجسمة ، أما القرب المعنوي فلا ينفيه ، وهذا دليل على تنزيه الله عن المكان والجهة .
فالله تعالى هو الأول أي الأزلي الذي لا ابتداء لوجوده ، كان ولم يكن مكان ولا زمان ثم خلق الأماكن والأزمنة ولا يزال موجودًا بلا مكان ، ولا يطرأ عليه تغيّر في ذاته ولا في صفاته .
6 – وقال الله تعالى : { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } سورة الإخلاص / الآية 4 ، أي لا نظير له بوجه من الوجوه ، وهذه الآية قد فسّرتها ءاية الشورى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } .
7 – وقال الله تعالى : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ } سورة البقرة / الآية 115 ، قال المفسّر اللغوي الشيخ أبو حيان الأندلسي ما نصّه 17 : " وفي قوله تعالى : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ } سورة البقرة / الآية 115 ، ردٌّ على من يقول إنه في حيّز وجهة ، لأنّه لمّا خيَّر في استقبال جميع الجهات دلّ على أنه ليس في جهةٍ ولا حيّز ، ولو كان في حيّز لكان استقباله والتوجه إليه أحقّ من جميع الأماكن ، فحيث لم يُخصّص مكانًا علمنا أنه لا في جهة ولا حيّز ، بل جميع الجهات في ملكه وتحت ملكه ، فأي جهة توجهنا إليه فيها على وجه الخضوع كنا معظمين له ممتثلين لأمره " اهـ .
___________________ ___
15 ) النهر الماد ( جزء 2 / قسم 1 / ص / 253 ) .
16 ) جامع البيان ( مجلد 13 / جزء 27 / صفحة 253 ) .
17 ) البحر المحيط ( 1 / 361 ) .
الدليل على تنزيه الله عن المكان والجهة من القرءان
1 - قال الله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } سورة الشورى / الآية 11 ، أي أن الله تعالى لا يشبه شيئًا من خلقه بوجه من الوجوه ، ففي هذه الآية نفي المشابهة والمماثلة ، فلا يحتاج إلى مكان يحُلّ فيه ولا إلى جهةٍ يتحيّز فيها ، بل الأمر كما قال سيدنا علي رضي الله عنه : " كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان " رواه أبو منصور البغدادي . وفي هذه الآية دليلٌ لأهل السنة على مخالفة الله للحوادث ومَعنى مُخالفة الله للحوادث أنه لا يشبه المخلوقات ، وهذه الصفة من الصفات السلبية الخمسة أي التي تدلّ على نفي ما لا يليق بالله .
والدليل العقلي على ذلك أنه لو كان يشبه شيئًا من خلقه لجاز عليه ما يجوز على الخلق من التغيّر والتطوّر ، ولو جاز عليه ذلك لاحتاج إلى من يُغيّره والمحتاج لا يكون إلهًا ، فثبت له أنّه لا يشبه شيئًا .
والبرهان النقلي لوجوب مخالفته تعالى للحوادث قوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } سورة الشورى / الآية 11 ، وهو أوضح دليل نقلي في ذلك جاء في القرءان ، لأن هذه الآية تُفهم التنزيه الكليّ لأن الله تبارك وتعالى ذكر فيها لفظ شيء في سياق النفي ، والنكرة إذا أُوردت في سياق النفي فهي للشمول ، فالله تبارك وتعالى نفى بهذه الجملة عن نفسه مشابهة الأجرام والأجسام والأعراض ، فهو تبارك وتعالى لا يشبه ذوي الأرواح من إنس وجنّ وملائكة وغيرهم ، لا يشبه الجمادات من الأجرام العلوية والسفلية أيضًا ، فالله تبارك وتعالى لم يُقيّد نفي الشّبه عنه بنوع من أنواع الحوادث بل شمل نفي مشابهته لكلّ أفراد الحادثات ، ويشمل نفي مشابهة الله لخلقه تنزيهه تعالى عن المكان والجهة والكمية والكيفية ، فالكمية هي مقدار الجِرم فهو تبارك وتعالى ليس كالجِرم الذي يدخله المِقدار والمِساحة والحَدّ فهو ليس بمحدودٍ ذي مقدار ومسافة فلو كان الله فوق العرش بذاته كما يقول المشبهة لكان محاذيًا للعرش ، ومن ضرورة المحاذي أن يكون أكبر من المُحاذَى أو أصغر أو مثله ، وأنّ هذا ومثله إنما يكون في الأجسام التي تقبل المِقدار والمساحة والحدّ وهذا مُحالٌ على الله تعالى وما أدّى إلى المحال فهو محال وبَطَلَ قولهم إنّ الله متحيّزٌ فوق العرش بذاته . ومن قال في الله تعالى إنّ له حَدًّا فقد شبّهه بخلقه لأنّ ذلك ينافي الألوهية والله تبارك وتعالى لو كان ذا حدّ ومِقدار لاحتاج إلى من جعله بذلك الحدّ والمقدار كما تحتاج الأجرام إلى من جعلها بحدودها ومقاديرها لأنّ الشيء لا يخلق نفسه بمقداره ، فالله تبارك وتعالى لو كان ذا حدّ ومقدار كالأجرام لاحتاج إلى من جعله بذلك الحدّ لأنه لا يصحّ في العقل أن يكون هو جعل نفسه بذلك الحدّ ، والمحتاجُ إلى غيره لا يكون إلهًا لأنّ من شرط الإله الاستغناء عن كلّ شيء .
2 – قال الله تعالى : { وللهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى } سورة النحل / الآية 60 ، أي الوصف الذي لا يشبه وصف غيره ، فلا يوصف ربنا عزّ وجلّ بصفات المخلوقين من التغيّر والتطوّر والحلول في الأماكن والسُّكنى فوق العرش ، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا .
قال المفسّر اللغوي أبو حيّان الأندلسي في تفسيره 15 : { وللهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى } سورة النحل / الآية 60 ، أي الصفة العليا من تنزيهه تعالى عن الولد والصاحبة وجميع ما تنسب الكفرة إليه مما لا يليق به تعالى كالتشبيه والانتقال وظهوره تعالى في صورة " اهـ .
3 – ومما يدلّ على ما قدّمنا قول الله تعالى : { فَلاَ تَضْرِبُواْ للهِ الأَمْثَالَ } سورة النحل / الآية 74 ، أي لا تجعلوا لله الشبيه والمِثل فإن الله تعالى لا شبيه له ولا مثيل له ، فلا ذاته يشبه الذوات ولا صفاته تشبه الصفات .
4 – وقال الله تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } سورة مريم / الآية 65 ، أي مِثلاً ، فالله تعالى لا مِثل له ولا شبيه ولا نظير فمن وصفه بصفة من صفات البشر كالقعود والقيام والجلوس والاستقرار يكون شبّهه بهم ، ومن قال بأن الله يسكن العرش أو أنه ملأه يكون شبّه الله بالملائكة سُكّان السماوات . وهذا الاعتقاد كفر والعياذ بالله تعالى لتكذيبه قول الله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } سورة الشورى / الآية 11 ، وقول الله تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } سورة مريم / الآية 65 .
5 – وكذلك مما يدلّ على تنزيهه تعالى عن المكان قول الله تعالى : { هُوَ الأََوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } سورة الحديد / الآية 3 ، قال الطبري في تفسيره 16 : " فلا شيء أقرب إلى شيء منه ، كما قال { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } سورة ق / الآية 16 ، اهـ . أي أن الطبري نفى القرب الحسيّ الذي تقول به المجسمة ، أما القرب المعنوي فلا ينفيه ، وهذا دليل على تنزيه الله عن المكان والجهة .
فالله تعالى هو الأول أي الأزلي الذي لا ابتداء لوجوده ، كان ولم يكن مكان ولا زمان ثم خلق الأماكن والأزمنة ولا يزال موجودًا بلا مكان ، ولا يطرأ عليه تغيّر في ذاته ولا في صفاته .
6 – وقال الله تعالى : { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } سورة الإخلاص / الآية 4 ، أي لا نظير له بوجه من الوجوه ، وهذه الآية قد فسّرتها ءاية الشورى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } .
7 – وقال الله تعالى : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ } سورة البقرة / الآية 115 ، قال المفسّر اللغوي الشيخ أبو حيان الأندلسي ما نصّه 17 : " وفي قوله تعالى : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ } سورة البقرة / الآية 115 ، ردٌّ على من يقول إنه في حيّز وجهة ، لأنّه لمّا خيَّر في استقبال جميع الجهات دلّ على أنه ليس في جهةٍ ولا حيّز ، ولو كان في حيّز لكان استقباله والتوجه إليه أحقّ من جميع الأماكن ، فحيث لم يُخصّص مكانًا علمنا أنه لا في جهة ولا حيّز ، بل جميع الجهات في ملكه وتحت ملكه ، فأي جهة توجهنا إليه فيها على وجه الخضوع كنا معظمين له ممتثلين لأمره " اهـ .
___________________ ___
15 ) النهر الماد ( جزء 2 / قسم 1 / ص / 253 ) .
16 ) جامع البيان ( مجلد 13 / جزء 27 / صفحة 253 ) .
17 ) البحر المحيط ( 1 / 361 ) .
الباب
الثالث
الدليل على تنزيه الله عن المكان والجهة من الحديث
إعلم أنه جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تتضمن تنزيه الله عن المكان والجهة ، وقد استدلّ بها العلماء لتقرير هذه العقيدة السّنيّة نذكر منها :
1 – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان الله ولم يكن شيء غيره " رواه البخاري 18 والبيهقي .
ومعناه أنّ الله لم يزل موجودًا في الأزل ليس معه غيره لا ماء ولا هواء ولا أرض ولا سماء ولا كرسي ولا عرش ولا إنس ولا جنّ ولا ملائكة ولا زمان ولا مكان ، فهو تعالى موجود قبل خلق المكان بلا مكان ، وهو الذي خلق المكان فليس بحاجة إليه .
والله تعالى لا يوصف بالتغيّر من حالة إلى أخرى لأنّ التغيّر من صفات المخلوقين ، فلا يقال كما تقول المشبهة إنّ الله كان في الأزل ولا مكان ثم بعد أن خلق المكان صار هو في مكان وجهة فوق والعياذ بالله تعالى . وما أحسن قول المسلمين في لبنان : " سبحان الذي يغيّر ولا يتغيّر " ، وهذه عبارة سليمة عند أهل السنّة ، غير أنّ المشبّهة المجسّمة أدعياء السلفية تشمئزّ نفوسهم منها لأنها تهدم عليهم عقيدة التشبيه .
2 – وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم أنت الأوّل فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء " رواه مسلم 19 .
قال الحافظ البيهقي الشافعي الأشعري ما نصه 20 : " استدلّ بعض أصحابنا في نفي المكان عنه – أي عن الله – بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء " ، وإذا لم يكن فوقه شيء ولا دونه شيء لم يكن في مكان " اهـ .
أما ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لو أنّكم دلّيتم رجلاً بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله " رواه الترمذي21 هو حديث ضعيف ، لكن تأوَّله علماء الحديث على أنّ علم الله شامل لجميع الأقطار وأنه منزّه عن المكان ، فالشاهد هو في استدلال العلماء به على نفي المكان عن الله ، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني : " معناه أنّ علم الله يشمل جميع الأقطار ، فالتقدير لهبط على علم الله ، والله سبحانه وتعالى تنزّه عن الحلول في الأماكن ، فالله سبحانه وتعالى كان قبل أن تحدث الأماكن " . اهـ ، نقله عنه تلميذه الحافظ السخاوي في كتابه " المقاصد الحسنة " 22 ، وذكره أيضًا الحافظ المحدّث المؤرّخ محمد بن طولون الحنفي 23 وأقرّه عليه .
وقال الحافظ المحدّث أبو بكر البيهقي الشافعي الأشعري بعد أن ذكر هذه الرواية ما نصه 24 : " والذي رُوي في ءاخر هذا الحديث إشارة إلى نفي المكان عن الله تعالى ، وأن العبد أينما كان فهو في القرب والبعد من الله تعالى سواء ، وأنه الظاهر فيصحّ إدراكه بالأدلة ، الباطن فلا يصح إدراكه بالكون في مكان " .
وكذلك استدلّ به أبو بكر ابن العربي المالكي في شرحه على سنن الترمذي على أن الله موجود بلا مكان ، فقال ما نصّه 25 : " والمقصود من الخبر أن نسبة البارىء من الجهات إلى فوق كنسبته إلى تحت ، إذ لا ينسب إلى الكون في واحدة منهما بذاته " اهـ . أي أن الله منزه عن الجهة فلا يسكن فوق العرش كما تقول المجسمة ، ولا هو بجهة أسفل ، لأن الله تعالى كان قبل الجهات الست ، ومن استحال عليه الجهة استحال عليه المكان ، فالله تعالى لا يحُلّ في شيء ولا يشبه شيئًا ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا .
3 – ومن الأحاديث الدالة على تنزيه الله عن الجهة ما رواه مسلم 26 في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أقرب ما يكون العبدُ من ربّه وهو ساجد ، فأكثروا الدعاء " .
قال الحافظ السيوطي 27 الشافعي : " قال البدر بن الصاحب في تذكرته : في الحديث إشارة إلى نفي الجهة عن الله تعالى " .
4 – ويدلّ أيضًا على ذلك ما رواه البخاري ومسلم 28 عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " ما ينبغي لعبدٍ أن يقول : إني خيرٌ من يونس بن متـّى " اهـ ، واللفظ للبخاري .
قال الحافظ المحدّث الفقيه الحنفي مرتضى الزبيدي ما نصّه 29 : " ذَكر الإمام قاضي القضاة ناصر الدين بن المُنيِّر الإسكندري المالكي في كتابه " المنتقى في شرف المصطفى " لما تكلم على الجهة وقرر نفيها قال : ولهذا أشار مالك رحمه الله تعالى في قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تفضّلوني على يونس ابن متى " ، فقال مالك : إنما خصّ يونس للتنبيه على التنزيه لأنه صلى الله عليه وسلم رُفع إلى العرش ويونس عليه السلام هبط إلى قاموس البحر ونسبتهما مع ذلك من حيث الجهة إلى الحقّ جلّ جلاله نسبة واحدة ، ولو كان الفضل بالمكان لكان عليه السلام أقرب من يونس بن متى وأفضل ولمَا نهى عن ذلك . ثم أخذ الإمام ناصر الدين يبدي أن الفضل بالمكانة لا بالمكان ، هكذا نقله السبكي في رسالة الرد على ابن زفيل " اهـ . وابن زفيل هو ابن قيم الجوزية المبتدع تلميذ الفيلسوف المجسم ابن تيمية الذي قال مؤيدًا لعقيدة متأخري الفلاسفة إن الله لم يخلق نوع العالم ، وهذا كفرٌ بإجماع المسلمين كما ذكر العلامة الشيخ بدر الدين الزركشي في كتابه " تشنيف المسامع " .
وقال المفسّر أبو عبد الله القرطبي في تفسيره ما نصّه 30 : " قال أبو المعالي : قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تفضّلوني على يونس ابن متى " المعنى فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه وهو في قعر البحر في بطن الحوت ، وهذا يدلّ على أنّ البارىء سبحانه وتعالى ليس في جهة " اهـ .
5 - قال العلامة المحدّث الفقيه عبد الله الهرري ما نصه 31 : " ومما استدلّ به أهل السنة على أن العروج بالنبي إلى ذلك المستوى الذي لمّا وصل إليه سمع كلام الله لم يكن لأنّ الله تعالى متحيّزٌ في تلك الجهة ، فإن موسى لم يسمع كلامه وهو عارجٌ في السماوات إلى محلّ كالمحلّ الذي وصل إليه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، بل سمع وهو في الطور ، والطور من هذه الأرض ، فيُعلم من هذا أنّ الله موجود بلا مكان ، وأن سماع كلامه ليس مشروطًا بالمكان ، وأن صفاته ليست متحيّزة بالمكان ، جعل سماع محمد لكلامه الأزلي الأبدي في وقت كان فيه محمد في مستوى فوق السماوات السبع حيث يعلم الله ، وموسى كان سماعه في الطور في تلك الآية ، ولم يجتمع هذا لنبي سواه " اهـ .
6 – ومما يدلّ أيضًا على تنزيهه تعالى عن الجهة ما رواه مسلم 32 في صحيحه عن أنس بن مالك : " أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء " اهـ . أي أن النبي جعل بطون كفّيه إلى جهة الأرض ، وفي ذلك إشارة إلى أن الله عز وجل ليس متحيّزًا في جهة العلو كما أنه ليس في جهة السُّفل .
______________
18 ) صحيح البخاري : كتاب بدء الخلق : باب ما جاء في قول الله تعالى : { وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } سورة الروم / الآية 27 .
19 ) صحيح مسلم : كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار : باب ما يقول عند النوم .
20 ) الأسماء والصفات : باب ما جاء في العرش والكرسي ( ص / 400 ) .
21 ) سنن الترمذي : كتاب التفسير : سورة الحديد .
22 ) المقاصد الحسنة ( رقم 86 / ص 342 ) .
23 ) الشذرة في الأحاديث المشتهرة ( 2 / 72 ) .
24 ) الأسماء والصفات : باب ما جاء في العرش والكرسي ( ص 400 ) .
25 ) عارضة الأحوذي : كتاب التفسير : سورة الحديد ( 12 / 184 ) .
26) صحيح مسلم : كتاب الصلاة : باب ما يقال في الركوع والسجود .
27 ) شرح السيوطي لسنن النسائي ( 1 / 576 ) .
28 ) صحيح البخاري : كتاب أحاديث الأنبياء : باب قوله تعالى : { وَإنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } سورة الصافات / 139 ، صحيح مسلم : كتاب الفضائل : باب في ذكر يونس عليه السلام .
29 ) إتحاف السادة المتقين ( 2 / 105 ) .
30) الجامع لأحكام القرءان ( 11 / 333 – 334 ) ، و ( 15 / 124 ) .
31 ) إظهار العقيدة السنية ( ص / 118 – 119 ) .
32 ) صحيح مسلم : كتاب صلاة الاستسقاء : باب رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء .[/color]
الدليل على تنزيه الله عن المكان والجهة من الحديث
إعلم أنه جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تتضمن تنزيه الله عن المكان والجهة ، وقد استدلّ بها العلماء لتقرير هذه العقيدة السّنيّة نذكر منها :
1 – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان الله ولم يكن شيء غيره " رواه البخاري 18 والبيهقي .
ومعناه أنّ الله لم يزل موجودًا في الأزل ليس معه غيره لا ماء ولا هواء ولا أرض ولا سماء ولا كرسي ولا عرش ولا إنس ولا جنّ ولا ملائكة ولا زمان ولا مكان ، فهو تعالى موجود قبل خلق المكان بلا مكان ، وهو الذي خلق المكان فليس بحاجة إليه .
والله تعالى لا يوصف بالتغيّر من حالة إلى أخرى لأنّ التغيّر من صفات المخلوقين ، فلا يقال كما تقول المشبهة إنّ الله كان في الأزل ولا مكان ثم بعد أن خلق المكان صار هو في مكان وجهة فوق والعياذ بالله تعالى . وما أحسن قول المسلمين في لبنان : " سبحان الذي يغيّر ولا يتغيّر " ، وهذه عبارة سليمة عند أهل السنّة ، غير أنّ المشبّهة المجسّمة أدعياء السلفية تشمئزّ نفوسهم منها لأنها تهدم عليهم عقيدة التشبيه .
2 – وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم أنت الأوّل فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء " رواه مسلم 19 .
قال الحافظ البيهقي الشافعي الأشعري ما نصه 20 : " استدلّ بعض أصحابنا في نفي المكان عنه – أي عن الله – بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء " ، وإذا لم يكن فوقه شيء ولا دونه شيء لم يكن في مكان " اهـ .
أما ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لو أنّكم دلّيتم رجلاً بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله " رواه الترمذي21 هو حديث ضعيف ، لكن تأوَّله علماء الحديث على أنّ علم الله شامل لجميع الأقطار وأنه منزّه عن المكان ، فالشاهد هو في استدلال العلماء به على نفي المكان عن الله ، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني : " معناه أنّ علم الله يشمل جميع الأقطار ، فالتقدير لهبط على علم الله ، والله سبحانه وتعالى تنزّه عن الحلول في الأماكن ، فالله سبحانه وتعالى كان قبل أن تحدث الأماكن " . اهـ ، نقله عنه تلميذه الحافظ السخاوي في كتابه " المقاصد الحسنة " 22 ، وذكره أيضًا الحافظ المحدّث المؤرّخ محمد بن طولون الحنفي 23 وأقرّه عليه .
وقال الحافظ المحدّث أبو بكر البيهقي الشافعي الأشعري بعد أن ذكر هذه الرواية ما نصه 24 : " والذي رُوي في ءاخر هذا الحديث إشارة إلى نفي المكان عن الله تعالى ، وأن العبد أينما كان فهو في القرب والبعد من الله تعالى سواء ، وأنه الظاهر فيصحّ إدراكه بالأدلة ، الباطن فلا يصح إدراكه بالكون في مكان " .
وكذلك استدلّ به أبو بكر ابن العربي المالكي في شرحه على سنن الترمذي على أن الله موجود بلا مكان ، فقال ما نصّه 25 : " والمقصود من الخبر أن نسبة البارىء من الجهات إلى فوق كنسبته إلى تحت ، إذ لا ينسب إلى الكون في واحدة منهما بذاته " اهـ . أي أن الله منزه عن الجهة فلا يسكن فوق العرش كما تقول المجسمة ، ولا هو بجهة أسفل ، لأن الله تعالى كان قبل الجهات الست ، ومن استحال عليه الجهة استحال عليه المكان ، فالله تعالى لا يحُلّ في شيء ولا يشبه شيئًا ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا .
3 – ومن الأحاديث الدالة على تنزيه الله عن الجهة ما رواه مسلم 26 في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أقرب ما يكون العبدُ من ربّه وهو ساجد ، فأكثروا الدعاء " .
قال الحافظ السيوطي 27 الشافعي : " قال البدر بن الصاحب في تذكرته : في الحديث إشارة إلى نفي الجهة عن الله تعالى " .
4 – ويدلّ أيضًا على ذلك ما رواه البخاري ومسلم 28 عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " ما ينبغي لعبدٍ أن يقول : إني خيرٌ من يونس بن متـّى " اهـ ، واللفظ للبخاري .
قال الحافظ المحدّث الفقيه الحنفي مرتضى الزبيدي ما نصّه 29 : " ذَكر الإمام قاضي القضاة ناصر الدين بن المُنيِّر الإسكندري المالكي في كتابه " المنتقى في شرف المصطفى " لما تكلم على الجهة وقرر نفيها قال : ولهذا أشار مالك رحمه الله تعالى في قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تفضّلوني على يونس ابن متى " ، فقال مالك : إنما خصّ يونس للتنبيه على التنزيه لأنه صلى الله عليه وسلم رُفع إلى العرش ويونس عليه السلام هبط إلى قاموس البحر ونسبتهما مع ذلك من حيث الجهة إلى الحقّ جلّ جلاله نسبة واحدة ، ولو كان الفضل بالمكان لكان عليه السلام أقرب من يونس بن متى وأفضل ولمَا نهى عن ذلك . ثم أخذ الإمام ناصر الدين يبدي أن الفضل بالمكانة لا بالمكان ، هكذا نقله السبكي في رسالة الرد على ابن زفيل " اهـ . وابن زفيل هو ابن قيم الجوزية المبتدع تلميذ الفيلسوف المجسم ابن تيمية الذي قال مؤيدًا لعقيدة متأخري الفلاسفة إن الله لم يخلق نوع العالم ، وهذا كفرٌ بإجماع المسلمين كما ذكر العلامة الشيخ بدر الدين الزركشي في كتابه " تشنيف المسامع " .
وقال المفسّر أبو عبد الله القرطبي في تفسيره ما نصّه 30 : " قال أبو المعالي : قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تفضّلوني على يونس ابن متى " المعنى فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه وهو في قعر البحر في بطن الحوت ، وهذا يدلّ على أنّ البارىء سبحانه وتعالى ليس في جهة " اهـ .
5 - قال العلامة المحدّث الفقيه عبد الله الهرري ما نصه 31 : " ومما استدلّ به أهل السنة على أن العروج بالنبي إلى ذلك المستوى الذي لمّا وصل إليه سمع كلام الله لم يكن لأنّ الله تعالى متحيّزٌ في تلك الجهة ، فإن موسى لم يسمع كلامه وهو عارجٌ في السماوات إلى محلّ كالمحلّ الذي وصل إليه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، بل سمع وهو في الطور ، والطور من هذه الأرض ، فيُعلم من هذا أنّ الله موجود بلا مكان ، وأن سماع كلامه ليس مشروطًا بالمكان ، وأن صفاته ليست متحيّزة بالمكان ، جعل سماع محمد لكلامه الأزلي الأبدي في وقت كان فيه محمد في مستوى فوق السماوات السبع حيث يعلم الله ، وموسى كان سماعه في الطور في تلك الآية ، ولم يجتمع هذا لنبي سواه " اهـ .
6 – ومما يدلّ أيضًا على تنزيهه تعالى عن الجهة ما رواه مسلم 32 في صحيحه عن أنس بن مالك : " أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء " اهـ . أي أن النبي جعل بطون كفّيه إلى جهة الأرض ، وفي ذلك إشارة إلى أن الله عز وجل ليس متحيّزًا في جهة العلو كما أنه ليس في جهة السُّفل .
______________
18 ) صحيح البخاري : كتاب بدء الخلق : باب ما جاء في قول الله تعالى : { وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } سورة الروم / الآية 27 .
19 ) صحيح مسلم : كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار : باب ما يقول عند النوم .
20 ) الأسماء والصفات : باب ما جاء في العرش والكرسي ( ص / 400 ) .
21 ) سنن الترمذي : كتاب التفسير : سورة الحديد .
22 ) المقاصد الحسنة ( رقم 86 / ص 342 ) .
23 ) الشذرة في الأحاديث المشتهرة ( 2 / 72 ) .
24 ) الأسماء والصفات : باب ما جاء في العرش والكرسي ( ص 400 ) .
25 ) عارضة الأحوذي : كتاب التفسير : سورة الحديد ( 12 / 184 ) .
26) صحيح مسلم : كتاب الصلاة : باب ما يقال في الركوع والسجود .
27 ) شرح السيوطي لسنن النسائي ( 1 / 576 ) .
28 ) صحيح البخاري : كتاب أحاديث الأنبياء : باب قوله تعالى : { وَإنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } سورة الصافات / 139 ، صحيح مسلم : كتاب الفضائل : باب في ذكر يونس عليه السلام .
29 ) إتحاف السادة المتقين ( 2 / 105 ) .
30) الجامع لأحكام القرءان ( 11 / 333 – 334 ) ، و ( 15 / 124 ) .
31 ) إظهار العقيدة السنية ( ص / 118 – 119 ) .
32 ) صحيح مسلم : كتاب صلاة الاستسقاء : باب رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء .[/color]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق