بعد ان كثر اللغط بسبب المشبهة الذين شبهوا الخالق المعبود بالمخلوقات في تفسيرهم الفاسد لقوله تعالى " الرحمن على العرش استوى " اردنا ان نبين لكم ان الاستواء في العربية لا يأتي بمعنى الجلوس فحسب ، بل أن له معاني منها ما يليق بالله ومنها ما لا يليق به ، وأن تفسير الاستواء بالاستيلاء والقهر او غير ذلك مما أوّل به الأئمة المعتبرون ءاية الاستواء ليس خروجاً عن اللغة ولا عن الدين .
وقد فسر اهل الحق هذه الآية بمعنى قهر وبعضهم عبّر عن ذلك بالاستيلاء المجرد عن معنى المغالبة وذلك لا بأس به .
يعتبر الإمام التابعي مجاهد الذي هو تلميذ حبر الأمة عبد الله بن عباس احد الأوائل من السلف الصالح الذين أوّلوا ءاية الاستواء " الرحمن على العرش استوى" فقال : " علا على العرش ، علواً لائقاً به وهو علو القدر والدرجة ، لأن الله موصوف بالعلو وفوقية الرتبة ،
قال الفيروز ابادي في معجمه " القاموس المحيط" في معنى كلمة استوى : " استوى اعتدل ، واستوى الرجل : بلغ أشدَّه أو أربعين سنة ،واستوى الى السماء صعَد او عَمَد او قصد ، او أقبل عليها او استولى " ا.هـ.
مختار الصحاح
وعن معنى كلمة الاستواء قال الرازي في " مختار الصحاح " ما نصه : ورجل سوي الخلق أي مستوٍ واستوى من اعوجاج ، واستوى على ظهر دابته اي استقر ، واستوى الى السماء اي قصد ، واستوى أي استولى وظهر ، قال الشاعر فيما جاء في " الصحاح " للجوهري و " لسان العرب " و " تاج العروس " وغيرهما :قد استوى بشرٌ على العراق --- من غير سيف ودم مهراق
واستوى الرجل انتهى شبابه ، وقصد سوَى فلان اي قصد قصده ، واستوى الشيء اعتدل والاسم السّواءُ ، يقال : سواء عليّ قمت اوقعدت .
لسان العرب
أما الإمام ابن منظور فقد قال في " لسان العرب " عن معنى هذه الكلمة ما نصه :" واستوى الشيء اعتدل ، والاسم السّواء يقال : سواء عليّ قمتَ أو قعدتَ ، واستوى الرجل بلغ أشُدّه ، وقيل بلغ أربعين سنة ، وقوله عزّ وجل " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء " : كما تقول : قد بلغ الأمير من بلد كذا وكذا ثم استوى إلى بلد كذا ، معناه قصد بالإستواء إليه ، وقيل استوى إلى السماء : صعد أمره اليها ، وقيل استوى ، وقال الجوهري : استوى إلى السماء أي قصد ، وأستوى أي استولى وظهر "
وروى ابن منظور في " لسان العرب " عن الفرّاء قوله : " الاستواء في كلام العرب على وجهين : احدهما ان يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته ، او يستوي عن اعوجاج فهذان وجهان ، ووجه ثالث ان تقول : كان فلان مقبلاً على فلانة ثم استوى عليَّ وإليّ يُشاتمُني ، على معنى أقبل عليَّ وإليَّ ، فهذا قوله عز وجل " ثم استوى الى السماء "
ويروي ابن منظور عن الزَّجاج في قوله تعالى " ثم استوى الى السماء " عمد وقصد الى السماء ، كما تقول : فرغ الأمير من بلد كذا وكذا ثم استوى الى بلد كذا وكذا ، معناه قصد بالإستواء إليه "
تاج العروس
وعن معنى كلمة " استوى " يذكر الإمام مرتضى الزبيدي في " تاج العروس " ما نصه:" ( استوى) قد يسند اليه فاعلان فصاعداً وهذا قد تقدم ذكره ويكون بمعنى اعتدل في ذاته ، ومنه قوله تعالى :" ذو مِرّة استوى " و " فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك " و " لتستووا على ظهوره " و " فاستوى على سوقه " وقولهم استوى فلان على عمالته ، واستوى يأمر ، ومن ذلك : استوى الرجل إذا بلغ أشدّه ، فعلى هذا قوله تعالى " ولما بلغ أشده واستوى " يكون استوى عطف تفسير او بلغ اربعين سنة وبه فسرت الآية .
وفي الصحاح استوى الرجل اذا انتهى شبابه وفي التهذيب : المستوي من الرجال الذي بلغ الغاية من شبابه وتمام خلقه وعقله وذلك بتمام ثمان وعشرين الى تمام ثلاثين ثم يدخل في حد الكهولة ، ويحتمل كون بلوغ الأربعين غاية الاستواء وكما العقل ولا يقال في شيء من الأشياء استوى بنفسه حتى يضم الى غيره فيقال استوى فلان وفلان إلا في معنى بلوغ الرجل النهاية فيقال استوى ومثله اجتمع .وإذا عدى الاستواء بإلى اقتضى معنى الانتهاء إليه إما بالذات او بالتدبير ، وعلى الثاني قوله عز وجل " ثم استوى الى السماء وهي دخان " قال الجوهري أي صعد وهو تفسير ابن عباس ويعني بقوله ذلك اي صعد أمره اليه قاله ابو اسحق او عمد اليها او قصد اليها كما تقول فرغ الأمير في بلد كذا ثم استوى الى بلد كذا معناه قصد الاستواء اليه ، قال ابو اسحق او اقبل عليها عن ثعلب وقال الفراء من معاني الاستواء ان يقول كان فلان مُقبلاً على فلان ثم استوى عليَّ وإليَّ يشاتمني على معنى أقبل فهذا معنى ثم استوى إلى السماء او استولى وظهر ، نقله الجوهري ولكنه لم يفسر الآية المذكورة .
قال الراغب : ومتى ما عدى بعلى اقتضى معنى الاستيلاء كقوله عز وجل : " الرحمن على العرش استوى " ومنه قول الأخطل أشده
الجوهري :
قد استوى بشر على العراق --- من غير سيف ودم مهراق
ثم قال الراغب معناه استوى كل شيء في النسبة إليه فلا شيء اقرب إليه من شيء إذ كان عز وجل ليس كالأجسام الحالة في مكان دون مكان .واستوى من اعوجاج واستوى على ظهر دابته استقرّ ، والسواء اسم من استوى الشيء اعتدل يقال سواء عليّ قمت او قعدت " انتهى كلام الإمام الزبيدي .
وخلاصة القول ان الاستواء يذكر ويراد به الاستقرار لقوله تعالى " واستوت على الجودي " ( سورة هود/44) ،
ويذكر ويراد به الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج كقوله تعالى " فاستوى على سوقه " ( سورة الفتح/29 ) استوى على سوقه عن الزرع ،
ويذكر ويراد به التمام قال تعالى " ولما بلغ أشده واستوى " ( سورة القصص/14) هنا استوى معناه تمت قوته الجسدية ،
ويذكر الاستواء ويراد به الاستيلاء أي القهر كما يقال : استوى فلان على بلدة كذا .
ويذكر ويراد به الارتفاع والعلو كما قال الله تعالى " فإذا استويت انت ومن معك على الفلك " ( سورة المؤمنون/28 .
ويذكر ويراد به القصد والعمد كما في قوله تعالى " ثم استوى الى السماء " ( سورة البقرة/29) اي قصد وعمد .
والاستواء بمعنى على الرتبة لائق بالله تعالى فلا يجوز ان يترك ما هو لائق بالله تعالى إلى ما هو غير لائق بالله تعالى وهو الجلوس والاتصال والاستقرار الذي هو معتقد المشبهة المجسمة
فائدة تخصيص العرش بالذكر
وفائدة تخصيص العرش بالذكر كان تشريفاً له ، أي العرش إذ إضافة بعض الأشياء إلى الله تعالى لتعظيم ذلك الشيء كما قال تعالى " ناقة الله " ، فكل النوق متساوية من حيث الملكية لله ، لكن لما خص ناقة صالح بإضافتها إلى نفسه كان ذلك تشريفاً لها لما اختصت به من المزايا .
فتخصيص العرش بالذكر بأن الله تعالى استوى اي استولى عليه مع انه مستول على كل شيء لتشريف العرش اي ليدلنا على ان العرش شيء عظيم لا يعصى الله فيه .
ف يجب ان يكون تفسير هذه الآية بغير الاستقرار والجلوس ونحوه ، ويكفر من يعتقد ذلك ، فيجب ترك الحمل على الظاهر ، بل يحمل على محملٍ مستقيم في العقول ، فتحمل لفظة الاستواء على القهر .
وذلك كما في معنى قول الشاعر الذي يفيد القهر والاستيلاء :
فلما علونا واستوينا عليهم --- جعلناهم مرعّى لنَسرٍ وطائرِ
وفائدة تخصيص العرش بالذكر أنه أعظم مخلوقات الله تعالى فيعلم شمول ما دونه من باب الأولى .
قال الإمام علي رضي الله عنه :" إن الله تعالى خلق العرش إظهاراً لقدرته ولم يتخذه مكاناً لذاته " .
فيكون معنى الآية " الرحمن على العرش استوى " قهر وحَفِظَ وأبقى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق