بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 7 أكتوبر 2018

تحفة الأنام مختصر تاريخ الأسلام

قال المؤالف رحمه الله تعالى.

مقدمة

إعلم أن العرب ثلاثة أقسام بائدة وعاربة ومستعربة , فالبائدة لم يبق منهم باقية وهم قوم عاد الأولى بن عوص بن ارم بن سام ابن نوح عليه السلام . منهم نبي الله هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم . ومنهم قوم ثمود وجديس ولدي كاثر بن إرم ومن ثمود نبي الله صالح بن عبيل بن كاثر بن ثمود بن كاثر بن إرم. ومنهم طسم وعملاق ولدي لاوذ سام منهم العماليق والكنعانيون وملوك مصر الفراعنة .

والعاربة هم بنو قحطان بن عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام منهم بنو جرهم بن قحطان الذين سكنوا مكة والحجاز وتزوج اسماعيل بن إبراهيم منهم .ومنهم بنو يعرب بن قحطان. منهم بنو حمير والتبابعة ملوك اليمن . ومنهم أهل المدينة الأوس والخزرج وهم الأنصار.

وأما العرب المستعربة فهم من ذرية اسماعيل بن ابراهيم الخليل عليهما السلام ,كما أن بني إسرائيل من ذرية يعقوب بن اسحق بن إبراهيم عليهم السلام . ومن ذرية اسماعيل عدنان بن أد وهو الجد الأعلى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذريته مضر وإياد وربيعة وانمار أولاد نزار بن معد بن عدنان. ومن ذرية مضر هوازن منهم بنو سعد بن بكر منهم حليمة السعدية مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم . ومن ذرية مضر قريش وهو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر منهم عبد مناف وعبد الدار بنو شيبة منهم أصحاب السدانة .وولد لعبد مناف أربعة أولاد هاشم والمطلب وعبد شمس وعبد نوفل , فمن عبد شمس بنو أمية منهم عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان ومروان بن الحكم , ومن نوفل النوفليون ومن المطلب المطلبيون منهم الإمام الشافعي محمد بن إدريس القرشي . وولد لهاشم عبد المطلب سيد العرب ورئيس مكة .وولد لعبد المطلب عشرة أولاد منهم عبد الله أبو النبي صلى الله عليه وسلم وحمزة والعباس جد الخلفاء العباسيين .

ثم ان العرب كانوا في الأصل موحدين يتعبدون بشريعة اسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وعنه أخذوا الدين الحنيفي ومناسك الحج وحدود الحرم وتحريم الأشهر الحرم والغسل من الجنابة والختان والاستنجاء إلى غير ذلك إلى أن استولت بنو خزاعة بعد جرهم وملكوا مكة وسدانة البيت وظهر منهم عمرو بن لحي بن حارثة من نسل كهلان بن سباّ , فاستجلب لأهل مكة الأصنام من البلاد الشامية وحسن لأهل مكة والعرب تعظيمها وعبادتها وهو الذي بحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحام فتوالدوا واعتادوا على ذلك خلفاّ عن سلف حتى أخذ السدانة منهم قصي بن كلاب جد النبي صلى الله عليه وسلم الأعلى .

وقد وجد في العرب إرهاصاّ للنبوة أفراد من عقلائهم متبصرون ينكرون عبادة الأصنام ويقبحون أفعال الجاهلية وما كانوا عليه, منهم قس بن ساعدة الأيادي حكيم العرب وخطيبها مات قبل البعثة وكان من المعمرين ومنهم زيد بن عمرو بن نفيل أبو سعيد بن زيد أحد العشرة وعم عمر بن الخطاب رضي الله عنه اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة ومات بدمشق .

ومنهم أمية بن أبي الصلت الثقفي الشاعر أدرك البعثة ولم يسلم لأنه تأمل أن تكون النبوة فيه. ومنهم ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي ابن عم خديجة بنت خويلد اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد نزوله من جبل حراء أول نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم فصدقه وثبته وبشره بأن هذا الناموس الذي ينزل على الأنبياء مات في زمن فترة الوحي , ومنهم بحيرة الراهب كان مؤمناّ بدين المسيح عليه السلام ومتعبداّ على شريعته اجتمع به النبي صلى الله عليه وسلم لما سافر مع عمه أبي طالب إلى الشام. ثم ان أهل الفترة انقسمت من العرب الجاهلية إلى ثلاثة أقسام: قسم منهم ناجون وهم المتبصرون كقس بن ساعدة وأمثاله منهم تبع , وقسم منهم غير ناجين وهم مشركون وهم الذين بدلوا شريعة اسماعيل , ومنهم من أشرك وعظم الأصنام وحلل وحرم كعمرو بن لحي ومن تابعه وهم الأكثر من أهل الفترة , وقسم منهم لم يحدثوا شركاّ ولا وحدوا الله تعالى ولادخلوا في شريعة نبي من الأنبياء بل كانوا على غفلة من هذا , فهؤلاء قد اختلفت أقوال العلماء فيهم هل هم معذبون أو ناجون فعند الأكثرين من الماتريدية وغيرهم أنهم معذبون لأنهم مكلفون بالعقل وعند الأكثر من الأشعرية أنهم ناجون لقوله تعالى :{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ً}والله أعلم.
وأما بلاد العرب فهي قطعة كبيرة من آسيا الكبرى شبه جزيرة كبيرة متصلة من جهة الشرق يحدها جنوباّ بحر المحيط الهندي بحر عمان وشمالاّ بلاد سوريا وغرباّ البحر الأحمر وشرقاّ نهر البصرة والعراق.
نبذة في التاريخ

التاريخ لغةّ الوقت مطلقاّ يقال أرخت الكتاب تاريخاّ إذا بينت وقت كتابته, واصطلاحاّ علم بمعرفة أحوال الأمم الماضية ورسوم عاداتهم وأوقاتهم . وموضوعه أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء والملوك والحكماء والعلماء وغيرهم , وفائدته الاعتبار والتبصر بأحوالهم للحصول على ملكة التجارب بالوقوف على تقلبات الزمن ليحترز العاقل من المضار ويستجلب ما فيه نفعه . ثم ان المؤرخين من المتقدمين قبل الاسلام والمتأخرين قد اختلفوا اختلافاّ كثيراّ بما يتعلق بمعرفة بدء الخلق, وهبوط آدم عليه السلام لتقادم الزمن والقرون الماضية وقد كان لكل أمة ودولة من الماضين قبل التوراة تاريخ مخصوص لهم ولا يعلم تاريخ بدء الخلق وهبوط آدم إلا من التوراة وهي مختلفة اختلافاّ متبايناّ لا يعتمد عليه ولم يرد لنا نص صحيح يستند عليه, وقد قال الله تعالى :
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ }
وإنما اعتماد المؤرخين على التوراة اليونانية المعروفة بالسبعينية التي ترجمت في زمن بطليموس اليوناني المسمى عند اليهود ثلماي اليوناني الثالث بعد الاسكندر وهو الذي فك أسارى اليهود وأرجعهم إلى بيت المقدس , فعليه نقول كان ابتداء ظهور نور الاسلام ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لمضي خمسمائة وتسع وسبعين سنة من رفع المسيح عيسى بن مريم عليه السلام . وبين عيسى ووفاة موسى عليهما السلام ألف وسبعمائة سنة وست عشرة سنة. وبين موسى و إبراهيم الخليل عليهما السلام خمسمائة وخمس وأربعون سنة . وبين إبراهيم والطوفان ألف وإحدى وثمانون سنة وبين الطوفان وهبوط آدم عليه السلام ألفان ومائتان واثنان وأربعون سنة . فيكون بين مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهبوط آدم ستة الاف سنة ومائة وثلاث وستون سنة على ما هو المشهور عند المؤرخين وفي الحقيقة كل أو جل ذلك من قبيل الظنيات والله أعلم .

الباب الاول 
في ذكر الخلفاء الراشدين


الأول من الخلفاء الراشدين
هو أبو بكر الصديق معدن الهدى والتصديق وهو عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب التيمي القرشي يلتقي بعمود النسب الشريف في مرة بن كعب أمه بنت عم أبيه أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن عمرو ولد بعد الفيل بنحو ثلاث سنين كان من رؤساء قريش وعلمائهم محبباّ فيهم زاهداّ خاشعاّ حليماّ وقوراّ مقداماّ شجاعاّ صابراّ براّ كريماّ رؤفاّ رحيماّ .كان أبيض اللون نحيف الجسم خفيف العارضين ناتئ الجبهة أجود الصحابة أول من أسلم من الرجال وعمره سبع وثلاثون سنة عاش في الاسلام ستاّ وعشرين سنة. بويع له بالخلافة يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الحادية عشرة من الهجرة في سقيفة بني ساعدة ثم خرج المبايعون إلى المسجد النبوي فبايعه الناس أجمعون . ثم بايعه علي والعباس رضي الله عنهما وأجمعت الصحابة كلهم على خلافته . والنبي صلى الله عليه وسلم من الحكمة لم ينص على خلافة أحد بعده بل كان يوري ويشير بالتعريض وقد قال صلى الله عليه وسلم :
((اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ))
ثم لما تم أمر البيعة والخلافة أمر أبو بكر الصديق بتجهيز النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت العباس وعلي والفضل وقثم وأبو سفيان بن الحارث وهم عمه صلى الله عليه وسلم وأولاد أعمامه وأسامة بن زيد وشقران من مواليه صلى الله عليه وسلم فتولوا غسله وتكفينه ثم دخل الصحابة إرسالآ يصلون ويسلمون عليه صلوات الله وسلامه عليه ودفن في بيت عائشة وسط ليلة الأربعاء صلى الله عليه وسلم وبارك عليه .

وأول أمر بداّ به أبو بكر رضي الله عنه أن جهز أسامة بن زيد وأمره بالمسير إلى جهة أراضي مؤتة حيث أستشهد أبوه زيد بن حارثة , وكان صلى الله عليه وسلم قد جهز هذا الجيش وأمر عليهم أسامة بن زيد ليأخذ بثأر أبيه زيد وخرج أبو بكر مع أسامة يودعه خارج المدينة ماشياّ وأسامة راكب وقال له : (( أوصيكم بعشر خصال فاحفظوها لا تخونوا , ولا تغلوا , ولا تغدروا , ولا تمثلوا, ولا تقتلوا الطفل ولا المرأة ولا الشيخ ولا تحرقوا نخلاّ , ولا تقطعوا شجرة , ولا تذبحوا شاة , ولا بقرة , ولا بعيراّ إلا للاّكل , وإذا مررتم بقوم فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له, وإذا قرب إليكم الطعام فاذكروا اسم الله عليه وكلوا )). ثم ودعه ورجع.
ثم لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظمت مصيبة المسلمين والاسلام كثر النفاق واشرأبت المشركون وارتدت بعض القبائل , والبعض امتنع عن أداء الزكاة فأسرع أبو بكر رضي الله عنه لمداركة هذا الأمر العظيم فأمر بتجهيز الجيوش لقتال أهل الردة ومن منع الزكاة وخرج أبو بكر بالجيش ومضى حتى وصل ألى الربذة ثم ارجعوه إلى المدينة فرجع وقد عقد أحد عشر لواءّ لقتال أهل الردة فتوجهت الجيوش وقاتلوا المرتدين , وقتل مسيلمة الكذاب, وهرب طليحة بن خويلد إلى أرض الشام وكان ادعى النبوة ثم أسلم في زمن عمر بن الخطاب , واستشهد من الصحابة نحو سبعمائة رجل أكثرهم من القراء منهم زيد بن الخطاب أخو عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وهو أكبر منه سناّ وأقدم إسلاماّ ,ومنهم البراء بن مالك أخو أنس بن مالك وقتل من بني حنيفة نحو سبعة عشر ألفاّ وأعطى أبو بكر من سبي بني حنيفة علي بن أبي طالب امرأة فاستولدها محمد بن الحنيفة ثم جمع أبو بكر الصديق رضي الله عنه القرآن وهو أول من سماه مصحفاّ وقبل ذلك لم يكن مجموعاّ بل كان محفوظاّ في صدور القراء من الصحابة ومكتوباّ في صحف مطهرة متفرقة .
ثم دخلت السنة الثانية عشرة فيها جهز أبو بكر الجيوش للفتوحات فجهز خالد بن الوليد في جيش إلى العراق .
وفي السنة الثالثة عشرة جهز أبا عبيدة بن الجراح أميراّ على الجيوش بلاد الشام .

وقعة اليرموك

اجتمعت عساكر أبي عبيدة باليرموك ( وهو مكان في فلسطين ) وكانوا أحد وعشرين ألفا فأرسل هرقل عساكره وعليهم شقيقه تدارق وجرجة بن توزر وكانت عساكر هرقل يومئذ نحو مائتي ألف , فكتبوا إلى أبي بكر يخبرونه ويطلبون أن يمدهم فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يستخلف على العراق المثنى بن حارثة وأن يتوجه بمن معه إلى الشام وجعله أميراّ على جيوش الشام بدل أبي عبيدة وأمره بالاسراع فتوجه خالد ومر بأروكة وتدمر وحوران ففتح في طريقه تلك البلاد وصالح أهلها على الجزية ووصل إلى اليرموك فالتحم القتال واشتدت الحرب فانهزم ماهان وقتل تدارق أخو هرقل وانتهت الهزيمة إلى هرقل وكان بحمص فانتهى إلى وراء حمص لتكون بينه وبين المسلمين ورضي بأن تكون حمص ودمشق له .فكان المسلمون في وقعة اليرموك نحو ستة وثلاثين ألفاّ , سبعة وعشرون ألفاّ مع الأمراء, وثلاثة آلاف من امداد العراق مع خالد بن الوليد , وستة آلاف مع عكرمة بن أبي جهل والعدو مائتان وأربعون ألفاّ. وبينما هم في وقعة اليرموك حضر بريد من المدينة المنورة أخبر خالد بن الوليد أن الخليفة أبا بكر رضي الله عنه قد توفي وولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأسر خالد ذلك الخبر ولم يعلم أحداّ لشغلهم بالقتال ثم خرج جرجة بن توزر من أمراء الروم وسأل خالداّ عن أمره وأمر المسلمين والاسلام فاعلمه ووعظه ودعاه إلى الاسلام فأسلم وحسن إسلامه فكان إسلامه وهناّ على الروم . ثم قاتل جرجة مع المسلمين وانهزمت الروم ثانية واستشهد جرجه بهذه الوقعة واستشهد عكرمة وابنه وأصيبت عين أبي سفيان بن حرب .

أما وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقد كانت في السنة الثالثة عشرة من ليلة الثلاثاء لسبع بقين من جمادى الآخرة عن ثلاث وستين سنة من عمره , وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وثلاثة عشر يوماّ . ودفن في بيت عائشة ورأسه عند كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولما توفي جاء علي بن أبي طالب كرم الله وجهه باكياّ مسرعاّ مسترجعاّ حتى وقف بالباب وقال : يرحمك الله أبا بكر لقد كنت والله أول القوم إسلاماّ ,

وأخلقهم إيماناّ , وأشدهم يقيناّ , وأعظمهم وأحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدهم على الاسلام وأحماهم على أهله , وأنسبهم برسول الله صلى الله عليه وسلم خلقاً وخلُقاً وهدياً وسمتاً فجزاك الله عن الاسلام خيراً وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً, صدقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذبه الناس وواسيته حين بخلوا , وقمت معه حين قعدوا , وسماك الله في كتابه صديقاً فقال : { والذي جاء بالصدق وصدق به}
 كنت والله للإسلام حصناً ,وللكافرين ناكساً لم تغلب حجتك ,ولم تضعف بصيرتك , ولم تجبن نفسك , كنت كالجبل لا تحركه العواصف , ولا تزيله القواصف كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً في بدنك , قوياً في دينك متواضعاً في نفسك , عظيماً عند الله, جليلاً في الأرض ,كبيراً عند المؤمنين لم يكن لأحد عندك مطمع ولا هوادة ,فالضعيف عندك قوي والقوي عندك ضعيف حتى تأخذ الحق من القوي للضعيف , لا حرمنا الله اجرك ولا أضلنا بعدك.

وكان لما مرض أبو بكر رضي الله عنه جمع عنده طلحة وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من كبار الصحابة وأخبرهم أنه يريد أن يجعل عمر بن الخطاب ولي عهده فكلهم استحسن ذلك وأثنوا على رأية فأشرف على الناس وقال :اني قد استخلفت عمر بن الخطاب فاسمعوا وأطيعوا , ثم دعا عثمان بن عفان وقال له : اكتب , بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد به أبو بكرخليفة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة في حال التي يؤمن فيها الكافر ويوقن فيها الفاجر اني استعملت عليكم عمر بن الخطاب فإن صبر وعدل فذلك علمي به ورأيي فيه , وان جار وبدل فلا علم لي بالغيب والخير اردت ولكل امرئ ما اكتسب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون , ثم أمره فختمه بخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج به عثمان وقرأه على الناس فبايعوا عمر بن الخطاب ورضوا به فرفع أبو بكر يديه وقال : اللهم اني لم أرد بذلك إلا إصلاحهم وخفت عليهم الفتنة فولت عليهم خيارهم وقد حضرني من أمرك ما حضرني فاخلفني فيهم وهم عبادك , ونواصيهم بيدك فاصلح لهم ولاتهم واجعله من خلفائك الراشدين يتبع هدي نبيك نبي الرحمة وأصلح له رعيته .
الثاني من الخلفاء الراشدين

هو أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي القرشي يلتقي بعمود النسب الشريف بكعب بن لؤي , وأمه حثمة بنت هاشم لقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاروق لأنه يفرق بين الحق والباطل وقال صلى الله عليه وسلم : (( الحق يجري على لسان عمر وقلبه )) وافق ربه في أحد وعشرين موضعاً .
ولد رضي الله عنه بعد الفيل بثلاث عشرة سنة وأسلم في السنة الثالثة من البعثة وله حينئذ سبع وعشرون سنة كان طويلاً مشرفاً أصلع الرأس , . أبيض اللون , شديد الحمرة كث اللحية خفيف شعر العارضين , كثير شعر السبالين شديد حمرة العينين شديد البطش كثير التواضع زاهداً ورعاً متقشفاً من الدنيا . ولي الخلافة بعهد من أبي بكر الصديق ,رضي الله عنهما وبويع له في حياته ثم قام بأمر الخلافة بالصدق والعدل وحسن التدبير والسياسة لا يخاف في الله لومة لائم, رتب الجيوش للجهاد في سبيل الله وعزل خالد بن الوليد عن إمارة الجيوش بالشام وولى أبا عبيدة بن الجراح شفقة على الجيوش والعسكر لشدة بطش خالد وهجماته .
فتح دمشق
ولما انقضى أمر اليرموك ساروا إلى دمشق فحاصروها أشد الحصار سبعين ليلة من نواحيها الأربع فاستغفل خالد بن الوليد ليلة من الليالي وتسور السور بمن معه وقتل البوابين واقتحم بالعسكر وكبروا ففزع أهل البلد إلى أمرائهم فنادوا بالصلح فدخلوا من نواحيها صلحاً والتقوا مع خالد بن الوليد في وسط البلد فأجريت ناحية خالد على الصلح أيضاً وذلك سنة أربع عشرة ثم سارت الجنود ففتحوا طبرية وبيسان صلحاً وقيسارية وغزة وسبسطية ( وكانت بلدة كبيرة للسمرة لها شأن وفيها قبر يحيى وزكريا ),وفتحوا نابلس والرملة , ولد, وعمواس وبيت حبرون , ويافا وسائر تلك الجهات إلى غزة .

فتح بيت المقدس

ثم سار أبو عبيدة إلى الأردن فجمع الجيوش وقصد بيت المقدس وكتب لهم كتاباً فيه : (( بسم الله الرحمن الرحيم من أبي عبيدة بن الجراح إلى بطارقة أهل إيلياء. سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله وبالرسول .أما بعد فإنا ندعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور فإن شهدتم بذلك حرمت علينا دماُؤكم وأموالكم وذراريكم , وأن أبيتم سرت إليكم بقوم هم أشد حباً للموت منكم بشرب الخمر , وأكل لحم الخنزير . (( ثم انتظرهم فأبوا أن يأتوه فسار إليهم ونزل بهم وحاصرهم أشد الحصار وضيق عليهم فلما اشتد عليهم الحصار طلبوا منه الصلح فقبل منهم , فقالوا : أرسل إلى خليفتكم فيكون هو الذي يعطينا عهد الصلح وكان البطريق يومئذ عقريوص أخبرهم أن بيت المقدس يفتح على يد رجل يقال له عمر صفته كذا وكذا كما في الكتب القديمة . فكتب أبو عبيدة إلى أمير المؤمنين يخبره بذلك فجمع عمر كبار الصحابة وشاورهم في المسير فأشاروا كلهم بالمسير فجمع العساكر وخرج واستخلف على المدينة المنورة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلما قارب جاء رجل نصراني له ذمة وله بستان كرم فقال :يا أمير المؤمنين كرمي هذا في أيديهم فلم يستبيحوه ولم يتعرضوا له وأنا رجل لي ذمة فلما ظهروا عليه وقعوا فيه . فدعا عمر ببرزون وركب مسرعاً فرأي أبا هريرة يحمل عنباً فقال له : وأنت أيضاً يا أبا هريرة فقال : يا أمير المؤمنين أصابتنا مخمصة شديدة فكان أحق من أكلنا من ماله من قاتلنا فتركه ثم أتى الكرم فنظر فيه فإذا هو قد أسرعت إليه الناس فدعا عمر رضي الله عنه الذمي وقال له : كم كنت تستغله ؟ قال : بكذا , قال : فخل سبيله ودفع له الثمن كما قال وأباحه للعسكر . ودخل أمير المؤمنين الجابية وجاء أهل بيت المقدس وقد هرب ارطبون أمير عسكر الروم إلى مصر وحينئذ وقع الصلح بين أمير المؤمنين وبين رؤساء أهل بيت المقدس على الجزية وشروط معلومة وكتب لهم كتاباً وكتبوا له كتاباً على ما تم عليه الصلح . ثم دخل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيت المقدس بالجيش العظيم من المسلمين وكشف عن الصخرة وكانت مزبلة للروم غيظا لليهود وأمر ببناء مسجد ومضى نحو محراب داود وهو على باب البلد في القلعة فصلى فيه وقرأ سورة ص وسجد ثم حول قبلة المسجد لجهة الكعبة وحينئذ فتحت تلك الجهات من البلاد الشامية كلها .

ثم ولى علقمة بن حكيم على نصف فلسطين وجعل مركزه الرملة وولى علقمة بن محرز على النصف الثاني وأسكنه بيت المقدس. ثم رجع عمر رضي الله عنه إلى المدينة المنورة ولما رأى ما صنعه خالد بن الوليد قال : يرحم الله أبا بكر لقد كان أعلم مني بالرجال .

ولما فرغ أبو عبيدة وفتح قنسرين سار إلى حلب وحاصرها ثم صالحوه على الجزية ثم أسلموا كلهم , ثم سار إلى انطاكية وكان لها شأن عظيم وفيها جمع عظيم فهزمهم أبو عبيدة ثم صالحوه على الجزية , ثم فتحوا منبجا وعينتاب والموصل وكامل الجزيرة وذلك في السنة الخامسة عشر .

فصلوأما فتح مصر فإنه لما فتح بيت المقدس استأذن عمرو بن العاص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في فتح مصر فأذن له وأتبعه الزبير بن العوام , فساروا حتى دخلوا في قرى الريف فلقيهم أسقف وجاثليق فاجتمعوا بعمرو وعرضا عليه الصلح وأداء الجزية فأجلهم ثلاثاً فرجعوا إلى المقوقس وكان عنده ارطبون الذي هرب من بيت المقدس , فأبى ذلك وأشار عليهم بالحرب فهجموا على المسلمين والتحم القتال وانهزموا شر الهزيمة وحاصرهم المسلمون فقبلوا الصلح والجزية. ونزل المسلمون مصر واستلموها وضرب عمرو بن العاص فسطاطه في موضع مسجده ثم توجه عمرو إلى الاسكندرية فوقف له في الطريق عساكر من الروم من جهة هرقل والقبط فهزموهم وأكثروا فيهم القتل وفتحها عنوة وجعل أهلها ذمة وجعل فيها عمرو جنداً من المسلمين .

فصل

وأما أخبار القادسية فإنه بعد أن توجه خالد بن الوليد من العراق إلى الشام وبقي المنثى بن حارثة مع جيشه أقام بالحيرة ورتب الأمور وأرسل كسرى ثلاثة عشر جيشاً إلى الحيرة عليهم هرمز فاقتتلوا هناك قتالاً شديداً وانهزم الفرس وقتل هرمز قتله المثنى .فلما ولي عمر بن الخطاب الخلافة ندب الناس أن يتوجهوا إلى العراق مدداً للمثنى فانتدب أبو عبيدة بن مسعود فبعثه عمر في جيش فكان أول جيش بعثه إلى العراق فاجتمع أبو عبيدة مع المثنى وهناك جمع عظيم من الفرس عليه رستم فحصلت وقعة يقال لها وقهة الجسر قتل فيها من المسلمين نحو أربعة آلاف وبقي من المسلمين نحو ثلاثة آلاف فأخبروا عمر رضي الله عنه بالوقعة فلما بلغ عمر ندب الناس واستنفرهم, فاجتمع من القبائل جمع عظيم وأمر عليهم جرير بن عبد الله البجلي , وبعثهم مدداً للمثنى وأبي عبيد فاجتمع المسلمون بمكان يقال له العذيب مما يلي الكوفة وهناك عساكر من الفرس عند الفرات فباشروا بالحرب والتحم القتال فانهزمت الفرس شر هزيمة , وقتل من الفرس ما يزيد عن مائة ألف . فلما دهم الفرس ما دهمهم وكانوا مختلفين لم يكن لهم ملك توجهوا إلى بوران يسألونها عن ولد من كسري فذكرت لهم أن شهريار بن كسرى ولد له ولد اسمه يزدجرد فجاؤا به وهو ابن إحدى وعشرين سنة فملكوه واجتمعوا عليه , فكتب المثنى إلى أمير المؤمنين يخبره فلما وصل كتابه قال : والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب .

وفي هذه السنة حج عمر رضي الله عنه سنة ثلاثة عشر فاستنفر العرب فجاءته أفواج العرب إلى المدينة المنورة , فلما اجتمعت عنده أمداد العرب استخلف على المدينة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجمع العساكر وانبهم الأمر على الناس ثم استشارهم في المسير إلى العراق فأشاروا عليه بالمقام بالمدينة وأن يبعث رجلاً من الصحابة بهذه الجنود يعتمد عليه , فقبل ذلك منهم وعين لذلك سعد بن أبي وقاص أحد العشرة الكرام , وولاه حرب العراق , وأوصاه وبعثه في أربعة آلاف فيهم عمرو بن معدي كرب وأمثاله من الشجعان والأبطال ثم مده بأربعة آلاف .

فسار سعد بالجيوش وبلغه في الطريق أن المثنى قد توفي من جراحته , وكانت جموع المثنى سبعة آلاف ولحقه الأشعث بن قيس ومعه ثلاثون ألفاً ,فعبأ سعد الكتائب والساقة والطلائع والمجنبات ورتب الأمراء وجعل على كل عشرة عريفاً ورتب المقدمة وتوجه بالعساكر كلها حتى أتى القادسية فوصلت أخبارهم يزدجرد ,وأرسل سعد نفراً من العسكر فقدموا على يزدجرد فأحضرهم وقال لترجمانه : سلهم ما جاء بكم وما حملكم على غزونا وبلادنا , أمن أجل أنا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا ؟ فتكلم النعمان بن مقرن بعد أن استأذن أصحابه وقال ما معناه : ((ان الله تعالى قد رحمنا وأرسل إلينا رسولاً صفته كذا يدعونا إلى كذا ووعدنا بكذا فأجابه قوم وتباعد عنه قوم ثم أمرنا بأن نجاهد من خالفه من العرب فدخلوا معه على وجهين مكرٍه اغتبط ,وطائع حتى إذا اجتمعنا عليه وعرفنا فضل ما جاء به أمرنا بجهاد من يلينا من الأمم ندعوهم إلى الانصاف فإن أبيتم فأمرً أهون من ذلك وهو الجزية, وإن أبيتم فالمناجزة. فقال يزدجرد : لا أعلم في الأرض امة كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم , إن كان بكم جهد أعطيناكم قوتاً وكسوة وملكنا عليكم ملكاً يرفق فيكم .

فقال قيس بن زرارة : هؤلاء أشراف العرب . والاشراف يستحيون من الأشراف وأنا أكلمكم وهم يشهدون . فأما ما ذكرت من سوء الحال فكما وصفت وأشد
( ثم ذكر من عيش العرب ورحمة الله بهم بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما قال النعمان ) فاختر اما الجزية عن يد وأنت صاغر , أو السيف وإلا فنج نفسك بالإسلام.

فقال يزدجرد : لو قتل أحد الرسل لقتلتكم , ثم استدعى بحمل من تراب وقال : ارجعوا إلى صاحبكم واعلموه أني مرسل رستم حتى يدفنكم أجمعين في خندق القادسية ثم يدوخ بلادكم أعظم من تدوخ سابور . فقام عاصم بن عمر فجعل التراب على عنقه ورجع إلى سعد وقال : أبشر فقد أعطانا الله تراب أرضهم فتعجب رستم من محاورتهم وأخبر يزدجرد بما قاله عاصم .

ثم سار رستم إلى ساباط ومعه من الجنود نحو مائتي ألف وثلاثة وثلاثون فيلاً وطلب رجلاً من العرب فقال له رستم : ماجاء بكم وما تطلبون؟ فقال : نطلب وعد الله بأرضكم وأبنائكم ان لم تسلموا, قال فإن قتلتم دون ذلك ؟ قال : من قتل منا دخل الجنة , ومن بقي أنجزه الله وعده فلا يغرنك من ترى حولك فلست تحول الناس إنما تحول القضاء والقدر فغضب رستم وأمر به فضربت عنقه .

ثم سار رستم فنزل القادسية بعد ستة أشهر يطاول خوفاً وتقية وكسرى يحثه على السير . وأرسل إلى زهرة بن حوية فوقف معه وعرض له بالصلح وقال : كنتم جيراننا نحسن إليكم ونحفظكم , فقال زهرة : ليس أمرنا بذلك قد كنا كما ذكرت إلى أن بعث الله فينا رسولاً ودعانا إلى دين الحق فأجبناه . فقال : وما دين الحق ؟ فقال : الشهادتان وإخراج الناس من عبادة الخلق إلى عبادة الله , وأنتم إخوان في ذلك, قال : فإن أجبنا إلى هذا ترجعوا ؟ فقال : أي والله .فانصرف رستم ودعا رجالاً من الفرس وذكر لهم ذلك فأنفوا وتكبروا فأرسل إلى سعد أن ابعث إلينا رجلاً نكلمه ويكلمنا فبعث إليهم ربعي بن عامر فأقبل على فرسه وسيفه ورمحه حتى انتهى إلى البساط وهو مزخرف بالذهب فوطئه بفرسه ونزل وربط فرسه بوسادتين شقهما فأشاروا إليه أن يضع سلاحه , فقال : لو أتيتكم فعلت وإنما دعوتموني , ثم أقبل يتوكأ على رمحه حتى دنا من رستم وأزال البساط وجلس على الأرض وركز رمحه بالبساط وقال : انا لا نقعد على زينتكم , فقال له الترجمان : ما جاء بكم ؟ فقال : الله بعثنا لنخرج عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان- أراد الباطلة – إلى عدل الاسلام , وأرسلنا بدينه إلى خلقه فمن قبله قبلنا منه وتركناه وأرضه , ومن أبى قاتلناه حتى نفيء إلى الجنة أو الظفر . فقال رستم : هل لكم أن تؤخروا هذا ألامر حتى ننظر فيه ؟ قال: نعم ان مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نمكن الأعداء أكثر من ثلاثة أيام فانظر في أمرك واختر إما الإسلام وندعك وأرضك , أو الجزية فنقبل ونكف أو المنابذة في الرابعة وأنا كفيل بهذا عن أصحابي . فقال : أسيدهم أنت ؟ قال : لا ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجيز بعضهم عن بعض ويجيز أدناهم على أعلاهم.

فخلا رستم برؤساء قومه وقال : هل رأيتم كلاماً قط مثل كلام هذا الرجل ؟ فأروه استخفافاً بشأنه وثيابه فقال : ويحكم إنما النظر إلى الرأي والكلام والعرب تستخف اللباس وتصون الأنساب . ثم
أرسل إلى سعد أن ابعث لنا ذلك الرجل فبعث إليه حذيفة بن محصن ففعل كما فعل الأول , فقال : ما قعد بالأول عنا , فقال :أميرنا يعدل بيننا في الشدة والرخاء وهذه نوبتي . فقال رستم : والمواعدة الى متى فقال :إلى ثلاث من أمس وانصرف .ثم طلب رجلاً آخر فجاءه المغيرة بن شعبة فلما وصل جلس معه على سريره فأنزلوه عنه فقال : لا أرى قوماً أسعد منا معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضاً فظننتكم كذلك وكان أحسن بكم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض مع أني لم آتكم وإنما دعوتموني فقد علمت أنكم مغلبون ولم يقم لكم ملك على هذه السيرة فقالت السفلة: صدق العربي ,وقالت الأساطين: لقد رمانا بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه قاتل الله من يصغر أمر هذه الأمة .

ثم ما زال رستم يعرض على الفرس مصالحة العرب ويحذرهم عاقبة حرب العرب فلم يقبلوا . ثم نصب سريره ورتب عساكره ورتب يزدجرد عساكره بين المدائن والقادسية لتأتي إليه أخبار رستم وأخذ المسلمون مصافهم واختط سعد قصره وكان به وجع النسا ودماميل لا يستطيع الجلوس .فأشرف على الجنود وخطبهم وحثهم على الجهاد وذكرهم بوعد الله وذلك في المحرم سنة ((14)) ثم أمر بقراءة سورة الأنفال فنزلت السكينة على المسلمين .فلما فرغ من قراءة السورة قال :الزموا مواقفكم فإذا صليتم الظهر فإني أكبر تكبيرة فكبروا واستعدوا فإذا سمعتم الثانية فكبروا وأتموا عدتكم ,فإذا سمعتم الثالثة فكبروا ونشطوا الناس ,فإذا سمعتم الرابعة فازحفوا حتى تخالطوا عدوكم وقولوا : لا حول ولا قوة إلا بالله . فلما كبر الثالثة هاج الناس وبرز الأبطال والتحم القتال وارتجز الشعراء فأول من أسر هرمز من ملوك الفرس أسره غالب بن عبد الله الأسدي ودفعه ألى سعد ثم كبر سعد الرابعة وزحف المسلمون مكبرين ودارت رحى الحرب واشتد عواء الفيلة ووقعت الصناديق عن الفيلة وهلك من كان عليها ودام ذلك إلى الليل . فلما اصبحوا دفنوا القتلى وسلموا الجرحى إلى النساء فلما انتصف النهار زحف الناس ودارت رحى الحرب إلى نصف الليل وقتل عامة رؤساء الفرس فأصبحوا في اليوم الثالث على مواقفهم واشتد القتال واختلط المسلمون بالعدو وانقطعت الأخبار والأصوات عن سعد وهبت رياح النصر فقلبت طيارة سرير رستم فقام من سريره يستظل بظل بغل فضربه هلال بن علقمة وقتله وجره من رجله وصعد على السرير ينادي (( قتلت رستم ورب الكعبة إلي إلي )) فكبروا تكبيرة واحدة وجزوا رأسه وطافوا فانهزم قلب العدو وتفرقوا , وأخذ ضرار بن الخطاب بن مرداس الفهري راية كسرى العظيمة عوض عنها ثلاثين ألف دينار وقيمتها ألف ألف ومائة ألف . ثم جمع السلب والأموال والغنائم ما لم يجمع قبله ولا بعده مثله واعطى سعد هلال ابن علقمة سلب رستم وأمر سعد القعقاع وشرحبيل بأن يتبعوا العدو. وكتب سعد إلى أمير المؤمنين يبشره بالفتح وأقام المسلمون بالقادسية ينتظرون أمر أمير المؤمنين .

فصل
ثم جاء الأمر من أمير المؤمنين بأن يسيروا إلى المدائن عاصمة الكسروية , فذهبوا ولحقوا ببابل وكان الفرس لما انهزموا من القادسية لجأوا إلى بابل فحصل قتال شديد وانهزم الفرس وافترقوا فرقتين . فالهرمزان دخل الأهواز , والفيرزان دخل نهاوند وفيها كنوز كسرى ثم توجهوا حتى نزلوا شهرشير من المدائن ولما عاينوا الإيوان كبروا وقالوا هذا الأبيض هذا ما وعد الله ورسوله وكان نزولهم في ذي الحجة سنة ((15)) فحاصروا المدائن ثلاثة أشهر ثم اقتحموها يقولون : نستعين بالله ونتوكل عليه حسبنا الله ونعم الوكيل لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وساروا في دجلة وخيولهم سابحة يهيمون تارة ويتحدثون أخرى فلما رأى الفرس عساكر المسلمين جازوا البحر خرجوا هاربين إلى حلوان وكان كسرى يزدجرد قبل ذلك قدم بعياله ونزل سعد الايوان وصلى فيه صلاة الفتح ثمان ركعات لا يفصل بينها .وقرأ { كم تركوا من جنات وعيون } الآية واتخذ الإيوان مسجداً وصلى فيه سعد بالناس .
ثم استولوا على بيت مال كسرى وكان فيه ثلاثة آلاف قنطار من الذهب دنانير, وأخذوا حلية كسرى وثيابه ودرعه من الهاربين , وأخذوا حمل بغل من السيوف , وحمل بغل من الدروع والمغافر , وأخذوا درع هرقل ودامر ملك الهند وبهرام جور وسباوخش والنعمان بن المنذر وسواري كسرى أخذوها , كلها من المنهزمين الهاربين وأحضرها كلها القعقاع إلى سعد وخيره سعد في السيوف فاختار سيف هرقل وأعطاه درع بهرام . وبعث إلى أمير المؤمنين سيف كسرى والنعمان وتاج كسرى وحليته وثيابه ليراها الناس في المدينة المنورة , وألبسوا سراقة بن مالك المدلجي سواري كسرى تصديقاً لقوله صلى الله عليه وسلم : (( كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى .

وقسم سعد بين المسلمين الغنيمة بعدما خمسها فأصاب الفارس اثنا عشر ألف دينار وكانوا ستين ألفاً , وقسم المنازل والدور بين الناس وأنزلهم فيها , وأخذوا بساط كسرى وطوله ستون ذراعاً في مثلها وهو شبه بستان فيه زهور منسوجة بالذهب وطرق كالأنهار وتماثيل منقوشة بالدر والياقوت على حرير وجواهر متنوعة . كانت الأكاسرة تبسطه في الإيوان زمن الشتاء عند فقد الرياحين وتشرب عليه.
ولما قدمت الأخماس على أمير المؤمنين قسمها في الناس وقطع البساط قطعاً بين الصحابة وأعطى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قطعة باعها بعشرين ألفاً , وولى أمير المؤمنين سعد بن أبي وقاص على الصلاة والحرب فيما فتحه وغلب عليه , وولى حذيفة بن اليمان على سقي الفرات , وولى عثمان بن حنيف على سقي دجلة .

فصل
ثم أرسل سعد جنداً لفتح جلولآء , فقدموا عليها وحاصروها ثم حملوا حملة واحدة فانهزم الفرس وتفرقوا وقتل منهم يومئذ نحو مائة ألف , وتبعهم القعقاع بطليعة فاحتل كسرى يزدجرد حلوان ثم هرب الى الري , ثم توجه بعض عساكر المسلمين نحو الأهواز والسوس ففتحوها وأسروا الهرمزان وأرسلوه ألى المدينة المنورة , وألبسوه كسوته من الديباج والذهب وتاجه مرصع بالياقوت , فلما رآه عمر أمر بنزع ما عليه وقال له : يا هرمزان كيف رأيت أمر الله ؟ فقال : إنا وإياكم في الجاهلية كان الله قد خلى بيننا وبينكم فغلبناكم إذ لم يكن معنا ولا معكم فلما صار الآن معكم غلبتمونا فقال عمر : إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا . ثم قال : فما حجتك وما عذرك في الانتقاض مرة بعد أخرى ؟ فقال : أخاف أن أقتل أن أخبرك ,قال : لا تخف فاستسقى بماء فأتى بكوز فقال : أخاف أن أقتل وأنا أشرب , قال : لا بأس عليك حتى تشربه فألقى الكوز من يده وقال : لا حاجة لي في الماء وقد أمنتني , قال : كذبت , قال أنس: صدق يا أمير المؤمنين قد قلت له : لا بأس عليك حتى تشربه وصدقه الناس فقال عمر : خدعتني لا والله إلا أن تسلم فأسلم وحسن إسلامه وفرض له أمير المؤمنين ألفين وأنزله بالمدينة مكرماً .

فصل 
ثم صدر أمر أمير المؤمنين أن تسير العساكر والجنود لفتح بلاد فارس وهي بلاد إيران . فتوجهوا وفتحوا في طريقهم بلاداً كبيرة كخراسان وازدشير , وسابور, واصطخرونسا , ودارابجرد ,وكرمان , وسبجستان , وتستر , وهمذان, ومكران , والدينور , وشيراز , وأصبهان , وقزوين ,وطبرستان , وقوص , وجرجان , وطخارستان ,وفرغانة ,والصغد , وبلخ , وبلاد الديلم , وكافة بلاد فارس والعجم. ثم فتحوا نهاوند وفيها غنائم كسرى العظيمة واقتسموها حتى وصلوا إلى مرو الروذ وبها كسرى يزدجرد فقاتل المسلمين وقاتلوه ثم انهزم هزيمة شديدة , وكان قد أرسل بريداً من ظرفه إلى ملك الصين يستنجده ويستمده ويخبره فعل العرب بملكه وكيف استولوا على بلاده وخزائنه فرأى البريد راجعاً من ملك الصين في الطريقه وهو منهزم ومعه كتاب يسأله ملك الصين أن يترجم له أحوال العرب ودعوتهم وأفعالهم وعيشهم, فكتب إليه يزدجرد عن دينهم ودعوتهم وكتابهم وصفتهم , فكتب إليه ملك الصين إذا كانت صفاتهم كما قلت فسالمهم وصالحهم على الجزية ولا تحاربهم, فإنه لا يقوم لهم مقاوم فضاقت عليه الأرض بما رحبت , فأقام بفرغانة تحت عهد خاقان ثم انهزم منها مع جيوشه إلى جور
(( وهي ازدشير )) . فلما كان أيام خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه ولى عبد الله بن عامر كريز وهو ابن خال عثمان على تكميل فتوحات بلاد العجم ففتحوا اسفراين , وابيورد , وطوس حتى وصلوا الى ازدشير وبها يزدجرد مع فرقة معه , انهزم وتبعوه فالتجأ إلى جماعة هناك فقتلوا من كان معه وهرب يزدجرد ماشياً وحده إلى شط المرعاب فآوى إلى بيت رجل ينقر الارحاء, فلما نام قام إليه وقتله ورماه في نهر هناك فبلغ خبره مطران مرو فجمع بعض أتباعه ووعظهم وذكرهم حقوق سلفه , فأخذوه من النهر ووضعوه في ناووس ودفنوه هناك وأقاموا عليه مأتماً , وبه انقرضت دولة الأكاسرة والساسانية من الأرض وظهرت معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى يمزقهم كل ممزق.

استطراد

كان ليزدجرد ثلاث بنات سبين في خلافة عمر بن الخطاب أعطى واحدة منهن لعبد الله بن عمر بن الخطاب فأولدها سالماً , الثانية أعطاها لمحمد بن أبي بكر فأولدها قاسماً , والثالثة وهي ( شهرياتو ثم سماها غزالة ) أعطاها لسيدنا الحسين بن علي فأولدها علي بن الحسين زين العابدين وجد الأشراف الحسينيين . فسالم والقاسم وعلي بنو خالة رضي الله عنهم .

فصل 

في سنة أربع عشرة أمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ببناء البصرة والكوفة فبنوها أولاً بالقصب ثم استأذنوا عمر أن يبنوها باللبن فأذن لهم وقال : لا يزيد أحد على ثلاثة بيوت, ولا يطاول في البنيان , وأن يلزموا السنة فإذا لزمتموها لزمتكم الدولة .
وفي سنة سبعة عشر توجه أمير المؤمنين معتمراً وأقام بمكة عشرين يوماً وفيها وسع المسجد الحرام .
وفي هذه السنة تزوج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وأمها فاطمة الزهراء .
وفي سنة ثمان عشرة حصل قحط شديد سمي ذلك العام عام الرمادة فاستسقى عمر رضي الله عنه , وخطب وأخذ العباس بن عبد المطلب وتوسل به وجثا على ركبتيه وبكى يدعو إلى أن نزل المطر وأغيثوا.

وفي هذه السنة كان طاعون عمواس ببلاد الشام . أقام شهراً ومات فيه نحو خمسة وعشرين ألفاً , وكتب أمير المؤمنين إلى أبي عبيدة أن يرتفع بالمسلمين من الأرض التي فيها الطاعون. وتوفي من مشاهير الصحابة فيه أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر القرشي أمين هذه الأمة وأحد العشرة الكرام, وأمير جيوش الشام من السابقين إلى الاسلام هاجر الهجرتين وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ,توفي وله من العمر ثمان وخمسون سنة وقبره ببيسان يزار ويتبرك به .
وتوفي فيه أيضاً أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل بن عمرو الأنصاري الخزرجي كان ولاه أبو عبيدة قبل وفاته على الجيوش وهو من السبعين الذين شهدو العقبة من أهل المدينة وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن ينصروه ويحموه ما دام عندهم في المدينة , وكان عمره حينئذ ثمان عشرة سنة. شهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها وأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم والياً على اليمن فبقي فيها إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان من علماء وقراء الصحابة واعلم بالحلال والحرام . قال صلى الله عليه وسلم :
(( معاذ بن جبل أمام العلماء يوم القيامة برتوة أو رتوتين ))
يعني بميل أو بميلين .
وتوفي أيضاً يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي أخو معاوية بن أبي سفيان كان أفضل أخوته وأورعهم وكان يقال له يزيد الخير . أسلم يوم فتح مكة وشهد حينناً وولاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأبا عبيدة على جيوش الشام وما والاها , فولى عمر رضي الله عنه على دمشق مكانه اخاه معاوية بن أبي سفيان .
وفي هذه السنة سار عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعه ناس من الصحابة إلى الشام حتى وصل سرغ
( وهي قرية قريبة من دمشق ) فاستقبله معاوية وأمراء الجيوش وأخبروه بشدة وطأة الطاعون في البلاد الشامية . فتوقف عن الدخول ,واستشار رؤساء الصحابة فبعضهم أشار بالدخول والبعض أشار بعدم الدخول , وكان من رأي عمر عدم الدخول للبلاد التي فيها الطاعون خوفاً على الصحابة الذين معه . ثم حضر عبد الرحمن بن عوف وروى له ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم: 
((إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تقدموا عليها وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه ))
فحمد الله عمر ورجع بمن معه ولم يدخل دمشق . ولما مضت مدة الطاعون واطمأنت البلاد رجع عمر رضي الله عنه من المدينة المنورة مرة ثانية إلى البلاد الشامية ليتفقد أحوال الجيوش ويقسم مواريث المسلمين . فتطوف في البلاد والثغور والحصون ثم رجع. وفي سنة أحدى وعشرين توفي خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم القرشي المخزومي سيف الله بقرية على نحو ميل من حمص عن ستين سنة من عمره , قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية هو وعمرو بن العاص , وطلحة بن طلحة العبدري من بني عبد الدار القرشي , فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
((رمتكم مكة بأفلاذ كبدها )) يريد أنكم قطعتم أكباد أهل مكة بمجيئكم . مات رضي الله عنه على فراشه مرابطاً بحمص بعد أن باشر الحروب والوقائع العظيمة ولم يبق في جسده موضع شبر إلا وفيه طابع الشهادة, ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم .وكان في قلنسوته التي كان يجاهد فيها شعر من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنصر به . ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لما حلق رأسه من حجة الوداع (( أو من عمرة اعتمرها )) استبق الصحابة إلى شعره ولم تقع شعرة على الآرض فسبق خالد بن الوليد وأخذ الناصية وجعلها في مقدم قلنسوته , ولما حضرته الوفاة بكى , قيل له : مايبكيك ؟ قال لقيت زهاء مائة زحف وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي كما تموت العنز فلا نامت أعين الجبناء .

فصل

وفي سنة ثلاث وعشرين حج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم رجع إلى المدينة المنورة وفي ختامها طعنه أبو لؤلؤة فيروز مملوك المغيرة بن شعبة أصله من نهاوند مجوسي كافر لعنه الله . وكان عمر رضي الله عنه يمنع من سكنى المدينة غير المسلمين فاستأذن المغيرة وهو بالكوفة عمر بن الخطاب بسكنى أبي لؤلؤة لأنه يحسن كثيراً من الصنائع فقد كان حداداً نجاراً نقاشاً فأذن له .

خرج عمر رضي الله عنه لصلاة الصبح وقد استوت الصفوف فدخل الخبيث أبو لؤلؤة بين الصفوف وبيده خنجر مسموم برأسين فضربة به ثلاث طعنات إحداها تحت سرته فمسكوه وأصيب من الصحابة نحو اثني عشر رجلاً مات منهم ستة وطعن اللعين نفسه فمات. وسقط عمر رضي الله عنه على الأرض فقال لا بنه أنظر من ضربني, قال أبو لؤلؤة غلام المغيرة, قال :الحمد لله الذي لم يجعل قتلي على يد رجل سجد لله سجدة. واستخلف عمر عبد الرحمن يصلى بالناس وحمل إلى بيته فأوجز عبد الرحمن الصلاة , ثم دعاه عمر فقال :اني أريد أن أعهد إليك قال: أتشير علي بها ؟ قال : لا, قال :والله لا أفعل, فقال عمر : اني أريد أن أعهد إلى النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض وهم علي وعثمان والزبيروسعد وعبد الرحمن وطلحة وفيهم سعيد بن عمرو بن نفيل ولست مدخله فيهم لأنه ابن عم عمر, قيل له : فلو عهدت إلى عبد الله ( يعني ابنه ), قال : حسب آل الخطاب لأن يحاسب منهم واحد عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم , ولوددت أني نجوت من هذا الأمر كفافاً لا لي ولا علي , فعليكم بهؤلاء الستة فلتختاروا منهم واحداً وليصل بالناس صهيب ثلاثة أيام , ولا يأتي اليوم الرابع إلا وعليكم أمير من هؤلاء الستة وليحضرهم عبد الله في الشورى ولا شيء له من الأمر . ثم أوصاهم بالأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان أن يحسن إلى محسنهم ويعفو عن مسيئهم , وأوصى بالعرب فانهم مادة الاسلام , وأوصى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يوفوا لهم بعهدهم (( اللهم قد بلغت لقد تركت الخلافة من بعدي على أنقى من الراحة )) ثم بعث ابنه عبد الله إلى عائشة فقال : قل لها يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ولا تقل أمير المؤمنين فيقول لك : انه لاحق بربه أفتأذنين أن يدفن مع صاحبيه, فجاء عبد الله إلى عائشة فاستأذن فبلغها رسالة أمير المؤمنين . فتأوهت وبكت وقالت : كنت أشم رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي بكر فلما مات أبو بكر كنت أشم رائحته في أمير المؤمنين عمر ما لي والدنيا أفقد فيها الأحباب واحداً واحداً , بلغ أمير المؤمنين مني السلام وقل له : انها كنت قد ادخرت ذلك لنفسها , ولكنها آثرتك اليوم على نفسها . فرجع عبد الله فقال له عمر: ما ورائك يا عبد الله ؟ قال : الذي تحب قد أذنت لك , قال : الحمد لله ما كان شيء أهم إلي من ذلك فإذا أنا قبضت فارجع إلى عائشة فاستأذنها ثانياُ فربما تكون استحيت وأنا حي . فلم يزل يذكر الله تعالى إلى أن توفي رضي الله عنه ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة عن ثلاث وستين من عمره فغسل ووضع على سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم , وصلى عليه صهيب ودفن في الحجرة الشريفة ورأسه عند كتفي أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكانت خلافته عشرين سنين وستة أشهر إلا يوماً واحداً .

جاهد رضي الله عنه في الله حق جهاده , وجيش الجيوش وفتح البلاد ومصر الأمصار , وأعز المسلمين والإسلام , وأذل الكفر وأجلى اليهود من بلاد الحجاز , كما أجلى نصارى نجران ويهودها من جزيرة العرب . كثرت في أيامه الفتوحات ووسع المسجد الحرام , وعمَر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم , والمسجد الأقصى , وهو أول من أمر بصلاة التراويح , وجمع الناس إليها , وأول من وضع الديوان , وفرق العطاء وأول من وضع التاريخ الإسلام , وأول من عس بالليل من الأمراء , واول من نهى عن بيع أمهات الأولاد , وأول من أثبت تحريم نكاح المتعة , وأول من جمع الناس في صلاة الجنازة على أربع تكبيرات وكانوا يكبرون أربعاً أو خمساً أو ستاً , وأول من حمل الذرة , وضرب بها , وأول من تسمى بأمير المؤمنين رضي الله عنه .

اجتماع أهل الشورى
بعد أن دفنوا عمر رضي الله عنه جمع أبو طلحة الأنصاري , والمقداد بن الأسود النفر الستة أهل الشورى في بيت المسور بن مخرمة , وقيل في بيت عائشة ودار بينهم الكلام فقال عبد الرحمن بن عوف : أيكم يخرج نفسه من هذا الأمر ؟ فترك الأربعة الأمر لعلي بن أبي طالب ,وعثمان بن عفان رضي الله عنهما . فلما كان اليوم الرابع استدعى عبد الرحمن علياً وعثمان وجمع المهاجرين والأنصار وأهل السابقة وأمراء الأجناد حتى غص المسجد بهم وقال عبد الرحمن لعلي : عليك عهد الله وميثاقة لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده في العسر واليسر فقال علي : أرجو أن أجتهد وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي , فقال لعثمان مثل ذلك فقال : (( اللهم نعم )) , فرفع عبد الرحمن رأسه إلى السقف المسجد ويده في يد عثمان وقال : (( اللهم أشهد قد جعلت ما في عنقي من ذلك في عنق عثمان بن عفان )) فبايعه الناس كلهم لثلاث ليال خلت من المحرم سنة (24) .

الثالث من الخلفاء الراشدين

هو أبو عمرو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي أمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس يلتقي بعمود النسب الشريف بعبد مناف . لقب بذي النورين لأنه تزوج بنتي سيد الكونين رقية وأم كلثوم . كان ربعة , حسن الوجه , أبيض , مشرباً بحمرة , بوجهه نكتات من أثر الجدري , كث اللحية , عظيم الكراديس بعيد ما بين المنكبين , طويل الذراعين , شعره كسا ذراعيه أصلع قد شد أسنانه بالذهب , كان خاتمه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر رضي الله عنهم فلما وقع منه الخاتم في بئر اريس اتحذ خاتماً نقشه (( آمنت بالذي خلق فسوى )).

وُلد بالطائف بعد الفيل بست سنين , أسلم قديماً على يد أبي بكر رضي الله عنهما وعمرو حينئذ تسع وثلاثون سنة , ثم هاجر مع زوجته رقية إلى الحبشة , ثم قدم مكة قبل الهجرة ومنها إلى المدينة قبل النبي صلى الله عليه وسلم . شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بدراً لأن زوجته رقية كانت مريضة فأمره صلى الله عليه وسلم أن يقيم بالمدينة ليمرضها وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بدر وأسهم له من غنائمهم .
بويع له بالخلافة بعد دفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بثلاث ليال سنة (24) , فأقر عمال عمر رضي الله عنه في الجهات أولاً , وولى سعد بن أبي وقاص على الكوفة , وعزل المغيرة بن شعبة وذلك بوصية عمر لأنه كان قد أوصى بتولية سعد وقال : (( لم أعزله عن سوء ولا خيانة )) .
ثم بعث جيشاً بإمرة سلمان بن ربيعة إلى بلاد ارمينية فذهبوا ودوخوا البلاد , ووصلوا الى ملطية , وسيوس , وقونية , وتفليس ’ فصالحه أهلها على الجزية وفتحوا عدة حصون ومدن وقاتلوا أكراد ( البوشنجان ) فظفروا بهم وفتحوا مدينة 
( سمكور ) وهي المتوكلية ثم ( شروان ) وسائر بلاد الجبال إلى الباب .
ثم غزا معاوية بلاد الروم حتى بلغ عمورية في خلافة عثمان وفي سنة ست وعشرين عزل عثمان بن عفان عمرو بن العاص من مصر وولى مكانه عبد الله بن أبي سرح وهو أخو عثمان من الرضاعة ,وأمره بغزو افريقية وكان قبله عمرو بن العاص غزا طرابلس الغرب وحصارها شهراً وكان بها الروم من جهة هرقل فاقتحموها ودخلوها وفتحوا مدينة صبره , وبرقة كانت تعرف قديماً ((انطابلس )).
ثم ان عثمان جهز جيشاً لغزو افريقيا وفيهم أجلاء من الصحابة كعبد الله بن عباس ,وابن عمرو , وابن جعفر , والحسن , والحسين , وابن الزبير , فساروا مع عبد الله بن أبي سرح سنة ست وعشرين ولقيهم عقبة بن نافع بمن معه من المسلمين ببرقة فبعثوا الطلائع في نواحي افريقية وكان ملك تلك الجهات جرجير من قبل هرقل يرسل إليه الخراج كل سنة , فلما بلغه الخبر جمع مائة وعشرين ألفاً ولقيهم من سبيطلة دار ملكه فدعوه إلى الاسلام او الجزية فاستكبر . وأرسل عثمان عبد الله بن الزبير بمدد فسمع جرجير بوصول المدد فخاف والتحم القتال وقد غاب عبد الله بن أبي سرح فسأل عنه عبد الله بن الزبير فقيل له : انه سمع منادي جرجير أن من قتل ابن أبي سرح فله مائة ألف دينار وزوجه ابنته فخاف وتأخر فقال عبد الله بن الزبير : تنادي أنت من قتل جرجير أعطيته مائة ألف دينار وزوجته ابنتك واستعملته على البلاد, فخاف جرجير أشد الخوف , واشتدت الحرب والتحم القتال وهجموا على خيام الروم فهزموهم وقتل منهم أناس كثير وقتل عبد الله بن الزبير جرجير وسبى ابنته وفتحوا سبيطلة ثم صالحه أهل افريقية على ألفي ألف وخمسمائة ألف دينار .

ولما رجع ابن أبي سرح إلى مصر خرج قسطنطين بن هرقل فغزا الاسكندرية في ستمائة مركب فركب المسلمون البحر مع ابن أبي سرح ومعه معاوية في أهل الشام فالتحم بين الفريقين القتال ودارت رحى الحرب في البحر حتى انهزم قسطنطين جريحاً وقد سميت هذه الغزوة غزوة الصواري لكثرة المراكب فيها . وكان لما ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه معاوية بن أبي سفيان على دمشق والأردن استأذن عمر بن الخطاب بأن يغزو البحر وبين له شأن قبرص فكتب عمر إلى عمرو بن العاص ان صف لي البحر وراكبه , فكتب إليه عمرو يقول : هو خلق كبير , يركبه خلق صغير ليس إلا السماء والماء , ان ركد فلق القلوب, وإن تحرك أزاغ العقول , يزداد فيه اليقين قلة, والشك كثرة , راكبه دود على عود, ان مال فرق , وإن نجا برق . فكتب عمر إلى معاوية والذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق لا أحمل عليه مسلماً أبداً ولمسلم واحد أحب إلي مما حوت الروم فإياك أن تتعرض لي في ذلك. فلما ولى عثمان الخلافة ألح معاوية عليه بعد أن ضم إليه حمص , وقنسرين , وفلسطين واجتمع الشام كله لمعاوية فأذن له بغزو البحر على اختيار الناس وطوعهم , فاختار جماعة من الصحابة الغزو فيه منهم أبو الدرداء , وعبادة بن الصامت , ومعه زوجته أم حرام بنت ملحان , وأمر عليهم عبد الله بن قيس فساروا إلى قبرص وجاء ابن أبي سرح من مصر واجتمعوا عليها وحاصروهم مدة ثم صالحهم أهلها على سبعة آلاف دينار كل سنة وان يكونوا عوناً للمسلمين على عدوهم وأن يكون طريق الغزو للمسلمين عليهم وذلك سنة (28) . وفي هذه الغزوة ماتت أم حرام بالساحل حين خرجت من البحر وقعت عن دابتها بعد ركوبها فماتت ولها قبر في جبانة في بيروت يتبرك به . وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرها بأنها تغزو البحر مع جيش من أهل الجنة . وأقام عبد الله بن قيس في البحر يغزو فغزا فيه نحو خمسين غزوة لم ينكب فيها إلى أن نزل في بعض الأيام بساحل المرفاً من أرض الروم فثاروا عليه فقتلوه ونجا الملاحون فجاء سفيان بن عوف على سفن إلى المرفاً فقاتلهم حتى أبادهم .

فصل

وفي سنة ثلاثين بلغ الخليفة عثمان بن عفان أنه وقع في العراق اختلاف في القرآن فكان البعض يقول قرآءتنا أصح لأنا قرأنا على أبي موسى, وكان أهل الشام يقولون قرآءتنا أصح فأنكر ذلك عثمان واستعظمه وحذر من وقوع اختلاف في القرآن , وكان عثمان من الحفظة فوافقه من حضر من الصحابة والتابعين وجاء حذيفة بن اليمان إلى عثمان وقال أنا النذير العريان أدرك الأمة . فجمع عثمان الصحابة فرأوا ما رآه حذيفة فأرسل أمير المؤمنين عثمان بن عفان إلى حفصة بنت عمران (( ابعثي إلينا بالمصاحف التي كتبت في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه )) . وكانت أولاً عند أبي بكر الصديق ثم عند عمر فصارت عند حفصة , فأخذها عثمان وأمر زيد بن ثابت , وعبد الله بن الزبير , وسعيد بن العاص, وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في مصاحف وقال لهم : ((ان اختلفتم في كلمة فاكتبوها بلسان قريش))يعني في الرسم , ففعلوا ونسخوا أربعة مصاحف فبعث أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى كل أفق من الآفاق بمصحف يكون مرجعاً وعمدة يعتمدون عليه فلم يقع بعد ذلك ولله الحمد خلاف في كلمة أبداً .

تمهيد
إعلم أنه لما تكاملت الفتوحات للأمة الاسلامية وقوي الملك في الأمصار على وجه الكرة الأرضية واختلطت العرب بالأمم والأقوام المختلفة اللغات والطباع, كان المختصون بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمقتدون بهديه وسيرته وسياسته من اجلاء المهاجرين والأنصار من قريش وأهل المدينة المنورة متمكنين بهديه صلى الله عليه وسلم وسيرته يعطون كل ذي حق حقه, معترفين بفضل بعضهم, وفضل السابقين الأولين , وأما سائر العرب من بني بكر بن وائل , وربيعة , والأزد وكندة , وقضاعة, وبني تميم وفزارة وغيرهم فهؤلاء وإن كانت لهم صحبة بيد أنهم لم يكن لهم قدم الصحبة الخاصة والهدي التام ليكونوا بمثابة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار, نعم ان لهؤلاء القبائل في الفتوحات قدماً عظيماً ويرون ذلك لهم , وان فضلائهم يقرون ويذعنون بفضل السابقين من الصحابة , لكن لما طالت المدة وقويت الدولة وكثرت الغنائم وحصلت الثروة والغنى غلبت الطبيعة البشرية فنسوا بعض الشيء وكانت بسائق الطبيعة البشرية عروق الجاهلية تنفض في بعض طباعهم , ووجدوا الرياسة عليهم للمهاجرين والأنصار لا سيما بنو أمية أنفت نفوسهم من ذلك ونزعت إلى العصبية العربية , ووافق ذلك أيام خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه فلذلك أظهروا الطعن في ولاة عثمان بالأمصار , وكانوا يأخذون بفلتات الأمراء باللحظات ويعظمونها , وفشت تلك المقالات بين الأهالي فصاروا ينادون بالجور والظلم من أمراء وولاة عثمان في الجهات والنواحي وانتهت هذه المقالات والتشكيات إلى كبار الصحابة بالمدينة , فارتابوا لذلك وتكلموا مع عثمان وطلبوا منه عزل بعض الأمراء تسكيناً للفتنة فبعث عثمان إلى الأمصار من يأتيه بصحيح الأخبار منهم محمد بن مسلمة إلى الكوفة , واسامة بن زيد الى البصرة , وعبد الله بن عمر إلى الشام , وعمار بن ياسر إلى مصر فذهبوا ورجعوا فقالوا : ما أنكرنا شيئاً .

فصل
وأما عمار بن ياسر فقد استماله قوم من رؤساء الفتنة الأشرار وأظهروا له أن مرادهم إظهار الحق فكانوا يبطنون ما في قلوبهم ويموهون للناس أنهم يريدون إظهار الحق والعدل لكن مرادهم بذلك إظهار الفتنة ليحصلوا على بغيتهم . وكان رئيسهم في ذلك الأمر عبد الله بن سباً يعرف بابن السوداء كان من يهود العراق نافق وأظهر الاسلام لإيقاع الفتن والانشقاق في الأمة الاسلامية , فلما عرفه أهل البصرة طردوه وأخرجوه منها , فذهب إلى الكوفة ثم إلى الشام فطُرد منهما, فذهب إلى مصر واستوطنها فكثرت جماعته هناك , وكان يكثر الطعن على عثمان وبني أمية ويدعو في السر لأهل البيت , ومراده انشقاق كلمة الاسلام .وهذا أول ظهور التشيع والشيعة . وكان يقول ان محمداً صلى الله عليه وسلم يرجع كما يرجع المسيح عليه السلام , وكان يقول للعامة: إن علي بن أبي طالب وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم , وإن الخلفاء أخذوا الخلافة بغير حق , ولم يكن هذا القول قبله يعرفونه . وكان يحرض الناس على القيام بذلك ويكثر الطعن على الأمراء , فاستمال إليه سفهاء الناس وجهالهم وكانوا يكاتبون بعضهم بعضاً .فتأخر عمار بن ياسر عن الرجوع إلى المدينة المنورة .
ورد في الحديث الصحيح عن حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينا نحن جلوس عند عمر إذ قال : أيكم يحفظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة ؟قال :فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصدقة , والأمر بالمعروف , والنهي عن المنكر قال : ليس عن هذا أسألك , لكن التي تموج كموج البحر , قال : ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين , ان بينك وبينها بابا مغلقا , قال عمر :أيكسر الباب أم يفتح ؟ قال : لا بل يكسر , قال عمر: إذا لا يغلق أبداً, قلت : أجل, قلنا لحذيفة: أكان عمر يعلم الباب ؟ قال : نعم كما أعلم أن دون غد ليلة, وذلك أني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط فهبنا أن نسأله من الباب فأمرنا مسروقاً فسأله فقال : من الباب ؟ قال : عمر بن الخطاب )) .

فصل
ثم كثر الطعن والقيل والقال في المدينة وكتب رؤساء الفتنة إلى جماعتهم في الأمصار يستقدمونهم إلى المدينة فخرج من أهل مصر نحو خمسمائة , ومن الكوفة كذلك , ومن البصرة كذلك ودخلوا إلى المدينة مظهرين الحج مجمعين باطناً على السوء بعثمان رضي الله عنه فأرسل إليهم عثمان المغيرة بن شعبة , وعمرو بن العاص يدعونهم إلى الحق وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فردوهما أقبح رد واقترح المصريون على عثمان بأن يعزل عبد الله بن أبي سرح ويولي عليهم محمد بن أبي بكر الصديق فأجبهم عثمان إلى ذلك, فارسل لهم علياً يتكلم معهم فولى عثمان محمد بن أبي بكر الصديق وانصرفوا وتفرقوا قاصدين محلاتهم , فلما وصل المصريون إلى ايلة وجدوا رجلاً راكباً على ناقة عثمان فمسكوه وفتشوه فوجدوا معه كتاباً مختوماً بخاتم عثمان مصطنعاً عليه مضمونه : 
(( من عثمان بن عفان إلى عبد الله بن أبي سرح إذا قدم عليك محمد بن أبي بكر وفلان وفلان فاقطع أيديهم وأرجلهم وارفعهم على جذوع النخل )) فأخذ الكتاب محمد بن أبي بكر ووضعه في كيس وختموه ورجع المصريون ومعهم محمد بن أبي بكر حتى دخلوا المدينة , ورجع أهل الكوفة والبصرة إلى المدينة ثم أخبروا علياً وطلحة والزبير وكبار الصحابة بالكتاب فأخبروا عثمان بذلك فحلف عثمان أنه ما فعله ولا أمر به فما شعر أهل المدينة إلا أنهم هجموا وأحاطوا ببيت عثمان ونادوا بأمان من كف يده. فقال لهم علي رضي الله عنه: ما ردكم بعد ذهابكم؟ قالوا : قد أخذنا كتاباً من بريد بقتلنا فقال لأهل الكوفة والبصرة :كيف علمتم بما لقي أهل مصر وكلكم على مراحل حتىرجعتم علينا جميعاً, هذا أمر أبرم بليل . وبقي الحصار أربعين يوماً حتى منعوه الماء أو يسلمهم مروان فغضب علي وأرسل له ماء وأرسل الحسن والحسين وجماعة من أولاد الصحابة يحرسون بيت عثمان خوف الهجوم عليه وهاجت المنحرفون يقتحمون باب عثمان فمنعهم الحسن والحسين والزبير وطلحة وغيرهم ثم تسوروا واقتحموا الدار من دار عمرو بن حزم فلم يشعر الذين على الباب. ودخل محمد بن أبي بكر وتكلم مع عثمان وحاوره أن يسلمه مروان فقال له عثمان : لو رآك أبوك أبو بكر ما رضي ذلك فاستحى وخرج .ثم دخل عليه سفهاء الفتنة فضربه أحدهم بالسيف فأكبت عليه نائلة زوجته فقطعت أصابع يدها ,ثم قتلوه رضي الله عنه وهاجت الفتنة وقتل بعض قاتليه وانتهبوا البيت . ويقال : ان الذي تولى قتله كنانة بن بشر النجيبي وعمرو بن الحمق وذلك يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين . وبقي في بيته ثلاثة أيام , ثم جاء حكيم بن حزام , وجبير بن مطعم إلى علي فأذن بتجهيزه ودفنه فدفن بين المغرب والعشاء في حش كوكب وهو بستان كان اشتراه عثمان رضي الله عنه وأدخله في بقيع الغرقد وكانت خلافته اثني عشرة سنة إلا يوماً .
قال عثمان رضي الله عنه قبل قتله اني رأيت البارحة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأبا بكر وعمر فقالوا لي :اصبر فإنك تفطر عندنا القابلة.
وهذه الحادثة أول الفتن التي تموج كموج البحر كما تقدم .

الرابع من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين

هو أبو الحسن علي بن أبي طالب عبد مناف عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم , أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم وُلد قبل البعثة بعشر سنين وتربى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وفي بيته , أول من أسلم بعد خديجة وهو صغير وأخفى إسلامه مدة خوفاً من أبيه , كان يلقب حيدرة وكناه النبي صلى الله عليه وسلم أبا تراب وكانت أحب الكنى إليه . ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة أمر علياً أن يبيت على فراشه وأجله ثلاثة أيام ليؤدي الأمانات التي كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابها ثم يلحق به إلى المدينة فهاجر من مكة إلى المدينة المنورة ماشياً , شهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا غزوة تبوك واصطفاه النبي صلى الله عليه وسلم صهراً له وزوجه بنته فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين , واتخذه أخاً لنفسه حين آخى بين أصحابه , وأعطاه اللواء يوم خيبر ففتحها , واقتلع باب الحصن , وقتل مرحبا صاحب خيبر. كان رضي الله عنه وكرم وجهه آدم اللون , ادعج العينين عظيمها , حسن الوجه , ربعة القد , عظيم الكراديس بطيناً , كثير الشعر , عريض اللحية , أصلع الرأس , ضحوك السن , أشجع الصحابة وأعلمهم في القضاء , وأزهدهم في الدنيا لم يسجد لصنم قط رضي الله عنه .

لما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه اجتمع طلحة والزبير وأكثر المهاجرين والأنصار وأتوا علياً ليبايعوه فأبى وقال : (( أكون وزيراً لكم خيراً من أن أكون أميراً ومن اخترتم رضيته )) . فألحوا عليه وقالوا : لا نعلم أحداً أحق منك ولا نختار غيرك , فخرجوا به إلى المسجد وبايعوه وكان أول من بايعه طلحة , ثم الزبير , ثم بايعه الناس . وكان رضي الله عنه لما خرج إلى المسجد للمبايعة قال : هذا أمركم ليس لأحد حق إلا من أردتم وقد افترقنا أمس وأنا كاره فأبيتم إلا أن أكون عليكم , فقالوا : نحن على ما افترقنا عليه بالأمس ,
قال : (( اللهم اشهد )) . ثم بعد المبايعة خطب الناس ووعظهم ثم دخل بيته وذلك يوم الخميس لخمس بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين .

فصل

ثم ظهر القول واللغط في قتل الخليفة عثمان وإقامة الحد والقود على من قتله فقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : لا قدرة لي الآن على ما تريدون حتى يهداً الناس وننظر الأمور فتؤخذ الحقوق . وهرب مروان وبنو أمية إلى الشام , وأشار المغيرة بن شعبة على أمير المؤمنين أن يبقي العمال والولاة حتى يستقر الأمر فأبى إلا أن يعزلهم , ثم جاء المغيرة في الغد وسأله فأشار عليه بعزل العمال , فجاء ابن عباس وأخبره بخبر المغيرة فقال : نصحك في الأمس وغشك اليوم . قال علي : فما الرأي عندك ؟ قال : تقر معاوية الآن , فقال علي رضي الله عنه : والله لا أعطيه إلا السيف , قال ابن عباس : أنت رجل شجاع ولست صاحب رأي في الحرب أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم 
يقول : (( الحرب خدعة )) قال : بلى , قال ابن عباس : والله ان أطعتني لأتركنهم ينظرون في دبر الأمور ولا يعرفون ما كان في وجوههم من غير نقصان عليك , فقال علي : يا ابن عباس لست من هنيئاتك وهنيئات معاوية في شيء , فقال ابن عباس : أطعني والحق بمالك بينبع وأغلق بابك فأن العرب تجول وتضطرب فلا تجد غيرك وان نهضت مع هؤلاء القوم يحملك الناس دم عثمان غداً فأبى علي 
{ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً } قال علي لابن عباس : سر إلى الشام فقد وليتكم , قال : إذن يقتلني معاوية . وكان المغيرة يقول : نصحته فلم يقبل . ثم ان معاوية جمع جندا ليطالب بدم عثمان فبلغ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال :
(( اللهم اني أبرأ إليك من دم عثمان )) وعزم على الخروج من المدينة إلى الشام وأمر بالتجهيز ودفع اللواء إلى ولده محمد بن الحنفية واستخلف على المدينة تمام بن العباس وعلى مكة قسم بن العباس وذلك سنة 
(( 36 )) فلقيه عبد الله بن سلام فقال : يا أمير المؤمنين لا تخرج من المدينة فوالله لئن خرجت منعا لا يعود إليها سلطان المسلمين أبداً . فبدر الناس إليه فقال : دعوه فنعم الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . ولحقه ابنه الحسن عليه السلام ولامه وعذله في خروجه فلم يقبل منه وتوجه أمير المؤمنين بالجنود قاصداً الكوفة .

فصل
وأما خبر وقعة الجمل فإن عائشة كانت قد خرجت من المدينة إلى مكة وعثمان محصور في بيته فقضت نسكها وأرادت الرجوع إلى المدينة فبلغها أن عثمان قد قتل فتأسفت أسفاً شديداً وقالت : قتل عثمان مظلوماً , ورجعت إلى مكة فاجتمعت الغوغاء من القبائل وأهل الأمصار وتكلم معها طلحة والزبير في مداركة هذه الأمر , وأركبها يعلى بن منبه جملاً اسمه عسكر كان اشتراه بمائة دينار وتوجهوا من مكة بنحو ثلاثة آلآف فيهم مروان , وطلحة , والزبير , وابان , والوليد ولدا عثمان يطالبون بدم عثمان حتى مروا بمحل فنبحت عليهم كلاب فسألت عائشة ما اسم هذا المحل قالوا : ماء الحوأب فقالت : ردوني وأناخت بعيرها , وقالت :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وعنده نسأؤه (( ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب )) .

وأقامت بهم يوماً وليلة إلى أن قيل النجاء النجاء قد أدرككم علي بالعسكر فارتحلوا نحو البصرة فجاء القعقاع فبدأ بعائشة فقال : أي أماه ما أشخصك؟ قالت :
أريد الاصلاح بين الناس وقرأت { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } ثم ذهب إلى طلحة والزبير وقال لهما : سألت أم المؤمنين ما أقدمها فقالت .الاصلاح , قالا: كذلك قال : فأخبروني ما هو الاصلاح ؟ قالا : قتلة عثمان فإن تركهم ترك للقرآن قال :فقد قتلتم منهم ستمائة من أهل البصرة فغضب لهم ستة آلاف واعتزلوكم وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف فإن قاتلتم هؤلاء كلهم اجتمعت مضر وربيعة على حربكم فأين الاصلاح ؟ قالت عائشة : فما تقول أنت ؟ قال : هذا الأمر دواؤه التسكين , فإن سكن سكنت الأمور فآثروا العافية ترزقوها , وكونوا مفتاتيح خير ولا تعرضونا للبلاء فنتعرض له فيصرعنا وإياكم, قالوا , قد أصبت وأحسنت فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح الأمر. فرجع القعقاع وأخبر علياً فأعجبه وأشرف القوم على الصلح . ثم خطب أمير المؤمنين وأمرهم بالرحيل من الغد وأرادوا الانصراف فحضر قبائل من العرب بنو بكر بن وائل , وعبد القيس وأشاروا على علي بالمناجزة واجتمع جماعة على الزبير وأشاروا عليه بالمناجزة فاعتذر كل منهما بما وقع بينه وبين القعقاع. ثم اجتمع علي والزبير فقال له علي : أما بايعتني ؟ قال: نعم والسيف على عنقي( يعني من أصحاب الفتنة الموجودين في المدينة وقت قتل عثمان ) . ثم قال علي للزبير : أتذكر يوم قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لتقاتلنه وأنت له ظالم )) فقال : اللهم نعم ولو ذكرت قبل مسيري ما سرت ووالله لا أقاتلك أبداً , فقال علي : لأصحابه ان الزبير قد عهد أن لا يقاتلكم . ورجع الزبير إلى عائشة وقال : ما كنت في موطن منذ عقلت إلا وأنا أعرف أمري غير موطني هذا , قالت : فما تريد أن تصنع ؟ قال : ادعهم واذهب . وكان مع عائشة من قبائل العرب نحو ثلاثين ألفاً ومع علي رضي الله عنه نحو عشرين ألفاً كلهم مسلمون فبات الذين يحبون الفتنة من الفريقين يتشاورون فاتفقوا على إنشاب الحرب بين الناس فجاؤا في الغلس ولا يشعر بهم أحد وباشروا الحرب فبعث طلحة والزبير رجلاً يسأل ما هذا الذي وقع , وسمع علي الضجة فقال : ما هذا ؟ وركب ونادى في الناس أن كفوا فلم يرجعوا والتحم القتال حتى انهزم أصحاب الجمل وأصيب طلحة بسهم في رجله ودخل البصرة إلى أن توفي رضي الله عنه سنة ست وثلاثين عن ست وستين سنة من عمره . وهو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب به سعد بن تميم بن مرة لقب طلحة الخير والجواد والفياض وهو من العشرة المبشرين بالجنة ومن السابقين , أسلم هو وأبو بكر فأخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية وكان شديداً قوياً فشدهما في حبل ليمنعهما عن الصلاة فلما جاء وقت صلاتهما انحل الحبل فانطلقا يصليان فلذا كانا يسميان القرينين .
هاجر وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشهد بدراً لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أرسله مع سعيد بن زيد إلى طريق الشام يتجسان الأخبار فلما رجع قال له النبي صلى الله عليه وسلم : لك أجرك وسهمك )) وأبلى يوم أحد بلاءً عظيماً , ووقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه كان يتقي عنه النبل بيده حتى شلت يده وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهره ليصعد الضخرة فيراه الصحابة , وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين الزبير بمكة , وبينه وبين أبي أيوب بالمدينة , كان من أغنياء الصحابة كانت غلته كل يوم ألف دينار ,فلما رآه علي رضي الله عنه جعل يمسح التراب عن وجهه ويقول : عزيز علي أبا محمد أن أراك مجندلاً تحت نجوم السماء , إلى الله أشكو عجري وبجري وترحم عليه . قيل رأه رجل في المنام يقول له : حولوني فقد أذاني الماء , رأى ذلك ثلاث ليال فأخبر ابن عباس فحفروه فإذا شقه الذي يلي الأرض قد اخضر من نز الماء ولم يتغير جسمه فاشتروا له داراً بالبصرة ودفنوه فيها . ثم ذهب الزبير إلى وادي السباع بعد أن ذكره علي رضي الله عنه فمر بعسكر الأحنف وتبعه ابن الجرموز فكان يؤانسه ويسالمه حتى إذا قام يصلي غدر به فقتله , ورجع بفرسه وسلاحه وخاتمه إلى الأحنف فقال : والله ما آدري أأحسنت أم أسأت , وجاء عمرو بن الجرموز إلى علي رضي الله عنه وقال للحاجب : استأذن لقاتل الزبير , فقال علي : (( بشره بالنار )) ولم يأذن له . وهو أبو عبد الله الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي أمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أخي خديجة جدة الأشراف , أسلم بعد أبي بكر بزمن يسير وهو ابن خمسة عشر سنة وهو حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر الهجرتين , وأول من سل سيفاً في سبيل الله , شهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها , وفتح مصر كان من الأغنياء الأسخياء . كان له ألف مملوك يؤدون إليه خراجهم فكان يتصدق به وعمره سبع وستون سنة .

فصل
ولما بلغت الهزيمة البصرة ورأوا الخيل طافت بالجمل وشبت الحرب ورموا الهودج بالنبال , وصارت عائشة تستغيث , وتكثر الدعاء على قتلة عثمان , وضج الناس بالدعاء فقال علي رضي الله عنه : ما هذا؟ قالوا : يدعون على قتلة عثمان , فقال :
(( اللهم العن قتلة عثمان )) وأحاطوا بالهودج يحمونها وهم يتساقطون من السهام فنادى علي اعقروا الجمل يتفرقوا فضربه رجل فسقط الجمل له صوت شديد . وجاء القعقاع وزفر بمن معهما وحملوا الهودج ووضعوه على الأرض وهو كالقنفذ من السهام وأمر علي رضي الله عنه بحمل الهودج من بين القتلى وأمر محمد بن أبي بكر أن يضرب عليها قبة وينظر هل بها جراحات . وأتاها علي رضي الله عنه وعنها فقال : كيف أنت يا أمه , قالت : بخير قال : غفر الله لكِ , قالت : ولك. وجاء وجوه الناس إليها وفيهم القعقاع بن عمرو فسلموا عليها فقالت : وددت أني مت قبل اليوم بعشرين سنة .وقال علي رضي الله عنه مثل قولها .ولما دخل الليل أدخلها أخوها محمد البصرة إلى بيت صفية بنت الحارث بن أبي طلحة من بني عبد الدار ام طلحة الطلحات . ثم صلى علي على القتلى من الجانبين وكانوا نحو عشرة آلاف قتيل . ثم دخل البصرة فبايعه أهلها , وبلغه أن بعض أهل الغوغاء عرض لعائشة بالقول والاساءة فأحضرهم وأوجعهم ضرباً . ثم جهزها علي رضي الله عنه إلى المدينة بما احتاجت إليه وبعثها مع أخيها محمد وأرسل معها أربعين من نسوة البصرة لمرافقتها , وجاء يوم ارتحالها فودعها واستعتبت له واستعتب لها , ومشى معها أميالاً وشيعها بنوه مسافة يوم , وذلك في غرة رجب فذهبت إلى مكة فقضت الحج ثم رجعت إلى المدينة .

فصل

وأما خبر وقعة صفين (( وهو موضع قريب من الرقة على شاطئ الفرات )) فإنه لما كانت محاصرة عثمان بالمدينة خرج عمرو بن العاص منها إلى فلسطين ومعه ابناه عبد الله ومحمد فلما بلغه الخبر بقتل عثمان ارتحل يبكي كما تبكي النساء , وقصد دمشق وبلغه بيعة علي فاشتد الأمر عليه وأقام ينتظر ما يفعله الناس , ثم بلغه سير عائشة وطلحة والزبير وسمع أن معاوية بالشام لم يبايع علياً رضي الله عنه فستشار ابنيه في المسير إلى معاوية , فقال له عبد الله : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والشيخان بعده وهم راضون عنك فأرى أن تكف يدك وتجلس في بيتك حتى تجتمع الناس , وقال له محمد : أنت ناب من أنياب العرب فكيف يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صيت , فقال: يا عبد الله أمرتني بما هو خير لي في ديني , ويا محمد أمرتني بما هو خير لي في دنياى وشر لي في آخرتي .

فلما رجع علي رضي الله عنه من وقعة الجمل إلى الكوفة أجمع على التوجه إلى الشام بعسكره , وقد كان عسكر معاوية سلك شريعة الفرات فشكى الناس إلى علي العطش فبعث صعصعة بن صوحان إلى معاوية بأنا سرنا ونحن عازمون على الكف عنكم حتى نعذر إليكم فسابقنا جندكم بالقتال ورأينا الكف حتى ندعوك ونحتج عليك وقد منعتم الماء والناس غير منتهين فابعث إلى أصحابك يخلون عن الماء حتى ننظر بيننا وبينكم . فأشار عمرو بتخلية الماء وأشار ابن أبي سرح والوليد بن عقبة بمنع الماء فتشاتم معهم صعصعة ورجع وجاء الأشعت بن قيس إلى الماء فقاتلهم وجاء عليه الأشتر بجماعته فملكوا الماء وأرادا منعهم منه فنهاهم علي رضي الله عنه عن ذلك وأقاموا يومين . 

ثم بعث علي إلى معاوية يدعوه إلى الطاعة وذلك أول ذي الحجة سنة ست وثلاثين فدخلوا على معاوية وتكلم معه بشير بن عمرو بعد أن حمد الله وأثنى عليه أمره بالموعظة الحسنة وناشده الله أن لا يفرق بين الجماعة ولا يسفك الدماء فقال : هلا أوصيت صاحبك بذلك , فقال : بشير ليس مثلك هو أحق بالأمر بالسابقة والقرابة , قال : فما رأيك ؟ قال : تجيبه إلى ما دعا إليه بالحق , قال معاوية : ونترك دم عثمان لا والله لا أفعله أبداً فقال شيت بن ربعي : يا معاوية إنما طلبت دم عثمان تستميل به هؤلاء السفهاء الطغام إلى طاعتك , ولقد علمنا أنك أبطأت على نصرة عثمان لطلب هذه المسألة فاتق الله ودع عنك ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله , فأجابه معاوية بما لا يرضي , وقال : انصرفوا فليس بيني وبينكم إلا السيف , فقال شيت : اقسم بالله لنعجلنها لك , ورجعوا إلى علي بالخبر فأقاموا يقتتلون ثم جاء المحرم فذهبوا إلى الموادعة حتى ينقضي طمعاً في الصلح , ثم جرت المخابرات والانذارات والمواعظ من أمير المؤمنين رضي الله عنه إلى معاوية وهو يطاول ويطلب قتلة عثمان فلما انسلخ المحرم نادى أمير المؤمنين في الناس بالقتال وعبى الكتائب وقال : لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم , فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً , ولا تجهزوا على جريح , ولا تكشفوا عورة, ولا تمثلوا, ولا تأخذوا مالاً , ولا تهيجوا امرأة وان شتمتكم فإنهن خساف الأنفس والقوى , ثم حرضهم ودعا لهم , وكان مع علي رضي الله عنه تسعون ألفاً وكان مع معاوية مائة وعشرون ألفاً كلهم مسلمون فابتداؤا القتال مناوبة قبيلة لقبيلة إلى خمسة أيام , وخرج عمار بن ياسر وقال : اللهم إني لا أعمل عملاً أرضى منجهاد هؤلاء الفاسقين , ثم نادى من سعى في رضوان الله فلا يرجع إلى مال ولا ولد فأتاه عصابة فقال : اقصدوا بنا هؤلاء الذين يطالبون بدم عثمان يخادعون بذلك عما في نفوسهم من الباطل , حتى دنا من عمرو بن العاص وقال : يا عمرو بعت دينك بمصر تباً لك , فقال : إنما أطلب دم عثمان , قال : أتشهد انك لا تطلب وجه الله ؟ فالتحم القتال حتى قتل عمار بن ياسر بن عامر المدلجي ثم العنسى من اجلاء الصحابة ومن السابقين هو وأبوه وأمه شهد بدراً وأحداً والخندق وبيعه الرضوان . قال صلى الله عليه وسلم : (( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن أم عبد وقال : (( من عادى عماراً عاداه الله ومن أبغض عماراً أبغضه الله )) فلما قتل عمار حمل علي رضي الله عنه ومعه ربيعة ومضر وهمدان حملة شديدة يقولون : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم 
(( ويح عمار تقتله الفئة الباغية )) فلم يبق لآهل الشام صف الإ انتفض حتى بلغوا معاوية فناداه علي : علام يقتل الناس بيننا هلم أحاكمك إلى الله فأينا قتل صاحبه استقام له الأمر , فقال عمرو : أنصفك , قال معاوية : لكنك ما أنصفت , ثم اشتد القتال وخرج الأشتر وقتل صاحب رايتهم فلما رآى عمرو شدة أهل علي وخاف من الهلاك قال لمعاوية : مر الناس يرفعوا المصاحف على الرماح ويقولوا : كتاب الله بيننا وبينكم فإنه يرتفع القتال , ففعلوا فقال الناس : نجيب إلى كتاب الله , وقال علي : يا عباد الله امضوا على حقكم فإن معاوية وابن أبي معيط وابن أبي سرح والضحاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن أنا أعرف بهم صحبتهم أطفالاً ورجالاً فكانوا شر أطفال وشر الرجال , ويحكم والله ما رفعوها إلا مكيدة وخديعة , فقالوا : لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فلا نقبل , فقال : إنما قاتلناهم ليدينوا بكتاب الله , فقال مسعر بن فك التيمي وزيد بن حصين الطائي في عصابة صاروا بعد ذلك خوارج يا علي : أجب إلى كتاب الله وإلا دفعنا برمتك إلى القوم وفعلنا بك ما فعلناه بابن عفان , فقال : ان تطيعوني تقاتلوا , وان تعصوني فافعلوا ما بدا لكم قالوا : فابعث إلى الاشتر فكفه عن القتال فبعث إليه فأبى وقال قد رجوت أن يفتح الله لي , وبعث الأشعث بن قيس إلى معاوية لأي شئ رفعتم المصاحف قال لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله في كتابه تبعثون رجلاً ترضونه ونحن نبعث رجلاً آخر ونأخذ عليهما أن يعملا بكتاب الله ثم نتبع ما اتفقا عليه فقال الأشعث رضينا وقبلنا فرضي أهل الشام عمرو بن العاص فقال الأشعث والقراء الذين صاروا خوارج :
رضينا بأبي موسي الأشعري , فقال علي : لالا أرضاه , فقالوا : لا نرضى إلا به , فقال علي : إنه فارقني, فقالوا : لا نرضى إلا رجلاً هو منك ومن معاوية سواء قال : فاصنعوا ما بدا لكم , فبعثوا إلى أبي موسى وكان قد اعتزل القتال فقالوا له ,ان الناس قد اصطلحوا فحمد الله قالوا :وقد جعلوك محكماً فاسترجع , وجاء أبو موسى العسكر وطلب الأحنف بن قيس من علي أن يكون معه فأبى الناس ذلك . وحضر عمرو بن العاص عند علي لكتابة القضية فكتبوا بعد البسملة :
((هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين , فقال عمرو : ليس هو بأميرنا , فقال الأحنف : اني أتطير بمحوها فمكث ملياً فقال الأشعث : امحها , فقال علي رضي الله عنه ( الله أكبر ) , وذكر قصة الحديبية وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : (( إنك ستدعى إلى مثلها فتجيبها )) . فكتب هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قاضى علي على أهل الكوفة ومن معهم ومعاوية على أهل الشام ومن معهم انا ننزل عند حكم الله وكتابه ,وان لا يجمع بننا غيره وان كتاب الله بيننا من فاتحته الى خاتمته , نحيي ما أحيا ونميت ما أمات مما وجد الحكمان في كتاب الله وهما أبو موسى عبد الله بن قيس , وعمرو بن العاص , وما لم يوجد في كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة , وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق انهما آمنان على أنفسهما وأهلهما والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة ولا يورداها في حرب ولا فرقة حتى يقضيا. ثم أجلا القضاء إلى شهر رمضان وان مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام , وشهد رجال من أهل العراق ورجال من أهل الشام ووضعوا خطوطهم في الصحيفة وارخوا الكتاب لثلاث عشرة خلت من صفر سنة (37 ) واتفقوا على أن يوافي على موضع الحكمين بدومة الجندل أو باذرح في شهر رمضان . ورجع علي رضي الله عنه وقومه حتى دخلوا الكوفة ولم يدخل معه الطائفة التي صارت فيما بعد من الخوارج ورجع الناس من صفين وكان إقامة الجميع بصفين مائة وعشرة أيام كان فيها بين الفريقين تسعون وقعة واحصيت القتلى من الجانبين فكانوا من قوم معاوية خمسة وأربعين ألفاً , ومن قوم علي رضي الله عنه خمسة وعشرين ألفاً من صحابة وتابعين , منهم ست وعشرين رجلاً من أهل بدر , وإلى الله المشتكى وإليه يرجع الأمر كله .

أعلم أن ما تقدم وحصل بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين معاوية بن أبي سفيان وأصحابهما من القيل والقال والمحاربة والجدال الناشئ عن العصبية البشرية والحمية الدينية لا يخرج علياً عن الكمال والاسلام , ولا ينقص فضل صحبته بخير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام , على أن معشر أهل الحق من أهل السنة والجماعة يعتقدون أن معاوية كان مخطئاً , بغى على الامام الحق علي بن أبي طالب لسبق البيعة والخلافة له رضي الله عنه , وهو مصيب بمحاربة معاوية وأصحابه بحكم قتال أهل البغي من المسلمين , ولذا لم يعاملهم معاملة المرتدين , ولا الكافرين وان عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم قد رجعوا عن خطأهم بخروجهم في وقعة الجمل على أمير المؤمنين وقد ندموا على خروجهم متأسفين والندم توبة من الخطيئة , فاتبع الحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله والله اعلم .

فصل

وأما قصة الخوارج فإنه لما دخل علي رضي الله عنه الكوفة لم يدخل معه الحوارج بل ذهبوا إلى حروراء (( قرية من أعمال الكوفة )) فنزلوا بها وكانوا اثني عشرألفاً وخرجوا على علي ومعاوية وعلى الناس كلهم لكونهم رضوا بالتحكيم , وجعلوا عبيد الله بن الكوا اليشكري أميراً عليهم فبعث علي عبد الله بن عباس فقال لهم عبد الله : ما نقمتم من أمر الحكمين وقد أمر الله بهما بين الزوجين فكيف بالأمة , فقالوا له : لا يكون هذا بالرأي والقياس , قال ابن عباس : قال الله تعالى : { يحكم به ذوا عدل منكم } قالوا : والأخرى كذلك وليس أمر الصيد والزوجين كدماء المسلمين : ثم جاء علي رضي الله عنه فقال لهم : من زعيمكم ؟ قالوا : ابن الكوا , قال : فما هذا الخروج ؟ قالوا : لحكومتكم يوم صفين , قال : أنشدكم الله أتعلمون أنه لم يكن برأيي وإنما كان برأيكم مع أني اشترطت على الحكمين أن يحكما بحكم القرآن فإن فعلا فلا ضير وان خالفا فلا خير ونحن برآء من حكمهم , قالوا : فتحكيم الرجال في الدماء عدل ؟ قال : إنما حكمنا القرآن إلا أنه لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال , قالوا : فلم جعلتم الأجل بينكم ؟ قال : لعل الله تعالى يأتي فيه بالهدنة بعد افتراق الأمة فرجعوا إلى رأيه .

فصل
ولما انقضى الأجل وحان وقت اجتماع الحكمين بعث علي رضي الله عنه أربعمائة رجل فيهم أبو موسى وعبد الله بن عباس ليصلي بالناس ولم يحضر علي رضي الله عنه , وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة رجل وجاء معاوية واجتمعوا بدومة الجندل وشهد معهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والمغيرة بن شعبة واجتمع الحكمان وتفاوضا , فطلب عمرو من أبي موسى أن يجعل الأمر إلى معاوية فأبي وقال : لم أكن أوليه وادع المهاجرين الأولين ,وطلب أبو موسى من عمرو أن يجعل الأمر إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب فأبي عمرو فقال عمرو : ما ترى أنت ؟ قال : أرى أن نترك علياً ومعاوية ونجعل الأمر شورى بين المسلمين يختارون من يشاُؤن , فأظهر له عمرو أن هذا هو الرأي , ثم أقبلا على الناس وقد اجتمعوا ينتظرون وكان عمرو قد عهد إلى أبي موسى أن يتقدمه في الكلام لما له من الصحبة والسن , فقال : يا أبا موسى أعلم الناس أن رأينا , قد اتفق , فقال : انا رأينا أمراً نرجو الله أن يصلح به الأمة فجاء إليه عبد الله بن عباس وقال له : ويحك أظنه خدعك فاجعل له الكلام قبلك , فأبي , فصعد أبو موسى وقال : أيها الناس إنا نظرنا في أمر الأمة فلم نر أصلح لهم مما اتفقنا عليه , وهو أن نترك علياً ومعاوية ويولي الناس أمرهم من أحبوا واني قد تركتهما فولوا من رأيتموه أهلا , فجاء عمرو وقال : إن هذا قد ترك صاحبه وقد تركته كما تركه وأثبت معاوية فهو ولي ابن عفان وأحق الناس بمقامه , فقال له أبو موسى : لا وفقك الله مالك غدرت وفجرت . وركب أبو موسى ولحق بمكة حياءً , وانصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلموا عليه بالخلافة ورجع عبد الله بن عباس بالخبر إلى علي رضي الله عنه فمن ذلك أخذ أمر علي بالضعف وأمر معاوية بالقوة .

فصل 
ولما عزم علي رضي الله عنه أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه زرعة بن البرح الطائي وحرقوص بن زهير السعدي من الخوارج فقالا لعلي : تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم , فقال علي : قد كتبنا بيننا وبينهم كتاباً وعاهدناهم فقال حرقوص : ذلك ذنب ينبغي التوبة منه , فقال علي : ليس بذنب ولكنه عجز عن الرأي , فخرجا من عنده يناديان لا حكم إلا لله , فخطب علي يوماً فتنادوا من جوانب المسجد لا حكم إلا لله , فقال علي : الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل , فقال علي : أما ان لكم ثلاثاً ما صحبتمونا لا نمنعكم مساجد الله تذكرون فيها اسمه , ولا نقاتلكم حتى تبدأونا , وننظر فيكم أمر الله .

ثم اجتمع الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسبي فوعظهم وحرضهم على الخروج إلى بعض النواحي لإنكار هذه البدعة بزعمهم وتبعهم حرقوص بن زهير واختاروا منهم عبد الله بن وهب فبايعوه وذلك لعشر خلت من شوال سنة ( 37 ) .
ولما عزموا على المسير وكان علي رضي الله عنه قد جمع الجيوش لقتال أهل الشام بلغه أن الناس يرون قتال الخوارج أولاً اهم من قتال أهل الشام فقال علي : ان قتال أهل الشام اهم لانهم يقاتلونكم ليكونوا ملوكاً جبارين ويتخذون عباد الله خولاً فرجعوا إلى رأيه . فبينما هو على عزم المسير إلى أهل الشام بلغه أن الخوارج لقوا عبد الله بن خباب من الصحابة فعرفهم بنفسه فسألوه عن أبي بكر وعمر فأثنى خيراً , ثم سألوه عن عثمان أول خلافته وآخرها فقال : كان محقاً في الأول والآخر ,وسألوه عن علي قبل التحكيم وبعده فقال : هو أعلم بالله وأشد توقياً على دينه فذبحوه وبقروا بطن زوجته ,فتأسف علي من ذلك فبعث رجلاً لينظر فيما بلغه فقتلوه فقال أصحابه : كيف ندع هؤلاء ونأمن غائلتهم ؟ فوافقهم علي رضي الله عنه وساروا إلى الخوارج فلما التقوا شرع
(رضي الله عنه) بوعظهم وتحذيرهم , ثم قال : من انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن , فاعتزل منهم نحو خمسمائة وخرج منهم آخرون إلى الكوفة , ورجع منهم آخرون إلى علي , وبقي منهم نحو ألف وثمانمائة فحمل عليهم حملة فهلكوا كلهم في ساعة واحدة. فأمر علي أن يلتمس الرجل المخدوع في قتلاهم وهو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فوجدوه في القتلى فقال علي رضي الله عنه :
الله أكبر , وأخذ ما في عسكرهم من السلاح والدواب فقسمه بين المسلمين ورد عليهم المتاع والاماء والعبيد .

تبيين

روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ذات يوم قسماً فقال ذو الخويصرة _ وهو رجل من بني تميم_ يا رسول الله أعدل , فقال : ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل , فقال عمر رضي الله عنه: أيذن لي أن أضرب عنقه فقال : لا ان له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كمروق السهم من الرمية , ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء , وينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء , وينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء , ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء, سبق الفرث والدم يخرجون على حين فرقة من الناس , آيتهم رجل إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر قال أبو سعيد : أشهد لسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأشهد أني كنت مع علي رضي الله عنه حين قاتلهم فالتمس في القتلى فأتي به على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذو الخويصرة التميمي اسمه حرقوص بن زهرة المتقدم وهو أصل الخوارج . وهو غير ذو الخويصرة اليماني الذي بال في المسجد وقال للنبي صلى الله عليه وسلم :
(( اللهم اغفر لي ولمحمدٍ ,ولا تغفر لآحد معنا))
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد احتظرت واسعاً .

فصل
وأما خبر مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه اجتمع ثلاثة من الخوارج وهم عبد الرحمن بن ملجم المرادي , وعمرو بن بكير التميمي , والبرك بن عبد الله التميمي واسمه الحجاج فتذاكروا في شأن المقتولين بالنهروان وقالوا : لو قتلنا أئمة الضلالة أرحنا العباد : فقال ابن ملجم : أنا أكفيكم علي بن أبي طالب ,وقال البرك : أنا أكفيكم معاوية بن أبي سفيان , وقال عمرو ابن بكير: أنا أكفيكم عمرو بن العاص فتعاقدوا وتعاهدوا واتخذوا سيوفاً مسمومة وتواعدوا لسبع عشرة ليلة من شهر رمضان سنة (40) , فوثب ابن ملجم وقد خرج علي رضي الله عنه إلى صلاة الصبح فضربه بالسيف في جبهته فمسكوه وأحضروه مكتوفاً بين يدي علي رضي الله عنه فقال : أي عدو الله ماحملك على هذا ؟ قال : شحذته أربعين صباحاً وسألت الله أن يقتلك به قال : أراك مقتولاً به , ثم قال علي رضي الله عنه : ان هلكت فاقتلوه وإن بقيت رأيت فيه رأيي يا بني عبد المطلب لا تحرضوا على دماء المسلمين وتقولون قتل أمير المؤمنين لا تقتلوا إلا قاتلي . ثم دعا الحسن والحسين ووصاهما فقال : أوصيكما بتقوى الله ولا تبغيا الدنيا , وإن بغتكما , ولا تأسفا على شيء زوى غنكما , وقولا الحق , وارحما اليتيم , وأعينا الصانع , وكونا للظالم خصماً, وللمظلوم ناصراً , واعملا بما في كتاب الله , ولا تأخذكما في الله لومة لائم. وقال لمحمد بن الحنفية : أوصيك بمثل ذلك , وتوقير أخويك لعظيم حقهما عليك , ولا تقطع أمراً دونهما ووصاهما به .
وأما البرك بن عبد الله فإنه وثب على معاوية في تلك الليلة فضربه بالسيف فوقع في الييه فأمسكوه فقال لمعاوية : إني بشرك فلا تقتلني , فقال : بماذا؟ فقال : ان رفيقي قتل علياً هذه الساعة , فقال معاوية : لعله لم يقدر عليه , قال : بلى , ان علياً ليس معه من يحرسه فقتله معاوية فمن ذلك اتخذ معاوية المقصورة وحرس الليل وقيام الشرط على رأسه إذا سجد .
وأما عمرو بن بكير فإنه جلس تلك الليلة لعمرو بن العاص فلم يخرج للصلاة وأمر خارجة بن أبي حبيبة صاحب شرطته أن يصلي بالناس فخرج وضربه عمرو بن بكير فقتله يظنه عمرو بن العاص فأخذوه إلى عمرو بن العاص فقال : من هذا ؟ قالوا : عمرو بن العاص , فقال : قتلت من ؟ قالوا : خارجة ,فقال : أردت عمراً وأراد الله خارجة . وعليه قيل :
ولـــيــتهـا إذ فـــدت عـــمــراً بــخـارجــة
فــدت عــلــيـاً بــمـن شــاءت مــن الــبــشر
ثم أمر عمرو بقتله فقتل .


وصل

كانت وفاة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه لإحدى وعشرين من شهر رمضان سنة أربعين عن ثلاث وستين أو تسع وخمسين سنة من عمره فكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر . فتولى غسله الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وصلى عليه الحسن عليه السلام ودفن سحراً قيل فيما يلي قبلة مسجد الكوفة , وقيل عند قصر الامارة ,وقيل بالنجف والصحيح أنهم غيبوا قبره الشريف حوفاً عليه من الخوارج .
وأولاده رضي الله عنه الحسن والحسين ومحسن 
( مات صغيراً ) وزينب وأم كلثوم تزوجها عمر بن الخطاب من أبيها ليتبرك بنسب النبي صلى الله عليه وسلم ,وهؤلاء الخمسة من فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وله أولاد من غيرها وهم : العباس وجعفر , وعبد الله , وعثمان , وعبد الله , وأبو بكر, ومحمد الأصغر , ويحيى ,وعمر, ورقية ,ومحمد الأوسط , ومحمد الأكبر المعروف بابن الحنفية , وأم حسن, ورملة الكبرى , وأم هانئ , وميمونة , وزينب الصغرى , ورملة الصغرى , وأم كلثوم الصغرى , وفاطمة , وامامة , وخديجة , وام الكرام , وام سلمة , وام جعفر , وجمانة , ونفيسة ,فجملة أولاده الذكور أربعة عشر لم يعقب منهم إلا خمسة الحسن , والحسين , ومحمد بن الحنفية ,والعباس , وعمر عاش خمساً وثمانين سنة ومات بينبع وحاز نصف ميراث أبيه .

وصل
بعد أن توفي علي رضي الله عنه اجتمع أصحابه فبايعوا ولده أبا محمد الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته كان عاقلاً ذكياً ناسكاً سرباً متعبداً حج مرات ماشياً ونجائبه تنقاد بين يديه . أول من بايعه قيس بن سعد فقال : أبسط يدك على كتاب الله وسنة رسوله وقتال الملحدين , فقال الحسن : على كتاب الله وسنة رسوله فإنهما ثابتان ثم بايعه الناس فاشترط عليهم السمع والطاعة ومحاربة من حارب ومسالمة من سالم , فقال بعضهم لبعض ما هذا لكم بصاحب وما يريد القتال . فلما بلغ معاوية انهم بايعوا الحسن زحف في أهل الشام لجهة الكوفة وسار الحسن في الجيش للقائه ومعه عبد الله بن عباس . فلما نزل الحسن في المدائن شاع في عسكره أن قيس بن سعد قتل فحصل هيجان حتى جاءوا إلى سرادق الحسن ونهبوا ما حوله ونزعوا البساط الذي كان عليه وسلبوا ردائه. فقامت ربيعة وهمدان يحامون عنه فنفر قلبه من أحوالهم فكتب إلى معاوية بأنه يتنازل له عن الأمر على أن يعطيه ما في بيت المال بالكوفة وكان خمسة آلاف ألف , وأن يعطيه خراج دار أبجرد من فارس , وأن يكون الأمر له بعد معاوية , وأن لا يطالب أحداً من أهل المدينة والحجاز والعراق بشيء من قتلة عثمان مما كان في أيام أبيه علي رضي الله عنهما , وأن يمكنه من بيت المال يأخذ ما يحتاجه منه , وأن لا يشتم علياً وهو يسمع , فلما بلغ الحسين وعبد الله بن جعفر عذلاه في ذلك فلم يلتفت إليهما ,فوصلت صحيفته إلى معاوية فأمسكها وكان قد بعث معاوية عبد الله بن عامر , وعبد الله بن سمرة إلى الحسن ومعهما صحيفة بيضاء فيها ختم معاوية وكتب له ان اشترط في هذه الصحيفة ما شئت فاشترط فيها ما تقدم وزاد أشياء . فلما وصلت إلى معاوية فرح بذلك . فلما طالبه بالشروط أعطاه ما في الصحيفة الأولى وقال : هذا الذي طلبت أولاً .
ثم ان الحسن عليه السلام خطب الناس وقال : سخي نفسي عنكم ثلاث قتل أبي , وطعني , وانتهاب بيتي, ألا وقد أصبحتم بين قبيلين قبيل بصفين يبكون له ,وقبيل بالنهروان يطلبون ثأره فأما الباقي فخذل وأما الباكي فثائر , وان معاوية دعانا إلى إمر ليس فيه عزولاً نصفة فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله تعالى بظبات سيوفنا , وإن أردتم الحياة قبلنا وأخذنا لكم الرضا , فناداه الناس البقية البقية , فامضى الصلح وتنزل عن الأمر وبايع لمعاوية وكان عمر معلوية وقتئذٍ ستاً وستين سنة وذلك في ربيع الأول أو الآخر أو جمادى الأولى سنة (41).

ثم دخل معاوية الكوفة وبايعه الناس واستقر الأمر لمعاوية ووقع الاتفاق عليه وسُمي ذلك العام عام الجماعة وارتاحت الناس وظهرت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله مشيراً إلى الحسن : (( ان ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين )) , وظهرت معجزته صلى الله عليه وسلم أيضاً بقوله : (( الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً عضوضاً )) . فكان من خلافة أبي بكر إلى يوم تنزل الحسن عن الخلافة ثلاثين سنة .
ثم إن بعضهم غضبوا من فعل الحسن وكانوا يقولون : يا عار المؤمنين سودت وجوه المؤمنين فقال : العار خير من النار ولست مذل المؤمنين , لكني كرهت أن أقتلكم بطلب الملك فإن جماجم العرب كانت بيدي يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت تركتها ابتغاء وجه الله تعالى وحقن دماء المسلمين . جزاه الله عن الأمة خيراً . ثم توجه الحسن عليه السلام من الكوفة في أهله وعياله وحشمه إلى المدينة المنورة معظماً مكرماًً وخرج أهل الكوفة لوداعه باكين لفراقه ولم يزل مقيماً بالمدينة المنورة إلى أن توفي بها سنة تسع وأربعين , وقيل إحدى وخمسين عن سبع وأربعين سنة من عمره , كانوا أرادوا أن يدفنوه في الحجرة الشريفة فمنعهم مروان بن الحكم وكادت تكون فتنة بين الهاشميين والأمويين فتدارك هذا الأمر العقلاء ثم دفنوه بالبقيع في قبة العباس رضي الله عنه وعن جميع أهل البيت والصحابة والتابعين لهم بإحسان . هذا خلاصة ما ذكره أصحاب التحقيق من المؤرخين وان كثر القال والقيل في هذا الباب من أهل الزيغ والارتياب . والله الموفق للصواب .

الــبــاب الــثـاني
الــدولـة الأمـــويـة
القسم الأول
في ذكر دولة الأمويين
ينتسبون إلى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وهم قسمان : قسم منهم المقيمون بدمشق وهم أربعة عشر خليفة ومدة خلافتهم فيها نحو ثمانين سنة وهي ألف شهلا , وقسم منهم كانوا بالأندلس . الأول منهم معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس عبد مناف ولد بالخيف من منى وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف أسلم قبل أبيه وشهد حنيناً , كان طويلاً , أبيض جميلاً ,مهيباً, كثير الحلم , كان عمر بن الخطاب إذا رآه يقول : هذا كسرى العرب قال معاوية : مازلت أطمع بالخلافة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لي :
(( إذا ملكت فأحسن )) ويروى (( فاسجح )) بويع له بالخلافة يوم تنزل الحسن عليه السلام عن الخلافة سنة (41) . كان قبل الخلافة عاملاً على الشام لعمر بن الخطاب ولعثمان بن عفان مدة عشرين سنة . ولما عزله علي بن أبي طالب رضي الله عنه تغلب على الأمر إلى أن تنزل عنه الحسن وبايعه الناس وصار خليفة .

في سنة تسع وأربعين جهز معاوية الجيوش وأرسل جيشاً كثيفاً لغزو بلاد الروم وجعل عليهم سليمان بن عوف الأزدي , وفي الجيش عبد الله بن عباس , وابن عمر , وابن الزبير , وأبو أيوب الأنصاري , ويزيد بن معاوية فدوخوا الروم وأوغلوا في أرضهم وفتحوا بلاداً وحصوناً وحاصروا قسطنطينية واستشهد أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه ودفن بالقرب من سورها , ثم صالحوهم ورجعوا .
وفي سنة خمسين أرسل معاوية عقبة بن نافع الفهري في جيش لغزو افريقية وكان مقيماً ببرقة , وزويلة , منذ فتحها عمرو بن العاص فلما استعمله معاوية انضم إليه من أسلم من البربر فكثر جمعه فباشر الغزو وفتح فتوحات كثيرة .ورأى أن يتخذ هناك مدينة يجعل بها معسكراً للمسلمين ليأمنوا من ثورات العدو فقصد موضع القيروان وكانت اجمة مشتبكة فقطع ما بها من الأشجار وأمر ببناء المدينة فبنيت وبني فيها المسجد الجامع وبني الناس مساكنهم ومساجد فيها واتسعت دائرة الاسلام وانتشر في تلك البلاد .
وفي سنة اثنين وخمسين فتحت رودس فتحها جنادة بن أبي أمية الأزدي واستلمها المسلمون . ثم توفي معاوية بدمشق في نصف رجب سنة (60 ) وصلى عليه الضحاك الفهري لغيبة ابنه يزيد ببيت المقدس ودفن بين الجابية وباب الصغير عن سبع وسبعين سن من عمره , وكانت خلافته تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر كان أميرا وخليفة أربعين سنة .

الثاني من الأمويين
يزيد بن معاوية ( عليه ما يستحق )
وُلد سنة خمس وعشرين كان ضخماً , كثير الشعر , كثير اللحم وأمه ميسون بنت مجدل الكلبية بويع له بالخلافة يوم مات أبوه وقد كان استخلفه قبل موته , وكتب إلى البلاد فبايعوه ولم يبايعه الحسين بن علي عليه السلام , ولا عبد الله بن الزبير .ثم ان أهل الكوفة لما بلغهم موت معاوية وخلافة يزيد كتبوا كتاباً إلى الحسين عليه السلام يدعونه إليهم ليبايعوه فكتب إليهم جواباً مع القاصد وسير معه ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب فلما وصل إليهم اجتمع الشيعة عليه وأخذ عليهم العهد والميثاق بالبيعة للحسين وان ينصره ويحموه .ولما أراد الحسين المسير إلى العراق نهاه أصحاب الرأي والعقل كابن عباس وابن عمر وغيرهما وحذروه من غدر أهل العراق وذكروه ما وقع منهم لأبيه معهم فلم يلتفت إلى قولهم ولم يتنه
((ليقضي الله أمراً كان مفعولاً )) . فتوجه وقد بلغ خبر توجهه يزيد فولى العراق عبيد الله بن زياد وأمره بمقابلة وقتال الحسين فدخل ابن زياد الكوفة قبل الحسين وظفر بمسلم بن عقيل فقتله وأرسل جيشاً لملاقاه الحسين وأمر عليهم عمر بن سعد وكان الحسين وصل مع أصحابه إلى كربلاء وحط أثقاله في ذلك المكان ولم يجد أحداً من أهل العراق ممن كاتبه . فلما التقى الحسين مع عمر بن سعد قال الحسين رضي الله عنه لعمر بن سعد ومن معه : اختاروا مني واحدة من ثلاث , اما ان تدعوني بألحق بالثغور أو أذهب إلى يزيد , أو أنصرف حيث جئت فقبل ذلك عمر بن سعد ولم يقبل ابن زياد وقال : حتى يضع يده في يدي فقال الحسين : لا يكون ذلك أبداً . فلما أصبح الصباح وكان يوم عاشوراء المحرم تهيأ عمر بن سعد ومن معه وتهيأ الحسين ومن معه وكانوا اثنين وثلاثين فارساً وأربعين راجلاً , والتحم القتال واشتد الأمر فانهزم أصحاب الحسين وقتل أكثرهم وفيهم بضعة عشر شاباً من أهل بيته واشتدت الحرب وهو رضي الله عنه يدافع عن يمينه وشماله حتى ضربه زرعة بن شريك على يده اليسرى وضربه آخر على عاتقع وطعنه سنان بن أنس بالرمح فوقع على الأرض ونزل إليه شمر فأخذ رأسه وسلمه إلى خول الأصبحي ووجد بالحسين عليه السلام حين قتل ثلاث وثلاثون طعنة واربع وثلاثون ضربة رضي الله عنه وارضاه .

ثم ان عبيد الله بن زياد جهز الرأس الشريف
( وعلي بن الحسين ومن معه من حرمه بحالة تقشعر منها ومن ذكرها الأبدان والقلوب , وترتعد منها مفاصل الانسان بل فرائص الحيوان ) إلى البغيض يزيد بن معاوية مع شمر بن ذي الجوشن , فلما دخلوا على يزيد وأخبروه بما وقع دمعت عيناه وقال : (( كنت أقنع من طاعتكم بدون قتل الحسين لعن الله ابن مرجانة , اما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه )) فرحم الله الحسين ولم يصله بشيءٍ ثم غسلوا الرأس الشريف وجعلوه في طست من ذهب فجعل يزيد ينكت ثناياه بقضيب في يده فقال له أبو برزة الاسلمي: تنكت بقضيبك في ثغر الحسين والذي لا إله ألا الله هو لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هاتين الشفتين يقبلهما اما انك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك, ويجيء هذا وشفيعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قام وولى ,ودفن جسده الشريف بكربلاء واختلف في محل رأسه الشريف فقيل دفن بدمشق وعليه أكثر المؤرخين وقيل وجهه يريد فدفن بالمدينة عند أخيه الحسن عليهما السلام .
ثم ان يزيد وجه الذرية صحبة علي بن الحسين رضي الله عنه وبعث معهم النعمان بن بشير مع ثلاثين رجلاً حتى انتهوا إلى المدينة وليس للحسين عليه السلام من الذكور إلا علي هذا وهو المعروف بزين العابدين فكل ذرية الحسين منه عليهم السلام .

استطراد
أئمة أهل البيت

أولهم علي بن أبي طالب والحسن والحسين وقد تقدم ذكرهم , والرابع علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يكنى أبا الحسن وأبا محمد وأبا بكر لقب بزين العابدين وأمه غزالة وكان اسمها ( شهرياتو) بنت يزدجرد آخر ملوك الفرس توفي بالمدينة سنة أربع وتسعين عن ثمان وخمسين سنة ودفن بالبقيع في قبة العباس , والخامس محمد بن علي بن الحسين وأمه أم عبد الله فاطمة بنت الحسن بن علي بن أبي طالب يكنى أبا جعفر ولقب بالباقر لأنه بقر العلم أي شقه وتوسع فيه . توفي بالمدينة سنة سبع وعشرين ومائة ودفن بالبقيع في قبة العباس عن ستين سنة من عمره , والسادس جعفر بن محمد الباقر يكنى أبا عبد الله لقب بالصادق وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وأم أم فروة أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر ولدا كان يقول جعفر الصادق : ((ولدني أبو بكر مرتين )). ولد بالمدينة سنة (80) في العشر الأوسط من ربيع الأول وتوفي بالمدينة سنة ثمان وأربعين ومائة ودفن في قبة العباس وله خمسة أولاد محمد واسماعيل وعبد الله وموسى وعلي , والسابع موسى بن جعفر الصادق يكنى أبا الحسن ولقب بالكاظم ولد بالابواء بين مكة والمدينة سنة (128) وتوفي سنة ثلاث وثمانين ومائة ودفن ببغداد , والثامن علي بن موسى الكاظم يكنى أبا الحسن ولقب بالرضى ولد بالمدينة سنة ( 153 ) وتوفي ببلاد طوس في قرية سناباذ من رستاق قوجاز وقبره في الجهة القبلية من قبر هارون الرشيد في قبته المعروفة وذلك في رمضان سنة ثمان ومائتين , والتاسع محمد بن علي الرضا يكنى أبا جعفر ولقب بالتقي والجواد . ولد بالمدينة سنة (195 ) وتوفي ببغداد سنة عشرين ومائتين وقبره خلف قبر جده الكاظم . والعاشر علي بن محمد التقي يكنى أبا الحسن ولقب بالهادي ولد بالمدينة سنة (214 ) وتوفي في (سر من رأي)سنة أربع وخمسين ومائتين وقبره في داره التي بناها في سر من رأي ويقال أن مشهده بقم وليس بصحيح وهذا المشهد الذي بقم مشهد فاطمة بنت موسى الكاظم , والحادي عشر الحسن بن علي الهادي يكنى أبا محمد ولقب بالزكي والخاص والسراج مشهور بالعسكري ولد بالمدينة سنة
(231 ) وتوفي في سر من رأي سنة ستين ومائتين وقبره بجنب أبيه , والثاني عشر محمد بن الحسن ابن علي بن محمد بن علي الرضا يكنى أبا القاسم ولقب بالحجة وبالقائم وبالمهدي وبالمنتظر وبصاحب الزمان وهو خاتم الأئمة . ولد في سر من رأي سنة (258 ) . يقول الشيعة أنه دخل السرداب في دار أبيه في سر من رأي وأمه تنظر إليه ثم لم يخرج إلى الآن وذلك سنة ست وستين ومائتين وعمره سبع أو ثمان سنين . وهو يخرج آخر الزمان على زعمهم . وسر من رأي مدينة بالعراق من أعمال بغداد بناها المعتصم ونقل إليها العسكر سنة (220 ) وسماها العسكر وتسمى عند الشيعة سأمن رأي وتخفف فيقال سامراء والله أعلم .

فصل

ثم ان بعد قتل الحسين عليه السلام ظهر عبد الله بن الزبير وبايعه أهل مكة والمدينة والحجاز وتهامة والعراق ونقضوا بيعة يزيد فلما بلغ يزيد بن معاوية (عليه ما يستحق )جهز جيشاً وأمر عليهم مسلم بن عقبة المزني وأمره بمحاربة ابن الزبير وقال له : اجعل طريقك على المدينة فإن حاربوك فحاربهم , وان ظفرت بهم فأبحها ثلاثاً , فسار مسلم بالعسكر حتى نزل الجرة فخرج أهل المدينة فعسكروا بها فدعاهم مسلم ثلاثاً فلم يجيبوافقاتلهم وقتل أمير المدينة عبد الله بن حنظلة وسبعمائة من المهاجرين والأنصار ولم يبق بدري بعد ذلك . ودخل مسلم المدينة فانتهبها عسكره ثلاثة أيام . وافتض فيها نحو ألف عذراء (( فانا لله وإنا إليه راجعون ))
وقد جاء في الحديث : (( من أخاف أهل المدينة أخافه الله )).
ثم توجه الجيش إلى مكة وكتب إلى يزيد بما فعل فلما بلغ مسلم بن عقبة ( هرشا ) . (وهو اسم مكان بين الحرمين ) حصلت له علة فهلك في الطريق فتولى الجيش الحصين بن نمير , فسار حتى رأي مكة فتحصن ابن الزبير في المسجد الحرام فنصب الحصين المنجنيق على أبي قبيس ورمى الكعبة المعظمة فاحترقت أستار الكعبة وسقفها وقرنا الكبش الذي فدي به اسماعيل .
فبينما هم كذلك جاء الخبر بموت يزيد بن معاوية فأرسل إلى ابن الزبير يسأله الموادعة فأجابه إلى ذلك فدخل مكة واختلط العسكران يطوفان بالبيت ثم انصرف الحصين بالعسكر وذلك سنة أربع وستين .
توفي يزيد بذات الجنب بحوارين وحمل إلى دمشق ودفن بمقبرة باب الصغيرة وقبره مزبلة يرجم بالحجارة وعمره سبع وثلاثون سنة . وخلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر .
الثالث من بني أمية

هو معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان , بويع له يوم موت أبيه كان شاباً صالحاً ذا عقل ودين زاهداً راغباً في الآخرة , فلما بويع نظر في الأمور والأحوال فوجد أنه لا يمكن إصلاحها إلا بالسيف فجمع الناس وخطبهم فحمد الله واثنى عليه ثم قال : معاشر الناس اني قد نظرت في أمركم واني قد ضعفت عن القيام به والساخط علي أكثر من الراضي وما كنت لاتحمل أثقالكم ولا يراني الله جلت قدرته متقلداً أوزاركم وألقاه بدمائكم فشأنكم أمركم فخذوه ومن رضيتم به عليكم فولوه فلقد خلعت بيعتي من أعناقكم والسلام . فاجتمعت عليه بنو أمية وقالوا له : اعهد إلى من تريد , فقال : ما أصبت من حلاوتها فلا أتحمل من مرارتها . ودخلت عليه أمه فوجدته يبكي فقالت له : ليتك كنت حيضة فلم أسمع بخبرك , فقال : وددت والله ذلك ويلي ان لم يرحمني ربي , ثم توفي بعد أربعين ليلة من ذلك عن ثلاث وعشرين سنة . وصلى عليه أخوه عبد الرحمن ودفن خارج باب الجابية . وظهر أبو أنيس الضحاك بن قيس الفهري ودعا الناس إلى بيعته فخرج عليه مروان بن الحكم مع جماعة من بني أمية فقتلوه بمرج راهط .

الرابع من بني أمية
هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بويع له بالخلافة بالجابية ثم دخل دمشق فأذعنوا له بالطاعة ثم دخل مصر بعد حروب كثيرة فبايعه أهلها وهو كاتب السر لعثمان بن عفان وبسببه جرى عليه ماجرى كما تقدم ,وكان تزوج زوجة يزيد بن معاوية ولها منه ولد اسمه خالد فسبه مروان مرة وقال له : يا ابن رطبة الاست فأخبر خالد امه فأمرته بالكتم , ثم تعاهدت مع الجواري على قتل مروان فوضعت على وجهه مخدة كبيرة وهو نائم وقعدت هي وجواريها فوقها حتى مات عن ثلاث وستين سنة من عمره ودفن خارج باب الجابية ومدة خلافته تسعة أشهر وثمانية عشر يوماً وذلك سنة ((65 )) .
قال الذهبي : ان مروان لا يعد في أمراء المؤمنين بل هو متغلب باغ على ابن الزبير وكذلك عهده لولده عبد الملك غير صحيح .

الخامس من بني أمية

هو أبو الوليد عبد الملك بن مروان بن الحكم , وُلد سنة ست وعشرين لستة أشهر من حمله , بويع له بالخلافة يوم مات أبوه . كان طويلاً , أقنى الأنف , رقيق الوجه , يشد أسنانه بالذهب , شديد البخل , كان يلقب برشح الحجر لبخله ويلقب بأبي ذباب لشدة بخره كان إذا مر الذباب على فمه يموت من شدة نتنه كان مقداماً , سفاكاً للدماء . وكذلك عماله كالحجاج وهو أول من تسمى عبد الملك في الاسلام , وأول من ضرب الدنانير والدراهم بسكة الاسلام وكتب عليها بعض آيات من القرآن وعين فيها اسم المدينة وأرخ السنة وأول من نهى الناس عن التكلم بحضرة الخليفة .
كان قبل الخلافة متعبداً ناكساً فقيهاً عالماً واسع العلم يلقب بحمامة المسجد فلما جاءته الخلافة كان المصحف بين يديه يقرأ فيه فأطبقه وقال : السلام عليك هذا آخر العهد بك .

وفي زمن خلافته سنة (( 66 )) خرج المختار بن عبيد الله الثقفي بالكوفة مطالباً بدم الحسين في جمع كثير فاستولى عليها وبايعوه بها . وحصل قتال وظفر بشمر فقتله وقتل بن سعد أمير الجيش وبعث برأسهما إلى محمد بن الحنفية بالحجاز . ثم استولى المختار على الموصل وقتل عبيد الله بن زياد وأحرق جثته وانتقم الله تعالى للحسين بالمختار .
وفي سنة (( 72 )) جهز عبد الملك الحجاج في جيش إلى مكة لقتال ابن الزبير , وهو عبد الله بن الزبير بن العوام وأمه أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين رضي الله عنهما , وأم الزبير صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم , وُلد بالمدينة بعد عشرين شهراً من الهجرة وهو أول مولود ولد للمهاجرين بعد الهجرة وفرح المسلمون بولادته لأن اليهود كانوا يقولون : سحرناهم فلا يولد لهم , فحنكه النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة وسماه عبد الله وكناه أبا بكر باسم جده كان صواماً قواماً ناسكاً فارساً له المواقف المشهورة . احتجم النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فأعطاه دم الحجامة وقال : أهرقه حيث لا يراه أحد, فلما ذهب شربه , قال : ماصنعت بالدم ؟ قال : عمدت إلى أخفى موضع فجعلته فيه , قال : لعلك شربته ؟ قال نعم , فكانوا يرون أن القوة التي به من ذلك .
تقدم أنه لم يبايع يزيد بن معاوية فذهب إلى مكة فبايعه أهل الحرمين واليمن والعراق وخراسان فلما بلغ يزيد جهز جيشاً ثم مات يزيد ورجع الجيش , فلما ولي عبد الملك بن مروان جهز جيشاً وأمر عليهم الحجاج بن يوسف في أربعين ألفاً لقتال ابن الزبير فحاصروا مكة نحو شهر أشد الحصار ونصب المجانيق على أبي قبيس وقيقعان فما زال يحاصره ويضيق عليه إلى أربعة أشهر حتى دخل الحجاج بعسكره مكة المكرمة فاشتد الحرب داخل مكة حتى قتل عبد الله بن الزبير وتفرقت جماعته , ولما تمكن الحجاج بمكة هدم الكعبة المشرفة لوقوع خلل فيها من المنجنيق وكان قد بناها عبد الله بن الزبير بعد وقعة يزيد على قواعد ابراهيم فبناها الحجاج هذا البناء الموجود الآن وذلك سنة ((73 )) .

الحجاج هو ابن يوسف بن أبي عقيل الثقفي من أهل الطائف كان عبد الملك ولاه العراق وهو ابن عشرين سنة , كان جباراً عنيداً سفاكاً للدماء , عنيف السياسة , شكس الأخلاق , أحصي من قتل بأمره سوى من قتل في حروبه فكان مائة وعشرين ألف رجل ومات في سجنه خمسون ألف رجل , وثلاثون ألف امرأة , ولم يكن لحبسه سقف يستر . روي انه سمع ضجة وهو خارج من صلاة الجمعة فقال : ما هذا ؟ قيل : المسجونون يشكون , فالتفت إليهم وقال : اخسأوا فيها ولا تكلمون , فما صلى الجمعة بعدها وهلك . 
كان فصيحاً , حافظاً للقرآن , قال عمر بن عبد العزيز رأيت الحجاج في المنام بعد موته وهو جيفة منتنة قلت : ما فعل الله بك ؟ فقال : قتلني الله بكل قتيل قتلته قتلة واحدة , وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة , فقلت له : وما أنت تنتظر؟ قال : ما ينتظره الموحدون .
وتوفي عبد الملك بدمشق سنة ست وثمانين عن ثلاث وسبعين سنة من عمره ومدة خلافته إحدى وعشرين سنة منها ثمان سنين مزاحماً لابن الزبير .

السادس من بني أمية

هو الوليد بن عبد الملك بويع له بالخلافة يوم مات أبوه كان طويلاً أسمر أفطس بوجهه أثر جدري مختالاً في مشيته , قليل العلم , تربى بالترفه فشب بلا علم كان لحاناً كثير الخطأ في العربية , لكنه من أفضل خلفاء بني أمية عند أهل الشام , كان كريماً سخياً يعطي الجزيل , جعل المجذومين نفقة وأمرهم أن لا يسألوا الناس ولا يخالطوهم , وعين لكل مقعد خادماً , ولكل أعمى قائداً كان كثير البر لأهل القرآن وهو أول من بني الجامع الأموي بدمشق هدم كنيسة يوحنا وزاد عليها وذلك سنة (( 88 )) كان البناؤن والمرخمون اثني عشر ألفاً , ولم يتم بناؤه في زمنه بل أتمه أخوه سليمان وكان جملة ما أنفق عليه أربعمائة صندوق في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار .

كان فيه ستمائة سلسلة من الذهب للقناديل إلى أيام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فحملها إلى بيت المال وجعل بدلها من نحاس وحديد , وبني الوليد قبة الصخرة ببيت المقدس , وصرف عليها أموالاً كثيرة , وبنى المسجد النبوي ووسعه ,وله آثار حسنة وفي أيامه فتحت الأندلس , وفي أيامه كان طاعون الجارف مات فيه بمدة قليلة نحو ثلاثمائة ألف وفي مدته مات الحجاج بن يوسف بواسط واستراحت الناس من شره .
توفي الوليد بن عبد الملك سنة ست وتسعين بدير مران وحمل على اعناق الرجال ودفن بدمشق بباب الصغير ومدة خلافته تسع سنين وثمانية أشهر ونصف وله من العمر تسعة وأربعون سنة .

تبيين

في أيام الوليد سنة اثنين وتسعين غزا طارق بن زياد مولى موسى بن نصير الأندلس في اثني عشر ألفاً في مراكب فنزلوا جبل طارق وبه تسمى إلى الآن فاغرق طارق في الليل المراكب لقطع أمل الجيش بالرجوع , ثم سار بالجيش فلقي ملك الندلس فزحف له طارق بمن معه وكان جيش العدو مائة ألف واتصلت الحرب ثمانية أيام وقتل ملك الأندلس قتله طارق وانهزم الكفار , وسار طارق متبعاً لهم فأدرك جماعة من المنهزمين فقاتلوه وقاتلهم حتى انهزموا ولم يلق المسلمون بعد ذلك حرباً , وصار المسلمون يستلمون البلاد بلداً بلداً , وحصناً حصناً , وتوغلوا في البلاد ودوخوها حتى استقامت الأمور هناك وعلت كلمة الاسلام . وغنموا منها غنائم من الذهب والفضة والجواهر والأثاث والخيل ما لا يحصى حصره . كانوا يجدون الطنفسة منسوجة بقضبان الذهب منظومة بالؤلؤ والياقوت والزبرجد لا يستطعون حملها فيقطعونها نصفين . ومما وجد في الغنائم مائة وسبعون تاجاً للملوك من ذهب مرصعة بالدر وأصناف الجواهر الثمينة , وألف سيف ملوكي مرصعة أيضاً , ومما وجدوه مائدة سليمان بن داود عليهما السلام ويقال انها من منهوبات (( بخت نصر )) لما خرب بيت المقدس , وقيل : ولم تكن لسليمان وإنما أصلها من العجم في أيام ملكهم لأن أهل الثروة منهم كان إذا مات أحدهم أوصى بمال لمعابدهم فاجتمع من ذلك مال كثير فصاغوا منه تلك المائدة وكانت مصنوعة ومصوغة من الذهب مرصعة بالدر والياقوت والزمرد لم تر الراؤن مثلها في الصنعة كان لها خمسة وستون رجلاً , فحملت إلى الوليد مع غيرها من الذهب والفضة والجواهر ونفائس الأمتعة ما لا يقدر . ثم توغلوا في البلاد ودوخوها حتى وصلوا إلى أواسط بلاد أوروبا . وصارت جميع بلاد الأندلس وبلاد المغرب من افريقية بيد المسلمين . ثم اتسع أمر المسلمين واشتدت دولتهم بالأندلس , فلما تفرقوا استولى عليها العدو شيئاً فشيئاً إلى سنة تسعمائة وأربع فاستولى عليها جميعاً العدو وبقي من المسلمين قليل لا ناصر لهم , ثم خرجوا منها وآخرزمن خرجوا فيه كان سنة الف وعشر ولم يبق فيها موحد . 
(( ان في ذلك لعبرة لأولي الألباب )) .
وفي أيام الوليد سنة (( 90 )) فتحت بلاد بخارى , وتوغل المسلمون حتى وصلوا إلى اقصى بلاد الصين .
وفي سنة (( 99 )) فتحت بلاد كاشغر على يد قتيبة بن مسلم الباهلي .

السابع من بني أمية

هو سليمان بن عبد الملك , بويع له بالخلافة بالرملة بعد موت أخيه الوليد بثلاثه أيام سنة ((96 )) ثم توجه إلى دمشق , كان كبير الوجه , أحمر , مليحاً مقرون الحاجبين , أبيض , مهيباً به عرج وهو من خيار ملوك بني أمية كان فصيحاً مؤثراً للعدل , محباً للغزو والجهاد ,ومن محاسنه ان عمر بن عبد العزيز ( وهو وزيره ومشيره ) كان يمتثل أوامره ,وهو الذي كمل عمارة الجامع الأموي بعد أخيه الوليد . ومن محاسنه أنه استخلف عمر بن عبد العزيز مع وجود أولاده , لكنه كان أكولاً شرها , وكان تنوع له الأطعمة . وفي أيامه اصطنعوا له الكنافة وسبب موته من التخمة . توفي في سنة (( 98 )) بمرج دابق من أرض قنسرين وصلى عليه عمر بن عبد العزيز ودفن هناك , وعمره خمس وأربعون سنة ومدة خلافته سنتان وخمسة أشهر وخلف أربعة عشرولداً .

استطراد
كان عبد الملك بن مروان قد جهز ابنه مسلمة إلى غزو
(( اليون )) ملك الروم وانتخب له ثمانين ألفاً من الأبطال فتوجهوا غازين يفتحون البلاد الكبيرة حتى وصلوا إلى شاطئ قسطنطينية فأقاموا مدة ثمانية أشهر , حتى هيأوا سفناً فركبوا فيها وقاتلهم أهل البلد في البحر ثلاثة أيام حتى قاربوا قسطنطينية فأقاموا هناك وبنوا مدينة من خشب وسكنوا فيها , وصارت بلاد الروم كلها بيد مسلمة ما بين الشام إلى الجزيرة قسطنطينية يجيء إليه خراجها , فأقاموا يحاصرونها سبع سنين وسمى المدينة التي بناها مدينة القهر لأنه قهرهم عليها وهي المعروفة الآن (( غلطة ))وغرسوا فيها أنواع الشجر والفواكة . فلما اشتد الحصار كتب اليون ملك الروم الى مسلمة يطلب منه الصلح ويعطيه مالاً قرره , فلم يرض مسلمة ثم ضايق الحصار عليهم فهال ذلك الملك اليون فقال لمسلمة : ما الذي تريده ؟ فقال : لا أرجع حتى أدخل المدينة , قال له اليون : أدخل وحدك ولك الأمان , فقال مسلمة :على أن العسكر يقفون على باب المدينة ولا يغلقون الباب , فقال : لك ذلك , ففتح الباب ووقف العسكر داخل عتبة الباب فقال مسلمة لهم : اني داخل فانتظروني على الباب فإذا صليتم العصر ولم أحضر فاقتحموا بخيلكم واقتلوا من أصبتم , والأمير بعدي محمد بن عبد الملك فركب مسلمة على فرسه الأشهب وعليه ثياب بيض , وعمامة بيضاء متقلداً بسيفين وبيده الرمح , فصف له الملك عساكره بالخيل يميناً وشمالاً من جهة باب أدرنة إلى أيا صوفيا , وكلما مر بقوم ساروا خلفه وهم يرمقونه بأبصارهم متعجبين من شجاعته وجراءته حتى وصل إلى باب أيا صوفيا , فخرج اليون لاستقباله فدخل الكنيسة وهو راكب فلما دخل نظر إلى صليبهم الأعظم وهو موضوع على كرسي من ذهب فأخذه ووضعه على قربوس فرسه فقال له اليون : ان الروم لا ترضى بهذا , فحلف أنه لا يخرج حتى يأخذه فخرج وهو راكب حتى إذا وصل إلى معسكره كبرت الجنود تكبيرة كادت الأرض تمور بهم.
ثم أرسل له اليون المال الذي عهد به ومعه تاج مرصع فباعوا التاج من بعض البطارقة بمائة ألف دينار , ثم قال مسلمة للعسكر إن الخليفة عبد الملك قد توفي وولي ابنه الوليد فمات وولي أخوه سليمان فبايعوا له ثم توجهوا نحو البلاد الشامية .وفي أثناء الطريق أتاه كتاب عمر بن عبد العزيز بموت سليمان بن عبد الملك وبخلافته آمراً له بالقدوم بمن معه جميعاً فقدموا دمشق في ثلاثين ألفاً لأن العسكر توفي منه كثير في طاعون الجارف , وكانت مدة غيبتهم نحو ثلاثة عشر سنة .

الثامن من بني أمية

هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم وأمه أم عاصم بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعمر جده من قبل أمه وهو تابعي جليل ثقة صالح عدل يعد خامس الخلفاء الراشدين مولده سنة ( 61 ) بقرية حلوان من أعمال مصر . كان والده أمير عليها وكان بوجهه شجة ضربته دابة في وجهه وهو غلام فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول : إن كنت أشج بني أمية إنك لسعيد . كان رضي الله عنه أبيض مليحاً , جميلاً , مهيباً , نحيف الجسم , حسن اللحية , نقش خاتمه
(( عمر يؤمن بالله مخلصاً )) . كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : يكون من ولدي رجل بوجهه شجة يملا الأرض عدلاً كما ملئت جوراً . كان رضي الله عنه من أعظم الناس وأكيس الناس وأجملهم في مشيته ولبسه وهيئته , فلما استخلف قومت ثيابه التي عليه فإذا هي تعدل أثنى عشر درهماً . كان عفيفاً عابداً زاهداً ناسكاً مؤمناً تقياً صالحاً وهو الذي أزال ما كانت بنو أمية تذكر به علياً بالسوء على المنابر من سنة إحدى وأربعين , فلما ولي عمر بن عبد العزيز أبطل ذلك وكتب إلى نوابه بإبطاله , وأن يقرؤا قوله تعالى: { أن الله يأمر بالعدل والإحسان } الآية , وكتب إلى عماله أن لا يقيد مسجون بقيد فإنه يمنع في الصلاة , وكتب إلى عماله (( إذا دعتكم قدرتكم على الناس إلى ظلمهم فاذكروا قدرة الله عليكم ونفاذ ما تأمرون إليهم وبقاء ما يأتي لكم من العذاب بسببهم )) . ذكروا أنه لما دفن سليمان بن عبد الملك وانصرف الناس عن القبره سمع ضجة فقال : ما هذا ؟ قيل له : هذه مراكب الخلافة قدمت إليك يا أمير المؤمنين لتركبها فقال : مالي ولها نحوها عني وقربوا لي دابتي , فقربت إليه فركبها وقال : إنما أنا رجل من المسلمين وسار مختلطاً بالناس حتى دخل المسجد فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال : (( أيها الناس انه لا كتاب بعد القرآن ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم , وإني والله لست بقاض , ولكني منفذ ولست بمبتدع ولكني متبع , ولست بخير من أحدكم ولكني أثقلكم حملاً, واني ابتليت بهذا الأمر من غير رأيي ولا مطلوبي ولا مشورتي واني قد حللت أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم غيري )) فصاح المسلمون صيحة واحدة قد اخترناك يا أمير المؤمنين . ثم قال :
(( ايها الناس من أطاع الله تعالى وجبت طاعته ,ومن عصى الله عز وجل فلا طاعة له , أطيعوني ما أطعت الله , فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم )) . ثم نزل ودخل دار الخلافة فأمر بالستور فهنكت وبالبسط فرفعت , وأمر ببيع ذلك وإدخال ثمنها في بيت المال ولم يسكن في دار الخلافة بل سكن شمالي جامع دمشق بمكان يعرف الآن (( بخانقاه الشميصانية )) وهو مسكن الصالحين إلى الآن. قال يوماً لامرأته فاطمة بنت عبد الملك وكان عندها جواهر كثيرة أمر لها أبوها بها :اختاري اما أن تردي حليك إلى بيت المال , واما أن تأذني لي بفراقك فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت واحد , فقالت : بل اختارك عليه وعلى أضعافه ,فأمر به فحمل حتى وضع في بيت المال. فلما مات عمر واستخلف يزيد قال لها: إن شئت رددت إليك حليك , قالت: لا والله لا أطيب به نفساً في حياته وارجع إليه بعد موته .
توفي رضي الله عنه لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومائة عن تسع وثلاثين سنة من عمره ,ومدة خلافته مدة خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهي سنتان وثلاثة أشهر وثلاثة عشر يوماً.

التاسع من بني أمية

هو يزيد بن عبد الملك بن مروان , ولي الخلافة يوم موت ابن عمه عمر بن عبد العزيز بعهد من أخيه سليمان , كان أبيض جسيماً , مليح الوجه , كتب عمر بن عبد العزيز إلى يزيد بن عبد الملك لما احتضر: (( سلام عليك أما بعد فإني لا أراني إلا لما بي فالله الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنك تدع الدنيا لمن لا يحمدك , وتفضي إلى من لا يعذرك والسلام )) , فلما ولي قال : خذوا بسيرة عمر بن عبد العزيز فسار بسيرته مدة فدخل عليه أربعون من أهل الشام وحلفوا له ان ليس على الخلفاء حساب ولا عقاب في الآخرة فخدعوه بذلك فانخدع لهم ثم لم ينتفع به بعد ذلك في الخلافة , توفي باربل من لأرض البلقاء وقيل بالجولان وحمل على أعناق الرجال إلى دمشق ودفن بين الجابية وباب الصغير لخمس بقين من شعبان سنة خمس ومائة عن تسع وعشرين سنة ومدة خلافته أربع سنين وشهر .

العاشر من بني أمية

هو هشام بن عبد الملك استخلف بعهد من أخيه يزيد كان بمدينة ارصافة على الفرات فلما بشروه بالخلافة سجد وسجد من معه من أصحابه وسار إلى دمشق كان أبيض , جميلاً , سميناً , أحولاً , حازماً , عاقلاً ,ذا رأي ودهاء وعزم وقلة شر , وفي أيامه حصل قحط في البادية فقدم عليه العرب فهابوا أن يكلموه وفيهم درواس بن حبيب وهو ابن ست عشرة سنة له ذؤابة وعليه شملتان فوقعت عين هشام عليه فقال لحاجبه : من أراد أن يدخل علي فليدخل , فدخل حتى الصبيان فوثب درواس حتى وقف بين يديه مطرقاً فقال : يا أمير المؤمنين ان للكلام طياً ونشراً ,وانه لا يعرف ما في طيه إلا بنشره , فإن أذن أمير المؤمنين أن أنشره نشرته . فأعجبه كلامه فقال : أنشره لله درك , قال : يا أمير المؤمنين انه أصابتنا سنون ثلاث , سنة أذابت الشحم , وسنة أكلت اللحم , وسنة أدقت العظم , وفي أيديكم فضول مال فإن كانت لله ففرقوها على عباده , وان كانت لهم فلا تحبسوها عنهم .
وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم , فإن الله يجزي المتصدقين . فقال هشام : ما ترك لنا الغلام في واحدة من الثلاث عذراً فأمر للبوادي بمائة ألف دينار وله بمائة ألف درهم وقال له : أمالك حاجة فقال : ما لي حاجة في نفسي دون عامة المسلمين . وكان هشام لا يدخل بيت ماله مالاً حتى يشهد أربعون رجلاً أنه أخذ من حقه وأنه أعطى لكل ذي حق حقه .
وفي أيامه سنة (122 ) خرج زيد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله عنهم ودعا الناس إلى بيعته في الكوفة وتبعه خلق كثير زهاء أربعين ألفاً أغروه وحسنوا له الخروج وبايعوه ونصحه من أقاربه ومن عقلاء الناس كثير ونهوه عن موافقة أهل الكوفة وما وقع منهم مع جديه علي والحسين عليهما السلام فلم يصغ زيد إلى نصيحة أحد فخرج بمن معه إلى جهة القادسية ثم اجتمع عليه بعض رؤسائهم فقالوا له : يرحمك الله ما قولك في أبي بكر وعمر , قال زيد : رحمهما الله وغفر لهما هما وزيرا جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما سمعت أحداً من أهل بيتي يقول فيهما إلا خيراً ,قد ولوا فعدلوا في الناس وعملوا بالكتاب والسنة لكنا أهل البيت كنا نحسب أن هذا الأمر حقنا فدفعونا عنه ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفراً . ففارقوه ونكثوا بيعته فسماهم زيد الرافضة وبقي معه جماعة قليلون وكان والي الكوفة من جهة هشام يوسف بن عمر الثقفي فجمع عسكراً وقاتل زيداً فأصاب زيداً سهم في جبهته فأسرع السهم فمات رضي الله عنه عن اثنتين وأربعين سنة من عمره , وصلب يوسف بن عمر جثته وبعث برأسه إلى هشام فنصب بدمشق ودامت جثته حتى مات هشام وانهزمت جماعته وهربوا إلى اليمن وهم المعروفون بالزيدية .وتوفي هشام بالرصافة ودفن بها سنة (125 ) عن إحدى وستين سنة ومدة خلافته تسع عشرة سنة وتسعة أشهر .

الحادي عشر من بني أمية

هو الوليد بن زيد بن عبد الملك بويع له بالخلافة يوم مات عمه هشام كان في البرية فسار من فوره إلى دمشق , كان قوياً , جيد الشعر , فاسقاً شربياً للخمر , سكيراً متهتكاً لحرمات الله تعالى دخل يوماً بيته فوجد ابنته جالسة مع مربيتها فبرك عليها وأزال بكارتها فقالت له الداية : هذا دين المجوس فأنشد : من راقب الناس مات غما وفاز باللذة الجسور تفاءل يوماً في المصحف الشريف فخرج له
{ واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد } فمزق المصحف
(( مزقه الله كل ممزق )) وأنشد قبحه الله .
أتوعد كل جبار عنيد فيها أنا ذاك جبار عنيد إذا لاقيت ربك يوم تحشر فقل يارب مزقني الوليد 
واصطنع بركة من خمر فكان يلقي نفسه ويشرب منها طرباً حتى يظهر نقصان في أطرافها . ثم ابتلاه الله تعالى ببلايا كثيرة منها أنه كان يبول من سرته وهو لم يتعظ . فلما كثر فسقه مقته الناس وبغضوه وخرجوا عليه قاطبة وأجمعوا على قتله وتولية ابن عمه فاستدعوه من البادية فدخل ابن عمه يزيد بن الوليد دمشق واتفق مع الجند فحاصروه في قصره ودخلوا عليه وقتلوه شر قتلة وصلبوا رأسه على سور قصره ودفن خارج باب الفراديس وذلك سنة ست وعشرين ومائة عن تسع وثلاثين سنة ومدة خلافته سنة وشهران .

الثاني عشر من بني أمية

هو أبو خالد يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان وثب على الخلافة بعد قتل ابن عمه الوليد سنة (126 ) لقب بالناقص لأنه نقص الجند من أعطياتهم ولنقصان كان في رجليه , كان مظهراً للعبادة والنسك وقراءة القرآن وأخلاق عمر بن عبد العزيز , كان ذا دين وورع إلا أنه لم يمتع بالخلافة وأدركته المنية من عامه سابع ذي الحجة عن خمس وثلاثين سنة من عمره وكانت مدة خلافته ستة أشهر .

الثالث عشر من بني أمية
هو إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بويع له بالخلافة يوم مات أخوه يزيد الناقص آخر سنة ست وعشرين ومائة ولم يثبت له أمر في الخلافة , فكان جمعة يسلم عليه بالخلافة ,وجمعة بالإمارة , وجمعة لا يسلم عليه لا بالخلافة ولا بالإمارة وما زالت الأمور مضطربة حتى خرج عليه مروان بن محمد بعسكر فقاتله فهرب إبراهيم وتسلم دار الخلافة مروان بن محمد وعاش إبراهيم إلى سنة اثنين وثلاثين ومائة وقتل مع من قتل من بني أمية في وقعة السفاح .

الرابع عشر من بني أمية
هو مروان بن محمد الملقب بالحمار لأنه كان يصبر على مكاره الحرب ولا ينثني لشجاعته . تقول العرب : فلان أصبر من حمار في الحرب . كان شجاعاً , مهيباً أبيض ربعة القد , أشهل , ضخماً , كث اللحية .
بويع له بالخلافة بعد إبراهيم ولما استقر الأمر له عاد إلى حران وأرسل إبراهيم يستأمنه فأمنه وقدم عليه , وفي زمنه كثرت الفتن واستحكم الخلاف في البلاد وتمرد البعض عن الطاعة وفي أيامه سنة (129 ) ظهر أبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم الخراساني صاحب الدعوة لبني العباس وظهر السفاح بالكوفة فبايعوا له بالخلافة وجهز عمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس لقتال مروان فالتقى الجمعان بقرب الموصل والتحم القتال واشتدت الحرب وأخذت دمشق على يد عبد الله بعد حصار وحرب شديد وقتل ألوف كثيرة من الأمويين وغيرهم وانهزم مروان إلى مصر وقتل من عسكره ما لا يحصى وتبعه عبد الله بن علي إلى أن وصل إلى نهر الأردن فلقي جماعة من بني أمية وكانوا ثمانين رجلاً ونيفاً فقتلهم عن آخرهم وأمر عبد الله بسحبهم فسحبوهم وبسط عليهم البسط فجلسوا عليهم واستدعى بالطعام فأكلوا وهم يسمعون أنينهم فقال عبد الله يوم كيوم الحسين 
( رضي الله عنه ) ولا سواه .
وانهزم مروان حتى وصل إلى بوصير ( قرية عند الفيوم ) 
فقال : ما اسم هذه القرية , قيل : بوصير قال إلى الله المصير ودخل كنيسة فبلغه أن خادماً له نم عليه فأمر به فقطع رأسه وسل لسانه فجاءت هرة فأكلت اللسان . ثم بعد أيام لحقه عامر بن اسماعيل المزني الذي كان مع السفاح فهجم على الكنيسة وقاتل حتى قتل مروان وقطع رأسه في ذلك المكان وسل لسانه وألقاه هلى الأرض فجاءت تلك الهرة بعينها فأكلت اللسان , فقال عامر : لو لم يكن في الدنيا عجب إلا هذا لكان كافياً , وجلس عامر على فرش مروان وأكل طعامه الذي كان مروان هيأه , ودعا بابنة مروان فقالت : يا عامر ان دهراً أنزل مروان عن فرشه , وأقعدك عليها حتى تعشيت عشاءه ونادمت ابنته , لقد أبلغ في موعظتك وأجمل في إيقاظك فاستحيى عامر وصرفها وذلك سنة وثلاثون ومائة وكان عمر مروان ستاً وخمسين سنة ومدة خلافته خمس سنين وعشرة أشهر .

القسم الثاني من بني أمية الذين أقاموا بأندلس لما انتقلت الخلافة إلى بني العباس
تكميل
لما استحر القتل تفرق من هرب منهم في الجهات والبلاد فكان من الفارين عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ويلقب بالداخل .
بويع له بالخلافة في الأندلس سنة تسع وثلاثين ومائة وأقام فيها ثلاثاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر كان نافذ الكلمة مطلق الإرادة . توفي سنة (171 ) وتملك بعده ابنه هشام بن عبد الرحمن سبع سنين وسبعة أشهروتوفي سنة (180 ) واستخلف بعده ابنه الحكم بن هشام وكانت مدة خلافته ستاً وعشرين سنة وتوفي سنة (( 206 )) ثم تولى عبد الرحمن بن الحكم وفي أيامه خرجت المجوس إلى بلاد الأندلس من البحر وجري بينهم وبين المسلمين حروب كثيرة انهزم فيها المجوس وغنم المسلمون منهم أربعة مراكب بما فيها من الغنائم وهرب المجوس إلى بلادهم وكانت مدة خلافته إحدى وثلاثين سنة وستة أشهر وخلف خمسة وأربعين ولداً .
ثم تولى بعده ابنه محمد بن عبد الرحمن كان فقيهاً فصيحاً بليغاً كثير الجهاد وهو صاحب وقعة سليط المشهورة التي لم يسمع قبلها بمثلها قتل فيها من الكفار ثلائماتة ألف ونيف. توفي محمد بن عبد الرحمن سنة 
(( 272 )) عن خمس وستين سنة ومدة ولايته أربع وثلاثون سنة واحد عشر شهراً , ثم تولى بعده ولده المنذر بن محمد ثم عبد الله بن محمد , ثم أخوه عبد الرحمن بن محمد , ثم عبد الله بن محمد , ثم أخوه عبد الرحمن بن محمد . وهو أول من لقب بأمير المؤمنين من الأمويين بالأندلس وكانوا قبله يسمون الخليفة بني الخلائف ولقب بالناصر وكانت مدة ولايته خمسين سنة ونصفاً وعمره ثلاث وسبعون سنة . 
ثم تولى بعده ابنه الحكم بن عبد الرحمن لقب بالمنتصر كان فقيهاً عالماً كثير العلم بالتاريخ ومدة خلافته خمس عشر سنة وتسعة أشهر وعمره ثلاث وستون سنة . 
ثم تولى هشام بن الحكم وعمره عشر سنين ولقب المؤيد بالله فلما كبر اشتغل بالغزو فغزا نحو خمسين غزوة ومدة ولايته سبع وعشرون سنة , ثم خرج عليه ابن عمه محمد بن هشام وقبض على هشام وحبسه في قرطبة واستولى محمد على الملك واستمر إلى أن خرج عليه سليمان بن الحكم فهرب محمد بن هشام واستولى سليمان . وفي سنة أربعمائة عاد محمد المهدي إلى الملك وهرب سليمان ثم اجتمع كبار العساكر وقبضوا على محمد المهدي وأخرجوا هشام المؤيد من الحبس وأعادوه إلى الملك وأحضروا محمد المهدي بين يديه فأمر بقتله , واستمر المؤيد في الملك ثم اتفقت البربر مع سليمان المذكور وأخرجوا هشام المؤيد من قصره بقرطبة ولم يتحقق للمؤيد خبر بعد ذلك .
ثم بويع سليمان بن الحكم ولقب المستعين بالله وفي سنة ((407 )) خرج بالأندلس على سليمان شخص من القواد يقال له جبران المقامري فاجتمع عليه جماعة كثيرة وسار إلى سليمان بقرطبة وجرى بينهم قتال فانهزم سليمان وأخذ أسيراً , ثم أمر بقتل سليمان وابنه وأخيه فقتلوا ودامت قرطبة في يده إلى أن قام رجل من بني أمية وهو عبد الرحمن بن هشام ولقب بالمستظهر بالله وهو أخو المهدي ثم قتلوه في ذي الحجة من هذه السنة . وبويع محمد بن عبد الرحمن ولقب المستكفي بالله ثم قاموا عليه فهرب وسم ومات في الطريق .
ثم اجتمع أهل قرطبة على طاعة يحيى بن حمود العلوي ثم خرجوا عن طاعته وبايعوا رجلاً من بني أمية اسمه هشام بن محمد ولقب المقتدر بالله وجرى في أيامه فتن وشرور يطول ذكرها ثم أخرجوه وأقام أهل قرطبة بعده شخصاً من ولد عبد الرحمن اسمه أمية , فلما أرادوا أن يولوه قالوا له : نخشى عليك أن تقتل فإن السعادة قد ولت عنكم يا بني أمية , فقال : بايعوني اليوم واقتلوني غداً فلم ينتظم له أمر واختفى فلم يظهر خبره بعد ذلك . ثم ان بلاد الأندلس وتوابعها اقتسمها أصحاب الأطراف والرؤساء وصاروا أشبه بملوك الطوائف فنشاً عن ذلك انقراض الدولة الأموية من الأندلس وغيرها إلى أن آل الأمر بعد ذلك إلى اضمحلال الاسلام في الأندلس وخروج المسلمين منها .

الباب الثالث
الدولة العباسية
القسم الأول
في خلفاء بني العباس

وهم على قسمين , قسم منهم المقيمون بالعراق وهم سبعة وثلاثون خليفة ومدة خلافتهم خمسمائة وأربع وعشرون سنة , وقسم منهم المقيمون بمصر وهم خمسة عشر خليفة ومدة خلافتهم فيها مائتان وخمس وخمسون سنة ونصف سنة .

الأول من الخلفاء العباسيين السفاح


وهو أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف , بويع له بالكوفة لثلاث ليال خلت من ربيع الأول سنة اثنين وثلاثين ومائة . كان جميلاً , أبيض , مليحاً ,حسن الوجه , واللحية , والهيئة كان من أسخى الناس , سريعاً إلى سفك الدماء , فلما بويع صلى بالناس الجمعة وقال في خطبته : الحمد لله الذي اصطفى الاسلام لنفسه فكرمه وشرفه وعظمه واختاره لنا , وأيده بنا , وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوامين به والذابين عنه , ثم ذكر قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بآيات من القرآن إلى أن قال : فلما قبض الله نبيه قام بالأمر أصحابه إلى أن وثب بنو حرب ومروان فجاروا واستجاروا فأملى لهم حيناً حتى استوفوا فانتقم منهم بأيدينا ورد علينا حقنا ليمن به على الذين استضعفوا في الأرض وختم بنا كما استفتح بنا وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله . ثم توطأت له الممالك .
وفي سنة (134 ) انتقل السفاح إلى الأنبار وصيرها دار الخلافة , وتوفي يوم الأحد لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة بالمدينة التي بناها وسماها الهاشمية وهو ابن اثنين وثلاثين سنة ونصف سنة ومدة خلافته أربع سنين وتسعة أشهر ودفن بالأنبار القديمة.

الثاني من الخلفاء العباسيين

هو أبو جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس , بويع له بالخلافة بعد موت أخيه السفاح , جاءه خبر الخلافة بمكان يعرف بالصافية فقال : صفا أمرنا إن شاء الله تعالى , فلما حج بهم ورجع إلى الهاشمية بايعه الناس البيعة العامة . كان فحل بني العباس طويلاً , أسمر , خفيف اللحية , رحب الوجه , كأن عينيه لسانان ينطقان , ذا هيبة , وشجاعة , وجبروت , كان جماعاً للمال , تاركاً للهو واللعب , كامل العقل , قتل خلقاً كثيراً حتى استقام ملكه وكان أول ما عمله ان أمر بقتل أبي مسلم الخراساني صاحب دعوتهم وهو الذي مهد ملكهم , قتله ليستقر له الملك وقال : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } وهو الذي حمل الامام الأعظم أبا حنيفة على القضاء فلم يقبل وهو الملقب بالدوانيقي لمحاسبة العمال والصناع بالدقة حتى على الدانق والحبة , وهو أبو الخلفاء العباسيين كلهم , وهو أول خليفة قرب المنجمين ليعمل بأحكام النجوم والقرانات , وأول خليفة ترجمت له الكتب السريانية والأعجمية بالعربية ككتاب كليلة ودمنة وقليدس . وفي عصره بدئ بتدوين العلم وكتابته من الحديث والفقه والتفسير فصنف ابن جريج بمكة , ومالك بن أنس الموطأ بالمدينة , والأوزاعي بالشام , وابن أبي عمرويه ,وحماد بن سلمة بالكوفة , ومعمر باليمن , وسفيان الثوري بالكوفة , وصنف ابن إسحاق المغازي , وصنف أبو حنيفة الفقه ورتبه وكثر تدوين كتب العلم وتبويبه ودونت كتب العربية من اللغة والنحو والمعاني والبيان والتاريخ . وكانوا قبلاً يتعلمون ويعملون ويتكلمون من حفظهم ويروون العلم من كتب غير مرتبة .
وفي سنة ثمان وأربعين ومائة عظمت هيبة المنصور في النفوس ودانت له البلاد والعباد والأقاليم ولم يبق سوى الأندلس لأنه تغلب عليها عبد الرحمن الأموي الداخل كما تقدم , وفي سنة تسع وأربعين ومائة تم بناء بغداد ونقل إليها دار الخلافة.
وفي سنة (58 ) شكى الناس إليه ضيق المسجد الحرام فاشترى المنازل من حوله وأدخلها فيه , وعمر مسجد الخيف بمنى , ورخم الحجر رحمه الله . 
وفي سنة خمسين ومائة توفي الامام الأعظم أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان من أبناء فارس من أهل كابل أو من أهل نسا أو من الأنبار أو من ترمذ , والنعمان بن المرزبان هو الذي أهدى لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه الفالوذج في يوم المهرجان فقال علي رضي الله عنه ((مهرجونا كل يوم هكذا )) , وذهب ثابت إلى علي وهو صغير فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته . أخذ أبو حنيفة الفقه عن حماد بن أبي سليمان وسمع من عطاء بن أبي رباح , وأبي اسحق السبيعي , ومحارب بن دثار , والهيثم بن حبيب الصراف , ومحمد بن المنكدر , ونافع مولى عبد الله بن عمر , وهشام بن عروة . وكان في زمن أبي حنيفة أربعة من الصحابة , وهم أنس بن مالك , وعبد الله بن أبي أوفى بالكوفة , وسهل بن سعد الساعدي بالمدينة , وأبو الطفيل عامر بن واثلة بمكة , ولم يلق أحداً منهم ولا أخذ عنهم شيئاً . وآخر من مات من الصحابة أبو الطفيل رضي الله عنه . وروى عن أبي حنيفة عبد الله بن المبارك , ووكيع بن الجراح , والقاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم , ومحمد بن الحسن الشيباني وغيرهم .
كان عالماً عاملاً زاهداً ورعاً متعبداً تقياً خاشعاً دائم التضرع وكان ربعة حسن الوجه , حسن الخلق , حسن المجالسة والمواساة لإخوانه , أحسن الناس منطقاً وأحلاهم نغمة , قال الشافعي : الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه .قيل لمالك بن أنس :رأيت أبا حنيفة ؟ فقال : نعم رأيت رجلاً لو كلمته في هذه السارية ان يجعلها ذهباً لقام بحجته , كان إماماً في القياس , توفي ببغداد في رجب من السنة المذكورة ودفن في مقبرة الخيزران وعمره سبعون سنة . قال الإمام الأوزاعي رضي الله عنه : كنت بالساحل فبعث إلى أمير المؤمنين المنصور فلما وصلت إليه سلمت عليه بالخلافة فرد علي السلام وأجلسني وقال لي : ما الذي أبطأك عنا يا أوزاعي ؟ قلت : وما تريد يا أمير المؤمنين ؟ قال : أريد الأخذ عنكم والاقتباس من نوركم , قلت : إياك يا أمير المؤمنين أن تسمع شيئأ ولا تعمل به , فصاح الربيع وأومأ بيده إلى السيف فانتهره المنصور وقال هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة . قال الأوزاعي : فقلت يا أمير المؤمنين حدثني مكحول , عن عقبة بن بشر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ايما والٍ بات غاشاً لرعيته حرم الله عليه الجنة )) , يا أمير المؤمنين ان الملك لو بقي لمن قبلك لم يصل إليك , فكذا لا يبقي لك كما لم يبق لغيرك , جاء عن ابن عباس في هذه الآية
{ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } ان الكبيرة القهقهة , والصغيرة التبسم , فكيف بما عملته الأيدي وحصدته الألسن , يا أمير المؤمنين بلغني أن عمر بن الخطاب قال : 
(( لو ماتت شاة على شاطئ الفرات ضيعة لخشيت أن أسأل عنها )) فكيف بمن حرم عدلك وهو على بساطك . فأخذ المنصور المنديل ووضعه على وجهه وبكى وانتحب حتى أني رحمته , ثم قلت : يا أمير المؤمنين ان أشد الشدة القيام لله بحقه , وإن أكرم الكرم التقوى , ومن طلب العز بطاعة الله رفعه وأعزه , ومن طلبه بمعصية الله أذله الله ووضعه , فهي نصيحتي لك يا أمير المؤمنين والسلام عليك ورحمة الله , ثم نهضت فقال لي : إلى أين ؟ فقلت : إلى الولد والوطن يا أمير المؤمنين بإذنك إن شاء الله تعالى , فقال : أذنت لك وشكرت نصيحتك وقبلتها والله الموفق للخير والمعين عليه فلا تخلني من مطالعتك إياي بمثلها ,فإنك المقبول غير المتهم في النصيحة , قلت : افعل إن شاء الله . فأمر له المنصور بمال يستعين به على حروجه فلم يقبله وقال : أنا في غنية عنه يا أمير المؤمنين وما كنت أبيع نصيحتي بعرض من الدنيا . فعرف المنصور مذهبه وصدق قصده فلم يجد عليه في رده صلته . (( رحم الله تلك الأرواح الطاهرة )) .
توفي الأوزاعي سنة سبع وخمسين ومائة عن تسع وستين سنة من عمره . وهو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد _ بضم المثناة التحتية وكسر الميم _ الأوزاعي ولد ببعلبك سنة ثمان وثمانين ونشأ يتيماً في حجر أمه وتنقلت به أمه من بلد إلى أخرى لطلب العلم فسمع من الزهري , وعطاء , ويحيى بن أبي كثير ,ورأى مالك بن أنس , والثوري , ورحل إلى البصرة فرأى الحسن البصري , وابن سيرين , وتأدب بنفسه بما لم يكن في الملوك والخلفاء أعقل ولا أعلم ولا أورع ولا أفصح ولا أوقر ولا أنصح منه .
وأخذ عنه جماعة منهم عبد الله بن المبارك , ثم نزل دمشق بمحلة أوزاع خارج باب الفراديس , وتسمى بالعقيبة وإليها ينسب وهو لم يكن منها , ثم ساد في أهلها وفي سائر البلاد في الفقه والحديث والمغازي وغيرها وخرج له أصحاب الكتب الستة . وكان الأئمة في زمنه يجلونه ويوقرونه لعلمه وعمله , ثم انتقل إلى بيروت بقصد المرابطة واستوطنها وبها توفي في حمام بيته لليلتين بقيتا من صفر أو من ربيع الأول في السنة المذكورة وقبره خارج بيروت على ثلاثة أميال منها بقرية يقال لها(حنتوس ) أصبحت الآن رسماً لا أثر لها . كان رحمه الله فوق الربعة , خفيف اللحية , وبه سمرة . وقد بقي أهل الشام وما يليها وأهل الأندلس يتعبدون على مذهبه نحو مائتين وعشرين سنة . اجتمع المنصور بامام دار الهجرة مالك بن أنس 
(( رضي الله عنه )) بالمدينة المنورة وأخذ عنه الموطاً حين حج وعمر المسجد الحرام ووسعه . وطلب من مالك أن يهدم الكعبة ويبنيها على قواعد إبراهيم واسماعيل عليهما السلام فلم يأذن له وقال : لا تجعل البيت ألعوبة للملوك يا أمير المؤمنين , فامتثل أمره . 
توفي المنصور رحمه الله تعالى قبل دخوله مكة المكرمة , سقط عن فرسه فمات في سابع ذي الحجة سحراً سنة ثمان وخمسين ومائة ودفن هناك وهو ابن ثلاث وستين سنة ومدة خلافته حدى وعشرون سنة واحد عشر شهراً .

الثالث من الخلفاء العباسيين

هو محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد . بيع له بالخلافة يوم وفاة أبيه المنصور بعهد منه وهو يومئذ ببغداد كان جواداً , ممدوحاً , محبباً إلى الرعية , حسن الخلق والخُلقُ , وهو أول من أمر بتصنيف كتب الجدل للرد على الزنادقة الملحدين لأنهم كثروا كثيراً في جهة بلاد حلب فقاتلهم وأفنى منهم خلقاً كثيراً . وفي سنة ( 160 ) حج المهدي وكسا الكعبة وطيبها بالمسك والعنبر من أسفلها إلى أعلاها ومن داخلها وخرجها , ولم تكن الكعبة المعظمة وقتئذ في وسط المسجد فاشترى دوراً كثيرة وزاد في الحرم الجانب الشمالي الشامي واليماني حتى صارت الكعبة المعظمة وسط الحرم , وهو أول من حمل إلى مكة الثلج ,وأمر بعمارة وإصلاح طريق مكة, وحفر البرك , والركايا لجمع ماء المطر , وأمر يتقصير المنابر وصيرها على مقدار منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم , وهو أول من جهز اصرة وعينها لأهل الحرمين , كانت وفاته سنة تسع وستين ومائة ولم يوجد له نعش في المحل الذي توفي فيه فحمل على باب ودفن تحت شجرة جوز بقرية من قرى ما سندان وصلى عليه ولده الرشيد وله اثنان وأربعون سنة , ومدة خلافته عشرسنين وشهر . 
وفي سنة إحدى وستين ومائة توفي إبراهيم بن أدهم بن منصور بن بكر بن وائل الزاهد المشهور بجبلة , ولد ببلخ ورابط بساحل الشام كان يأكل من عمل يده كالحصاد والعمل في الطين وحفظ البساتين .

الرابع من الخلفاء العباسيين

هو الهادي بن محمد المهدي , بويع له بالخلافة بعد موت أبيه سنة (169 ) وكان مقيماً بجرجان يحارب أهل طبرستان فبويع له بما سندان ثم أخذ له البيعة العامة ببغداد أخوه الرشيد وقدم بغداد . كان طويلاً , جسيماً , مليحاً ذا عظمة وجبروت , أمه أم ولد بربرية هي الخيزران وهي أم الخلفاء العباسيين , وهو أول من مشت الرجال بين يديه بالسيوف المرهفة , وكان اكمال عمارة بيت الحرام في ايامه .
وفي أيامه سنة (168 ) ظهر الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمدينة في جمع عظيم من أهل بيته وجرى بينه وبين عامل المدينة من طرف الهادي
(وهو عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ) قتال فانهزم عمر وبايع الناس الحسين ثم خرج الحسين إلى مكة ولحق به جماعة من عبيد مكة وكان قد حج تلك السنة جماعة كثيرة من بني العباس منهم سليمان بن أبي جعفر المنصور , ومحمد بن سليمان بن علي وانضم إليهم جماعة من شيعتهم ومواليهم فاقتتلوا بوج يوم التروية فقتل الحسين وانهزم أصحابه وقتل من الحسنيين كثير وأفلت منهم إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم فذهب إلى مصر وعلى بريدها واضح الشيعي مولى بني العباس فحمل إدريس على البريد إلى المغرب إلى أرض طنجة فبلغ الهادي ذلك فضرب عنق واضح وبقي إدريس هناك حتى أرسل الرشيد إليه الشماخ الناعي فاغتاله بالسم , وكان لإدريس حظية حبلى فولدت بعده ابناً سموه إدريس باسم أبيه ثم كبر واستقل بملك تلك البلاد وكثرت ذرية الحسن فيها . توفي الهادي ببغداد سنة سبعين ومائة عن أربع وعشرين سنة من عمره ومدة خلافته سنة وخمسة وأربعون يوماً .

الخامس من الخلفاء العباسيين


هو هارون الرشيد بن محمد المهدي . بويع له بالخلافة بعد موت أخيه الهادي سنة (170 ) وولد له ولده المأمون ( فكانت ليلة مات فيها خليفة وولي خليفة وولد خليفة ) وأمه الخيزران أم الهادي . نقش ( العظمة والقدر لله عز وجل ) . كان أبيض , طويلاً , جميلاً , مليحاً , جسيماً قد وخطه الشيب وهو من أجل ملوك الأرض , له نظر في العلم والأدب , كان يصلي كل يوم وليلة مائة ركعة , ويتصدق من خالص ماله كل يوم بألف درهم وكان يحب العلم والعلماء , حكي أن أبا معاوية الضرير قال : أكلت مع الرشيد يوماً فصب على يدي رجل لا أعرفه , ثم قال الرشيد : أتدري من صب على يديك ؟ قلت : لا قال : أنا إجلالاً للعلم .
اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره , وزراؤه البرامكة وقاضيه أبو يوسف , وشاعره مروان بن أبي حفصة , ونديمه العباس بن محمد ابن عم أبيه , وزوجته زبيدة , وإبراهيم الموصلي , وحاجبه الفضل بن الربيع أبهى الناس وأعظمهم , وبالجملة فقد كانت أيام الرشيد كلها خيراً وعلماً وأدباً وفقهاً وصناعة , أول اصطناع الساعة كان في أيامه , وهو الذي أهدى الساعة الشهيرة إلى شارلمان ملك فرنسا وقتئذ . أما ما يذكره بعض المؤرخين والقصاصون من أنه كان يتعاطى المنكيرات و المسكرات وأنه كان ينهمك في اللهو واللذات والشهوات , وما يذكرونه عن أبي نواس الحسن بن هاني من الحكايات والخزعبلات مع الرشيد فكله كذب لا آصل له ولا يجوز نقله ولا التكلم به , كيف ومقام الخلافة ينزه عن مثل ذلك خصوصاً مقام هارون الرشيد وتمكنه من العلم والدين والقرابة من النبوة , انظر إلى كتاب الخراج الذي ألفه أبو يوسف القاضي لهارون الرشيد تعرف وتتحقق مقام الرشيد في العلم والدين رحمه الله تعالى وعفى عنه .
دخل ابن السماك على هارون الرشيد يوماً فاستسقى الرشيد فأتي بكوز فلما أخذه قال له ابن السماك : على رسلك يا أمير المؤمنين , لو منعت هذه الشربة بكم تشتريها ؟ قال: بنصف ملكي , قال : اشرب هناك الله فلما شرب قال : أترى لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشتري خروجها , قال : بجميع ملكي قال : ان ملكاً قيمته شربة ماء لجدير أن لا يتنافس فيه فبكى الرشيد . ولما ولي الخلافة رأي النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له : إن هذا الأمر قد صار إليك فاغز وحج ووسع على أهل الحرمين , فجهز الجيوش وغزا في أطراف بلاد الروم وظفر وحج بالناس ماشياً , وفرق بالحرمين مالاً كثيراً فعل ذلك كله في عام واحد . ولما ولي الخلافة قلد جعفر بن يحيى البرمكي الوزارة فبقي في الوزارة سبع عشرة سنة , قال يحيى لابنه جعفر : يابني ما دام قلمك يرعد فامطره معروفاً . ثم قويت شوكة البرامكة وسطوتهم وغناهم وقوي عزمهم بسبب غناهم وكرمهم وسخاهم حتى كاد أن يظهر فيهم الزندقة وفساد العقيدة والملك والصحيح أنهم استبدوا بالملك دونه فخشي عليه منهم فلذا قتلهم وأبادهم وذلك في مستهل صفر سنة (184 ) .
توفي هارون الرشيد في الغزو بطوس من بلاد خراسان وبها دفن في ثالث جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة عن خمس وأربعين سنة من عمره . قيل أنه رأى مناماً أنه يموت بطوس فبكي وقال : احفروا لي قبراً فحفروا له , ثم حمل وهو مريض في قبة على جمل حتى نظر إلى القبر فقال : يا ابن آدم تصير إلى هذا ثم أمر قوماً فنزلوا القبر وقراؤا فيه ختمة من القرآن وهو على شفير القبر وعهد بالخلافة لولده الأمين وهو حينئذ ببغداد . ومدة خلافته ثلاث وعشرون سنة وشهران ونصف .
في سنة تسع وسبعين ومائة توفي أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن عامر بن عمر بن الحارث الأصبحي المدني امام دار الهجرة . وُلد بالمدينة سنة خمس وتسعين , وأخذ العلم عن نافع بن أبي نعيم , وعن الزهري , وعن نافع مولى ابن عمر بن الخطاب . وروى عنه الأوزاعي , ويحيى بن سعيد , والشافعي ونودي في المدينة لا يفتي الناس إلا مالك بن أنس , كان إذا أراد أن يحدث توضاً وجلس على صدر فراشه وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة تعظيماً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكان لا يركب في المدينة مع ضعفه وكبر سنة ويقول : لا أركب في مدينة فيها جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفون , ثم لم يزل في علو ورفعة مقام إلى أن توفي بالمدينة في الربيع الأول من السنة المذكورة عن أربع وثمانين سنة من عمره ودفن ببقيع الغرقد . وفي هذه السنة توفي مسلم بن خالد الزنجي الفقيه المكي شيخ الشافعي قبل مالك أخذ عنه الفقه , كان أبيض , مشرباً بحمرة . فلذا سمي الزنجي .
وفي سنة (180 ) توفي سيبويه واسمه عمرو بن عثمان بن قنبر اعلم المتقدمين والمتأخرين في النحو أخذ النحو عن الخليل بن أحمد توفي بمدينة ساوة وقيل بشيراز وعمره اثنتان وثلاثون سنة . وسيبويه فارسي معناه رائحة التفاح لجمال صورته .
وفي سنة ( 180 ) توفي القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم من ولد سعد بن خيثمة الصحابي الأنصاري , نشأ أبو يوسف يتيماً وطالت على أمه صحبته لأبي حنيفة واعراضه عن تعلم حرفة يتعيش بها فحضرت عند أبي حنيفة وعاتبته على ذلك فقال لها : مري يا رعناء ها هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق , فلما كبر وأكله عند الرشيد ذكر ذلك له فقال الرشيد : ان أبا حنيفة كان ينظر بنور الله .

السادس من الخلفاء العباسيين
هو محمد الأمين بن هارون الرشيد . بويع له بالخلافة بعد موت أبيه الرشيد سنة (193 ) بعهد منه , وأمه زبيدة بنت جعفر بن المنصور ولم يكن في الخلفاء من أمه هاشيمة سواه وسوى علي بن أبي طالب ,والحسن , والحسين رضي الله عنهم . كان الأمين من أحسن الناس صورة طويلاً , أبيض , جميلاً , مليحاً , بديع الحسن جداً, ذا قوة مفرطة وبطش وشجاعة وفصاحة وأدب وفضيلة أشرف الخلفاء _العباسيين_ أبا واماً . لكنه كان سيء التدبير كثير التبذير لا يصغي إلى قول مشير عليه , يشتغل باللهو والاقبال على اللذات . لما ولي الخلافة فرق الأموال وانعكف على الشراب 
ومنادمة الفساق . وأرسل إلى الجهات فجمعوا له المغاني وأجرى لهم الرواتب واحتجب عن الأمراء والأعيان فلم يزل يعمل برأيه السقيم وصمم على ذلك أشد تصميم حتى قام المأمون عليه وجهز لقتاله وحصره ببغداد . وبلغ الخبر الأمين وهو في جنب حوض ماء مع جواريه يتصيد السمك وكان وضع في أنف كل سمكة درة نفيسة شبكها بقضيب من الذهب فكل من صادت من جواريه سمكة كانت الدرة لصائدها , فرفع الأمين رأسه وقال للذي أخبره : ويلك دعني فإن الجارية فلانة قد صادت سمكتين وأنا ما صدت شيئاً بعد . فاستمر القتال وفسد الحال وفقدت الأموال وكثرت الفتن والخراب حتى درست محاسن بغداد , ودام حصارها خمسة عشر شهراً , ولحق أكثر العقلاء وأصحاب السياسة وأركان الدولة بالمأمون ولم يبق مع الأمين من يقاتل عنه إلا قليل , إلى أن استهلت سنة ثمان وتسعين ومائة دخل طاهر بن الحسين ومن معه من العسكر بغداد بالسيف قهرا فخرج الأمين بأمه وأهله من القصر إلى مدينة فدخل عليه قوم من العجم ليلا فقتلوه وذهبوا برأسه إلى طاهر وبعثه طاهر مع البردة والقضيب إلى المأمون فاشتد على المأمون قتل أخيه الأمين وكان يحب أن يرسله إليه حياً ليرى فيه رأيه , فحقد المأمون على طاهر بن الحسين وأهمله إلى أن مات طريداً بعيداً , وكان قتل الأمين في المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة عن سبع وعشرين سنة من عمره , دفن ببغداد ومدة خلافته أربع سنين وثمانية أشهر .

السابع من الخلفاء العباسيين

هو أبو العباس عبد الله المأمون بن هارون الرشيد . بويع له بالخلافة في حياة أخيه سنة (( 198)) .كان أبيض , مربوعاً , مليح الوجه , طويل اللحية , ديناً عارفاً بالعلم , فيه دهاء وسياسة , قراء العلم في صغره مع أخيه الأمين على أبي حنيفة رحمه الله , وسمع الحديث من أبيه . كان عظيم العفو , كان يقول : (( لو يعلم الناس ما اجد في العفو من اللذة لتقربوا إلى بذنوب )) , كان جواداً بالاموال عارفاً بعلم النجوم . لم يل الخلافه من بن العباس اعلم منه , كانت أمه أم وُلد اسمه سراجل ماتت في نفاسه به . وفي أيامه ظهر القول بخلق القرآن وحمل المأمون الناس على ذلك وكل من لم يقول بخلقه عاقبه اشد العقوبة , كان أمره نافذاً في جميع الاقطار إلى افريقية حتى اقاصي بلاد خراسان وما وراء النهر إلى الهند والسند .
غزا بلاد الروم وفتح فتوحات كثيرا ً وكان يخرج بالليل ويتفقد أحوال عسكره وينظر من يحبه ومن يبغضه وكان يحب معرفة أحوال الناس , عين نحو ألف وسبعمائة عجوز يدرن في المدينة يعرفنه أحوال الناس كل يوم . وفي سنة مائتين امر المأمون بإحصاء ولد العباس فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفاً ما بين ذكر وانثى . وفي سنة ( 201 ) جعل ولي عهده من بعده علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق أحد الأئمة , فاشتد ذلك على بني العباس جداً فخرجوا عليه . وقد شدد القول بخلق القرآن وتفضيل علي على أبي بكر وعمر فاشمأزت النفوس منه وكتب بذلك إلى عماله أن يمتحنوا الناس ويحملوهم على هذا القول , فأجابه طائفة وامتنع آخرون , فأحضر أحمد بن حنبل وهو ممن امتنعوا فقيل له : ماتقول في كلام الله أمخلوق هو ؟ قال : هو كلام الله لا أزيد على هذا , ثم بلغ المأمون أن الذين أجابوا إنما أجابوا مكرهين فأمر بإحضارهم وهو بالروم فحملوا إليه فبلغتهم وفاته قبل وصولهم إليه , وكان قد استحضر كتب فلسفة اليونان من قبرص وأمر بترجمتها إلى العربية فنشأ بعد ذلك عنها الخلاف .
توفي المأمون في رجب سنة ثمانية عشر ومائتين بقرية دندون من أرض الروم , ونقل إلى طرسوس وبها دفن وقد بلغ من العمر ثمان وأربعين سنة . ومدة خلافته عشرون سنة وخمسة أشهر , قال قبل أن يموت : يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه . ولما ورد خبر وفاته إلى بغداد قال أبو سعيد المخزومي : هل رأيت النجوم أغنت عن المأمون في ثبت ملكه المأسوس خلفوه بعرصتي طرسوس مثل ما خلفوا أباه بطوس

تذييل
في سنة أربعة ومائتين توفي بمصر الإمام الشافعي وهو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد المناف , وشافع الذي نسب إليه الشافعي لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع وأبوه السائب أسلم يوم بدر . فالشافعي رحمه الله يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف ,وكانت زوجة هاشم بن المطلب بن عبد مناف بنت عمة الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف فولد له منها عبد يزيد جد الشافعي , فالشافعي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته لأن الشفاء أخت عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وُلد الشافعي بغزة سنة خمسين ومائة , ثم تفقه على مسلم بن خالد الزنجي وأذن له بالافتاء وهو ابن خمس عشرة سنة , وأخذ بالمدينة عن مالك بن أنس ,ثم قدم بغداد سنة (196 ) وكان أبو يوسف قد توفي , فاجتمع بمحمد بن الحسن , قال الشافعي : رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في منامي فسلم علي وصافحني وجعل خاتمه في إصبعي . ففسروها أن مصافحته أمان من العذاب , وجعله الخاتم في إصبعي انه سيبلغ اسمي ما بلغ اسم علي في المشرق والمغرب . توفي في رجب من السنة المرقومة عن أربع وخمسين سنة من عمره ودفن بالقرافة الصغرى بعد العصر من يوم الجمعة , وله مقام يزار ومسجد جامع . ومن دعائه : اللهم يالطيف أسالك اللطف فيما جرت به المقادير . ومن حكمه البديعة الرائعة قوله :
(( الانبساط إلى الناس مجلبة لقرناء السوء والانقباض عنهم مكسبة للعداوة فكن بين المنقبض والمنبسط )) وقال :
(( إنك لا تقدر أن ترضي الناس كلهم فأصلح مابينك وبين الله ثم لا تبال بالناس )) .

الثامن من الخلفاء العباسيين

هو المعتصم بالله إبراهيم بن هارون الرشيد بويع له بالخلافة يوم مات أخيه المأمون ( بسر من رأى ) كان أبيض , مربوعاً ,شجاعاً , قوي البدن , وكان فيه عنف وظلم , يرهب الأعداء كان أشد الناس بطشاً , وكان عرياً من العلم , لأن الرشيد كان يميل إليه فاتفق أنه مات غلام يقرأ معه في المكتب فقال له الرشيد : يا إبراهيم مات غلامك قال : نعم واستراح من الكتاب قال : وإن الكتاب ليبلغ منك هذا دعوه لا تعملوه . فكان يكتب ويقرأ قراءة خفيفة , حكي عنه أنه كان جالساً في مجلس أنسهُ وفي يده الكأس فبلغه أن امرأة شريفة في الأسر عند علج من علوج الروم في عمورية وأنه لطمها على وجهها يوماً فصاحت وامعتصماه فقال لها العلج : ما يجيء إليك المعتصم إلا على الابلق فلما سمع ذلك اغتم شديداً وختم الكأس وناوله لساقيه وقال : والله لا أشربه إلا بعد فك هذه الشريفة من الأسر وقتل العلج , فنادى بالرحيل إلى غزو عمورية وأمر أن لا يخرج أحد من العسكر إلا على فرس أبلق فخرجوا في سبعين ألف فرس أبلق فنزل بها فحاصرها حتى فتحها عنوة فلما دخل كان يقول : لبيك لبيك , وطلب العلج فضرب عنقه وفك قيود الشريفة وقال للساقي : ايتني بالكأس التي أودعتها فأتاه بها وفك ختمه وشربه وقال : الآن طاب الشراب . واحتوى على ما فيها من الأموال وقتل منها ثلاثين ألفاً وقيل تسعين ألفاً . وكتب إليه ملك الروم كتاباً يتهدده فيه فلما قرأ الكتاب قال للكاتب اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم , أما بعد فقد قرأت كتابك وسمعت خطابك والجواب ما ترى لا ما تسمع وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار . فجهز الجيوش وفرقها ففتحوا وغنموا ورجعوا سالمين .
كان لما عهد المأمون إلى أخيه المعتصم أوصاه أن يحمل الناس على القول بخلق القرآن ,واستمر الامام أحمد بن حنبل محبوساً إلى أن بويع المعتصم فأحضره إلى بغداد وعقد له مجلساً للمناظرة فناظروه ثلاثة أيام ولم يزل إلى اليوم الرابع فأمر بضربه فضرب إلى أن أغمي عليه وهو صائم ولم يزل الامام أحمد يتوجع حتى مات سنة إحدى وأربعين ومائتين , ينتسب إلى معد بن عدنان كان مجتهداً ورعاً فقيهاً ,حزر من حضرجنازته من الرجال فكانوا نحو ثمانمائة ألف ومن النساء نحو ستين ألفاً , قيل وأسلم يوم موته نحو عشرين ألفاً . توفي المعتصم لاثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين عن ثمان وأربعين سنة من عمره , ومدة خلافته ثمان سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام وهو الثامن من الخلفاء بني العباس ووقف ببابه ثمانية ملوك وفتح ثمانية فتوحات وخلف ثمانية بنين وثماني بنات فلهذا يدعى بالثمانيني .

التاسع من الخلفاء العباسيين

هوالواثق بالله أبو جعفر هارون بن المعتصم , بويع له بالخلافة ( بسر من رأى ) بعد موت أبيه , كان أبيض , ملحياً , يعلوه اصفرار , حسن اللحية , عالماً أديباً جيد الشعر , شجاعاً , مهيباً حازماً فيه جبروت . وهو أول خليفة استخلف سلطاناً وألبسه التاج . كان أعلم الخلفاء بالغناء وله أصوات وألحان عملها نحو مائة صوت , وله ألف الأصفهاني كتاب الأغاني , وكان قد تبع أباه في القول بخلق القرآن ثم رجع عن هذا القول قبل موته , وذلك أنه أتي بشيخ مكث في السجن بقيوده فلما وقف بين يديه سلم عليه فلم يرد الواثق السلام فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين بئس ما أدبك به مؤدبك قال الله تعالى : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } فما حييتني بأحسن منها ولا بها فقال الواثق : وعليك السلام , ثم قال لا بن أبي دؤاد : سله , فقال الشيخ : المسئلة لي مرة فأجبني , فقال : سل فأقبل الشيخ على أبي دؤاد وقال : أخبرني عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه أشيء دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا , قال : دعا إليه أبو بكر الصديق بعده ؟ قال : لا , قال : دعا إليه عمر بن الخطاب بعدهما ؟ قال: لا , قال : دعا إليه عثمان بعدهم ؟ قال : لا , قال : دعا إليه علي بن أبي طالب بعدهم ؟ قال : لا , فقال الشيخ : شيء لم يدع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله عنهم تدعو أنت إليه الناس فهو لا يخلو من أحد أمرين إما أن تقول علموه أو جهلوه فإن قلت علموه وسكتوا عنه وسعنا وإياك من السكوت ما وسع القوم, وإن قلت جهلوه وعلمته أنت فيا لكع ابن لكع يجهل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاءُ الراشدون بعده ( رضي الله عنهم ) شيئاً وتعلمه أنت وأصحابك , فالزمه الشيخ إلزاماً صحيحاً فعند ذلك أمر الواثق بفك قيود الشيخ فأخذها الشيخ ووضعها في كمه , فقال الواثق : ما تفعل به ؟ قال: أوصي لمن بعدي إذا مت أن يضع القيد بيني وبين كفني حتى أخاصم هذا الظالم يوم القيامة فأقول : يا رب سل عبدك هذا لم قيدني وروع إهلي وولدي وإخواني بلا حق وجب علي فبكى الحاضرون , ثم سأله الواثق أن يجعله في حل فقال الشيخ : جعلتك في حل إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كنت من أهل بيته . فرجع الواثق عن هذا القول وأطلق الشيخ وأكرمه وأحسن إليه . والشيخ المذكور هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد الأزدي شيخ أبي دؤاد والكسائي .
توفي الواثق في رجب سنة اثنين وثلاثين ومائتين عن ست وثلاثين سنة , ومدة خلافته خمس سنين وتسعة أشهر ولما احتضر جعل يقول :
الموت فيه جميع الناس مشترك لا سوقة منهم يبقى ولا ملك
ما ضر أهل قليل في تفاقرهم فليس يغني عن الاملاك ما ملكوا
ثم ألصق خده بالأرض وجعل يقول : يا من لا يزول ملكه ارحم من يزول ملكه . ثم قبض رحمه الله .

العاشر من الخلفاء العباسين
هو المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بن الرشيد . بويع له بالخلافة ( بسر من رأى) بعد موت أخيه الواثق بعهد منه (232 ) .كان أسمر , رقيقاً , مليح العينين , خفيف اللحية معتدلاً , وهو الذي أحيى السنة وأمات بدعة القول بخلق القرآن وكتب إلى الآفاق برفع المحنة وإظهار السنة وأعز علمائها وخمدت المعتزلة وكانوا قبله في قوة لكنه كان يبغض علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويكثر الوقيعة فيه . وقد أمر بهدم قبر الحسين عليه والسلام ومنع الناس من زيارته فاشمأزت منه المسلمون وتألموا من ذلك وهجاه الشعراء فمما قيل فيه : ( وأجاد القائل ) :
تالله ان كانت أمية قد أتت قتل ابن بنت نبيها مظلوماً
فلقد أبان بنو أبيه بمثله هذا لعمرك قبره مهدوماً
اسفوا على أن لايكونوا شاركوا في قتله فتتبعوه رميماً
ولابن الوردي بيتان:
وكم قد محي خير بشركما انمحت ببغض علي سيرة المتوكل
تعمق في عدل ولما جنى على جناب علي حطه السيل من عل

ومن الأعاجيب التي وقعت في أيامه أنه هبت ريح شديدة سموم بالعراق فأحرقت زرع الكوفة وبغداد وقد ظلت عاصفة خمسة وخمسين يوماً فاتصلت بهمذان , والموصل , وسنجار فأحرقت زرعاً وخلقاً كثيراً , وجاءت زلزلة هائلة بدمشق سقطت منها دور وهلك خلق كثير .
وفي سنة (( 238 )) فاجأت الروم دمياط بغتة فنهبوها وولوا مسرعين في البحر .
وفي سنة ((242 )) زلزلت الرض زلزلة عظيمة بتونس , والري , وخراسان , ونيسابور ,وطبرستان ,وأصبهان , وتقطعت جبال وتشققت الأرض بقدر ما يدخل الرجل , ورجمت قرية السويدا بناحية مصر بحجارة كل حجرة بمقدار خمسة عشر رطلاً , وغار جبل باليمن عليه مزارع وقرى . وفي سنة((243 ))قدم المتوكل دمشق فأعجبه سكناها فبنى له قصر بداريا , ثم رجع بعد شهرين .
وفي سنة (( 245 ))خسفت ثلاث عشرة قرية بالمغرب وفيها عمت الزلازل جميع الأرض , وفيها غارت عيون بمكة فأرسل المتوكل مائة ألف دينار لإجراء الماء من عرفات.
ثم اتفق الجند مع ولد المتوكل على قتل أبيه فدخل عليه خمسة وهو في جوف الليل في مجلس لهوه فقتلوه وقتلوا وزيره الفتح بن خاقان. ومن العجب أنه قدم إلى المتوكل سيف لا يكون مثله فقال : هذا لا يصلح إلالساعد باغر فأعطاه إياه فقتله به وذلك في شوال سنة سبع وأربعين ومائتين عن أربعين سنة من عمره , ومدة خلافته أربع عشرة سنة .

الحادي عشر من الخلفاء العباسيين

هو المنتصر بالله أبو عبد الله محمد بن المتوكل , بويع له بالخلافة في الليلة التي قتل فيها أبوه, كان مربوعاً ,سميناً , مليحاً ,مهيباً , كامل العقل , قليل الظلم . أمر بزيارة قبر الحسين عليه السلام لكن من العجب أنه لما جلس على سرير الملك رأى في بعض البسط دائرة فيها فارس عليه تاج وحوله كتابة بالفارسية فطلب من يترجمها له بالعربية فإذا فيها (( أناشيروية بن كسرى بن هرمز قتلت أبي فلم أمتع بالملك ستة أشهر )). فتغير وجه المنتصر وأمر برفع البساط فحصل له حمى , قيل دسوا إلى طبيبة ابن طيفور بدنانير ففصده بريشة مسمومة فمات عن ست وعشرين سنة من عمره ومدة خلافته ستة أشهر .

الثاني عشر من الخلفاء العباسيين


هو المستعين بالله أحمد بن المعتصم , بويع له بالخلافة سنة ثمان وأربعين ومائتين , كان مربوعاً , مليح الوجه , أبيض بوجهه أثر جدري , الثغ يجعل السين ثاء , وهو أول من أحدث توسيع الأكمام وصفر القلانس وكانت طوالا . ثم غدروا به فقتلوه في شهر رمضان سنة ( 252 ) بعد فتن كثيرة عن إحدى وثلاثين من عمره ومدة خلافته سنتان وتسعة أشهر .

الثالث عشر من الخلفاء العباسيين


هو المعتز بالله أبو عبد الله محمد بن المتوكل , بويع له بالخلافة سنة ((251 )) وتوفي سنة خمس وخمسين ومائتين عن سبع وأربعين سنة من عمره ومدة خلافته أربع سنين وستة أشهر .

الرابع عشر من الخلفاء العباسيين


هو المهتدي بالله أبو عبد الله جعفر بن الواثق بن المعتصم بويع له بالخلافة حين خرجوا على ابن عمه المعتز سنة ((255 )) كان أسمر , رقيقاً , مليح الوجه , ورعاً , متعبداً , عدلاً , قوياً في أمر الله , شجاعاً , بطلاً لكنه لم يجد ناصراً يساعده ولا معيناً يعينه . لما ولي الخلافة أخرج الملاهي ومنع سماع الغناء والشراب وأمر بنفي المغنيات وترك المنكرات , والزم نفسه الجلوس للناس , وإزالة المظالم وكان يقول : اني لاستحيي من الله عز وجل أن لا يكون في بني العباس مثل عمر بن عبد العزيز في بني أمية .
توفي سنة ست وخمسين ومائتين عن اثنين وأربعين سنة , ومدة خلافته سنة إلا خمسة عشر يوماً ودفن في (سر من رأى ) .
وفي سنة ((256 )) توفي الإمام الحافظ سلطان المحدثين أبو عبد الله محمد بن اسماعيل بن بردذبة البخاري الجعفي صاحب الصحيح المتفق على الأخذ منه والعمل به بقرية من قرى سمرقند يقال لها ( خرنتك ) ليلة عيد الفطر منها .

الخامس عشر من الخلفاء العباسيين

هو المعتمد على الله أبو العباس أحمد بن المتوكل , بويع له بالخلافة بعد ابن عمه المهتدي سنة (( 256 )) كان أسمر , ربعة , رقيقاً مدور الوجه , مليحاً في لحيته شيب , منهمكاً على اللذات . ومن الحوادث التي حصلت في أيامه أن الزنج دخلوا البصرة وأعمالها وخربوا وقتلوا وأحرقوا وسلبوا أموالاً كثيرة . فاستمر القتال مع الزنج من حين تولى المعتمد إلى سنة سبعين ومائتين , ثم قتل رئيس الزنج (( لعنه الله )) واسمه يهوذ كان يدعي أنه نبي وأنه يطلع على المغيبات وقتل من المسلمين في هذه المدة ما ينيفُ على ألف ألف وخمسمائة ألف . كان له منبر يصعد عليه ويسب عثمان وعلياً ومعاوية وطلحة والزبير وعائشة ولما قتل هذا الخبيث وأدخلوا رأسه بغداد على رمح زينت بغداد .
وفي سنة ست وستين ومائتين دخلت عساكر الروم ديار بكر وهرب أهل الجزيرة والموصل وفيها وثب الاعراب على كسوة الكعبة العظيمة فانتهبوها , وغاز نيل مصر فغلت الأسعار .
وفي سنة ((261 )) توفي أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري صاحب الصحيح , لازم البخاري وأخذ عنه قال له يوماً : دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث .
وفي سنة (( 270 )) توفي داود بن علي الأصفهاني أمام أهل الظاهر , كان اماماً مجتهد ورعاً أخذ هو وأصحابه بظاهر الآثار والأخبار واعرضوا عن التأويل والقياس في الشريعة .
خالف الأئمة الأربعة في أمور , منها قوله : (( الشرب خاصة في آنية الذهب والفضة حرام , ويجوز الأكل والانتفاع بهما ))
لقوله صلى الله عليه وسلم : (( الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم )). وفي أيام المعتمد كان أول ظهور القرامطة من الملاحدة . 
توفي المعتمد فجأة سنة تسع وسبعين ومائتين عن خمسين سنة من عمره ومدة خلافته ثلاث وعشرون سنة .

تبيين

القرامطة ويقال لهم الباطنية قوم من الملاحدة ينتسبون إلى رجل يقال له حمدان قرميته فخفف فقيل قرمط أصله من قرية من قرى واسط . وهم (( أي القرامطة )) طائفة أصلهم من المجوس . لما رأوا قوة المسلمين والاسلام واستيلائهم على البلاد اجتمعوا وتذاكروا ماكان عليه أسلافهم من قوة الملك والأكاسرة فتفاوضوا وقالوا لا سبيل لنا ولا قوة إلى دفع المسلمين بالسيف والمحاربة لقوة سيطرتهم وغلبتهم على الملك والبلاد ولا وسيلة إلا أن نتخذ الحيلة عليهم بوقوع التشكيك في دينهم وتأويل شريعتهم إلى ما يعود على قواعد المجوسية فنصطاد بذلك ضعفاء المسلمين وجهالهم وذلك يوجب فيهم وقوع الخلل والاختلاف والتفرق واضطراب الكلمة وتشتت الأهواء . وكان رؤساءهم في ذلك حمدان قرمط , وعبد الله بن ميمون القداح , وبابك الحزمي فتظاهروا أولاً بالصلاح والتقوى والزهد والورع فاجتمع عليهم بعض الجهلة الذين لا عقل لهم ولا دين فصاروا يلقون عليهم مسائل من الشريعة يخفى على الجهلة فهم معناها كقولهم : ما معنى الحروف المقطعة في أوائل السور , وما معنى قضاء صوم الحائض دون قضاء صلاتها , وما معنى وجوب الغسل من نزول المني دون البول , وما معنى عدد الركعات أربعاً وثلاثاً وثنتين إلى غير ذلك ,ويؤخرون عنهم الجواب ويعدونهم ويقولون لهم : الآن لا تطيقون الجواب لتتعلق قلوب الجهلة بمراجعتهم لفهم ذلك وغايتهم إدخال التشكيك والتزييغ عن الحق فإذا ما تمكنوا منهم ألقوا عليهم ما يوافققواعدهم التي أسسوها بتعطيل الأحكام وترك العبادات ثم شرعوا يقولون لهم ان الأمر الحقيقي من ألفاظ الوضوء وعدد الصلاة والركعات ونحو ذلك إنما هو محبة رؤساء هذه الطائفة . وصاروا يؤولون لهم آيات القرآن بما يوافق ضلالاتهم , فأباحوا الخمر , والمحرمات وحرموا النبيذ , وأباحوا الفسوق , ونكاح المحارم , وأثبتوا الحلول والتناسخ وكثر جمعهم وفسادهم فاستولوا على بعض البلاد كهجر والحسا وبلاد البحرين وتلك النواحي وفتكوا بالمسلمين وكثرت أتباعهم وجيوشهم . (( والجهل والجهلاءُ كثيرون وطبائعهم ميالة إلى ترك العبادات والتكاليف )) .
ثم حصلت محاربات كثيرة في أمام الخلفة المقتدر فانهزمت عساكر الخلفة لكثرة القرامطة , وانقطع الحج سنين خوفاً من شرهم وخرج أهل مكة منها . وفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة جهز المقتدر جيشاً للحجاج مع المنصور الديلمي فوصلوا مكة , ثم وافاهم يوم التروية عدو الله أبو طاهر القرمطي بجيش عظيم فدخل مكة وقتل الحجيج في المسجد الحرام قتلاً ذريعاً , وطرح القتلى في بئر زمزم وضرب الحجر الأسود بدبوس كان بيده , ثم اقتلعة وأخذه معه ورجع بعد أن أقام بمكة أحد وعشرين يوماً وبقي الحجر الأسود عندهم نحو عشرين سنة حتى أرجعه الخليفة المطيع مع أبي طاهر القرمطي ثم انصرف إلى بلده .
وفي سنة ( 360 ) توجهوا إلى دمشق فأخذوها وقتلوا أميرها , ثم توجهوا إلى يافا والرملة وتوابعهما وساروا إلى مصر وحصل بينهم وبين عساكر جوهر محاربات وقتال فآل الأمر إلى انهزام القرامطة من مصر فرجعوا إلى البلاد الشامية وانتشر شرهم في تلك الجهات , ثم خرجوا من دمشق بعد ثلاث سنين ورجعوا إلى بلادهم هجر التي كانوا يسمونها دار الخلافة ثم تفرقوا ووقعت الفتن بينهم إلى أن دمر الله تعالى هذه الطائفة الطاغية الفاجرة ومزقهم كل ممزق .
وكان قد ابتلي أبو طاهر بداء الأكلة حتى صار يتناثر لحمه بالدود ومات أشقى وأسوأ ميتة وعذبه الله بأنواع البلاء في الدنيا ((ولعذاب الآخرة أشد وأبقى )) .
ثم تتبعتهم عساكر الخليفة حتى أفنوهم وتفرقوا وانهزمت طائفة منهم وتحصنوا برؤوس الجبال من جهة اللاذقية وادنه ومن بقاياهم الاسماعيلية , وهم غير النصيرية ,وهربت شرذمة منهم إلى مصر وبوقتها كان الحاكم بأمر الله منصور من دولة العبيديين وكان فاسد العقل والعقيدة . ثم بعد أن قتل الحاكم بأمر الله حضر جماعة من بقاياهم إلى جهة الأراضي الشامية فنزلوا بوادي التيم من جهة حاصبيا . وفيهم ممن كان عند الحاكم بأمر الله رجال من الأعاجم وهم حمزة ,ومحمد بن اسماعيل , ودروز وهم الذين أفسدوا الحاكم بأمر الله لأنهم كانوا يعتقدون بالحلول والتناسخ وقالوا للحاكم بأمر الله: ان الإله حل فيه ((تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيراً ))
فاجتمع عليهم كثيرون من طائفة الدروز الموجودون بحاصبيا وجبل لبنان وحوران نسبة إلى دروز الذي كان من جملة من حضر إلى وادي التيم.

السادس عشر من الخلفاء العباسيين


هو المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن طلحة بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد . بويع له بالخلافة يوم موت عمه المعتمد سنة تسع وسبعين ومائتين . كان أسمر مهيباً , معتدل القامة والشكل , طاهر الجبروت , وافر العقل , شديد الوطأة من أفراد خلفاء بني العباس كان يقدم على الأسد لشجاعته وكانت أيامه طيبة كثيرة الأمن والرخاء أسقط المكوس , ونشر العدل , ورفع الظلم . كان يسمى السفاح الثاني لأنه جدد ملك بني العباس .
وفي سنة (285 ) هدم المعتضد بالله دار الندوة في الحرم وصيرها مسجداً . توفي المعتضد سنة تسعين ومائتين عن ست وأربعين سنة من عمره . ومدة خلافته تسع سنين وتسعة أشهر .

السابع عشر من الخلفاء العباسيين

هو المكتفي بالله أبو محمد علي بن المعتضد . بويع له بالخلافة يوم موت أبيه . كان وسيماً , جميلاً ,بديع الحسن , دري اللون , معتدلاً , حسن العقيدة ,كارهاً لسفك الدماء , ليس في الخلفاء من اسمه علي الا هو وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه .وفي أيامه مات الراوندي إلزنديق وهو أحمد بن يحيى بن اسحق ( له في الكفر والالحاد ومناقضة الشريعة مصنفات كثيرة ) وقد أضربت عن ذكر هذيانه وزندقته والعجب من العوام أنهم يذكرونه ويضحكون لاقواله ويغفلون عن كونه كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم في مصنفاته في عدة مواضع . مات (( لعنه الله ولعن محبيه )) سنة (293 ) عن ست وثلاثين سنة من عمره .
توفي المكتفي وهو شاب ببغداد سنة خمس وتسعين ومائتين عن اربع وثلاثين سنة . ومدة خلافته ست سنين وستة أشهر .

الثامن عشر من الخلفاء العباسيين
هو المقتدر بالله أبو الفضل جعفر بن المعتضد . بويع له بالخلافة يوم موت أخيه وهو ابن ثلاث عشرة سنة , كان جيد العقل , صحيح الرأي لكنه كان مؤثراً للشهوات والشراب , مبذراً متلفاً للمال . أعطى الجواهر النفيسة التي في الخزينة لنسائه ومحاظيه , وأعطى محظية الدورة اليتيمة كان وزنها ثلاثة مثاقيل , وأعطى أخرى سبحة جوهر لم ير مثلها , وكان في داره أحد عشر ألف غلام خصي وقد اختل نظام الملك في أيامه لصغر سنة حتى غلب أمر المهدي بالمغرب فبايعه أهل المغرب وبسط للناس العدل والاحسان وخرجت بلاد المغرب عن بني العباس من وقته .
ثم استصباه الوزير ووافقه جماعة فاجتمعوا ودخلوا عليه وهو يلعب بالاكرة فهرب وأرسلوا إلى عبد الله بن المعتز فبايعوه بالخلافة ولقبوه المرتضي بالله لكن لم يتم له أمر وانهزم وعاد المقتدر على ما كان عليه ولم يمكث المرتضي في الخلافة سوى يوم وليلة , ولذا لم يعدوه من الخلفاء . كان فضلاً شاعراً أديباً أخذ عن المبرد وثعلب ومن بليغ كلامه : (( أنفاس الحي خطاه إلى أجله )). لم يؤهل نفسه للخلافة لكن حمله على الخلافة الذين خذلوه بعد بيعته . رثاه علي بن بسام 
فقال :
لله درك من ملك بمضيعة ناهيك في العلم والآداب والحسب
ما فيه لولا ولا ليت فينقصه وإنما أدركته حرفة الأدب
ثم ظهر المقتدر فقتله حتفاً .
ومن الحوادث التي ظهرت في أيام المقتدر سنة (300 ) أنه ساخ جبل بالدينور في الأرض وفيها ولدت بغلة فلواً .
وفي سنة (309 ) قتل الحسين بن منصور الحلاج بإفتاء العلماء والفقهاء بأنه حلال الدم . وله مقالات وشطحات وأخباره وأحواله يطول ذكرها وفيه الخلاف قيل إنه ولي وقيل انه زنديق متكهن مشعبذ والله أعلم .
وفي سنة عشرين وثلاثمائة ركب مؤنس على الخليفة ومعه جند من البربر فقتل المقتدر . وقد بلغ من العمر سبعاً وثلاثين سنة , ومدة خلافته خمس وعشرون سنة .

تبيين 
المهدي الذي بايعه أهل المغرب أيام المقتدر , هو أول دولة العبيديين الذين تسموا بالفاطميين كان ابتداء دولتهم سنة (297 ) وآخرها سنة ( 567 ) وكانت مدة ملكهم مائتين وسبعين سنة . وعددهم أربعة عشر نفساً , منهم ثلاثة بالمغرب , واحد عشر بمصر والشام , كانوا يدعون أنهم أشراف علويون فاطميون . لكن اختلف المؤرخون والنسابون في حقيقة نسبهم فمنهم من يثبتهم ومنهم من ينفيهم والله أعلم .
- أولهم : أبو محمد عبيد الله المهدي بن الحسن بن محمد بن علي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (( على زعم من يثبت نسبهم )) . قام المهدي بالأمر في المغرب يدعي الخلافة ستاً وعشرين سنة وشهوراً .
- ثانيهم : أبو القاسم القائم بأمر الله محمد نزار بن المهدي تولى سنة ( 320 ) وتوفي بالمهدية سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة .ومدته اثنتا عشرة سنة , وعمره خمسون سنة ونيف . وقام بالأمر بعده .
- ثالثهم : أبوالظاهر المنصور بالله اسماعيل بن نزار. بنى مدينة سماها المنصورة واستوطنها , توفي سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة ومدة ملكه سبع سنين وثمانية أشهر .
- رابعهم :ولده أبو تميم المعز لدين الله معد بن اسماعيل وهو أول من أقيمت له الدعوة بمصر . كان شهماً شجاعاً مهيباً اتسعت مملكته وكثرت عساكره .
لما اختل أمر الديار المصرية بعد موت كافور الأخشيدي ومواليه لاشتغال بني العباس بالديلم عن مصر قصد المعز أخذ مصر فجهز قائداً من قواده يسمى جوهراً الصقلي قائد القواد ومعه مائة ألف إلى الديار المصرية وأمره أنه إذا ملكها أن يبني بلداً بالقرب منها لتكون سكناً للمعز . فلما وصل جوهر إلى مصر تسلمها من غير قتال , ثم اختط سور القاهرة واختط القصر في وسط المدينة وعمر الجامع الأزهر وسمى هذه المدينة . ثم أرسل فعرف المعز فحضر بعساكره من بلاد المغرب إلى أن دخل القاهرة من غير ضرر وجلس على سرير الملك من غير منازع , وذلك في ذي القعدة سنة اثنين وستين وثلاثمائة . فأقام المعز بالقاهرة سنتين ونصفاً إلى أن توفي سنة خمس وستين وثلاثمائة وكانت مدة ملكه بالمغرب ومصر ثلاثاً وعشرين سنة ونصفاً فقام بالأمر بعده ولده . 
- خامسهم : أبو منصور العزيز بالله نزار بن معد , كان كريماً , شجاعاً , حسن العفو عند القدرة , قريباً من الناس , مغرماً بالصيد , أديباً , ذكياً , فاضلاً . توفي سنة ست وثمانين وثلاثمائة ومدة ملكه إحدى وعشرون سنة فقام بالأمر بعده ولده .
- سادسهم : أبو علي الحاكم بأمر الله منصور بن نزار , كان شيطاناً مريداً سيىء الاعتقاد سفاكاً للدماء قتل كثيراً من غير ذنب وادعى الألوهية وأمر بسب الصحابة وادعى علم الغيب فرفعت له رقعة فيها .
بالجور والظلم قد رضينا وليس بالكفر والحماقة
إن كنت أوتيت علم غيب بين لنا كاتب البطاقة

فسكت عن قول في المغيبات . كانت له أمور متضادة كتب بسب الصحابة على أبواب المساجد والشوارع ثم محاها ,ومنع صلاة التراويح عشر سنين ثم أباحها , وهدم قمامة النصارى ببيت المقدس ثم أعادها , وبنى المدارس وجعل فيها العلماء والمشايخ ثم قتلهم وهدمها وكانت أفعاله كلها من هذا القبيل . كان يعمل الحسبة بنفسه في الأسواق على حمار له فمن وجده غش أمر عبداً أسود معه يقال له مسعود ان يفعل به الفاحشة (( وهذا أمر لم يسبق إليه )) , وصنف له بعض الباطنية كتاباً ذكر فيه أن روح آدم انتقلت إلى علي وأن روح علي انتقلت إلى الحاكم فلما رأى الناس هذا الكتاب قصدوا قتل من صنفه فسيره الحاكم إلى جبال الشام فنزل بوادي التيم فاستمال قلوب الجهلة وأضل خلقاً كثيراً كما سبق . قتل في شوال سنة إحدى عشرة وأربعمائة وعمره ست وثلاثون سنة , ومدته عشرون سنة فقام بالأمر بعده ولده .

- سابعهم : أبو الحسن الظاهر لإعزاز دين الله علي بن منصور وكان عمره سبع سنين فضعفت دولة العبيديين في أيامه وأقام خمس عشرة سنة وتسعة أشهر وتوفي سنة سبع وعشرين وأربعمائة فقام بالأمر بعده ولده .

-ثامنهم : أبو تميم المستنصر بالله معد بن علي , تولى وهو ابن ثمان سنين وجرت في أيامه فتن وخربت مصر وتغلب أكثر ولاة الأطراف , وحصل الغلاء الذي ما عهد بمثله حتى أكل الناس بعضهم بعضاً , وبيع الرغيف بخمسين ديناراً , وخرجت امرأة ومعها مد من جوهر فقالت : من يأخذ هذا بمد من بُر فلم تجد أحداً . وأقام المستنصر ستين سنة إلى أن مات لاثنتي عشرة بقيت من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة . فقام بالأمر بعده ولده .
-تاسعهم : أبو العباس المستعلي بالله احمد بن معد . وفي زمانه اختلت دولتهم وضعف أمرهم وانقطع من أكثر الناس حكمهم وتغلب الافرنج على أكثر بلاد الشام إلى أن مات سنة خمس وتسعين وأربعمائة ومدة ولايته سبع سنين وشهر . ثم قام بالأمر بعده ولده .
-عاشرهم : أبو علي الآمر باحاكم الله منصور بن أحمد وهو ابن خمس سنين نشأ ظالماً , جاهلاً , طماعاً , كثير الفسق , متظاهراً بالفواحش , رديء الطبع وثب عليه الباطنية فضربوه بالسكاكين إلى أن مات وفرح الناس بقتله . ثم أن جماعة من أتباعه وثبوا على الباطنية فقتلوهم وكانت مدة ولايته ثلاثين سنة وثمانية أشهر سنة وقام بالأمر بعده ابن عمه .
-حادي عشرهم : الحافظ لدين الله عبد المجيد بن أبي القاسم محمد بن المستنصر وعمره ثمان وخمسون سنة . ولم يكن له إلا الاسم وكان الأمر بيد وزيره الأفضل , وكان الحافظ يتظاهر بمذهب الامامية ثم قتل وزيره الأفضل وتصرف في مملكته فأحسن تدبير نفسه إلى أن مات سنة أربع وأربعين وخمسمائة ومدته تسع عشرة سنة ثم قام بالأمر بعده ولده أبو الفداء الظافر بأعداء الله .
-ثاني عشرهم : اسماعيل بن عبد المجيد . كان عارفاً , عاقلاً , ديناً , عمر جامع الظافري بالشوايين ثم قتله وزيره سنة تسع وأربعين وخمسمائة ومدته أربع سنين وثمانية أشهر .
-ثالث عشرهم : أبو القاسم الفائز بنصر الله عيسى بن اسماعيل وعمره خمس سنين , نشأ خيراً , ديناً , عارفاً , عمر جامع الصالح خارج باب زويله , والمشهد الحسيني وكان حسن الرأي والتدبير سار في الناس سيرة حسنة إلى أن أدركته الوفاء سنة خمس وخمسين وخمسمائة .
-رابع عشرهم : أبو محمد العاضد لدين الله عبد الله بن يوسف ابن الحافظ وعمره احدى عشره سنة . كان مبالغاً بسب الصحابة . كان وزيره طلائع بن رزيك فقتل وتولى الوزارة ولده رزيك لقب بالعادل فقتل ثم تولى الوزارة شاور وهو الذي خرب مصر لأن الافرنج ضيقوا الحصار على القاهرة فخاف على مصر فأحرق مدينة باب النور (( وكانت مدينة عظيمة فيها أربعمائة حمام )) وهي الكيمان التي بالقرافة خارج السور وذلك خوفاً من أن يملكها الافرنج فطلب الافرنج من العاضد ألف ألف دينار فسمح لهم ووعدهم . وأرسل العاضد إلى نور الدين الشهيد صاحب الشام يستنصر به وكان نور الدين بحلب فجهز له أسد الدين شيركوه ومعه ابن أخيه يوسف بن أيوب في جيش مقداره عشرة آلاف فارس وخمسون ألف ماش فلما سمع الافرنج بقدومه رحلوا عنه ودخل أسد الدين بالعسكر إلى القاهرة فأكرمه العاضد بمنصب الوزارة فمسك أسد الدين شاور وزير العاضد فقتله . واستمر أسد الدين في وزارة العاضد شهرين وعشرة أيام ثم مات . وتولى مكانه في وزارة العاضد صلاح الدين يوسف بن أيوب , ثم قبض على العاضد وجعله في قصر تحت الحفظ إلى أن مات في المحرم سنة سبع وستين وخمسمائة وهو آخر الفاطميين بمصر
(( والله الباقي مالك الملك رب العالمين )) .
استطراد

صلاح الدين هو الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاري بن مروان الحميدي من الأكراد الروادية كان أبوه أيوب في خدمة زنكي ثم تولى بعلبك .
كان من أمر صلاح الدين أنه لما تولى الوزارة للعاضد العبيدي بمصر أمره نور الدين الشهيد بقطع الخطبة للعبيديين , وأن يقيم الخطبة للعباسيين فأقيمت الخطبة باسم المستضيء بالله العباسي وكانت قد قطعت من مصر من نحو مائتين وعشرين سنة . ثم توفي العاضد العبيدي وتسلم القصر السلطان صلاح الدين بما فيه من نفائس الأموال وأرسل أمير المؤمنين المستضيء بنور الله العباسي ورسوله بهديتين نفيستين إحداهما للسلطان نور الدين الشهيد والأخرى للسلطان صلاح الدين . وصلاح الدين هو من عمال نور الدين الشهيد ووالده وعمه شيركوه كانا من أمرائه وعنده نشأوا وتربوا . فلما توفي نور الدين وولده الملك الصالح إسماعيل استقل صلاح الدين بالسلطنة وقاتل الافرنج وفتح الفتوح وأخذ منهم نيفاً وسبعين مدينة وحصناً , وكان حكمه من أقصى اليمن إلى الموصل ومن طرابلس الغرب إلى النوبة كان رحمه الله ملكاً شجاعاً , كريم الأخلاق , حليماً , متواضعاً ,عمر المساجد والمدارس والخوانق , وعمر قلعة الجبل وسور القاهرة وقبة الشافعي وخلص القدس من الافرنج , كان الشافعي المذهب , أشعري الاعتقاد , كانت ولادته بتكريت سنة (( 532 )) وتوفي بالقلعة دمشق نهار الأربعاء سابع عشر صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة ودفن بالقلعة ثم نقل رحمه الله من القلعة إلى التربة المستجدة بالمدرسة العزيزية شمالي الجامع الملاصقة للكلاسة ولم يوجد في خزينته الخاصة إلا سبعة وأربعون درهماً ودينار واحد , ولم يخلف ملكاً ولا عقاراً , أقام بالسلطنة أربعاً وعشرين سنة وعمره سبع وخمسون سنة . ثم تولى السلطنة من بعده أولاده واحد بعد واحد إلى أن تولى الملك الأشرف موسى بن الملك الناصر صلاح الدين وهو آخر ملك من ملوك بني أيوب وكانت مدة ملكهم ثمانين سنة .

التاسع عشر من الخلفاء العباسيين

هو القاهر بالله أبو المنصور محمد بن المعتضد , بويع له بالخلافة سنة عشرين وثلاثمائة . كان طائشاً , سفاكاً للدماء , قبيح السيرة , كثير التلون , مدمن الخمر وكان من وزرائه ابن مقلة الذي جود الخط العربي وعربه من الخط الكوفي ولم يترك فيه شيئاً يشابه الخط الكوفة ومدة خلافته سنة ونصف وثمانية أيام .

العشرون من الخلفاء العباسيين

هو الراضي بالله أبو العباس محمد بن المقتدر بالله . بويع له بالخلافة سنة اثنين وعشرين وثلاثمائة . كان قصيراً , أسمر ,نحيفاً , سمحاً , جواداً , واسع الصدر , أديباً , شاعراً , وفي أيامه اختل أمر الخلافة جداً وصارت البلاد بين خارجي تغلب عليها , أو عامل يأكل الأموال وصاروا أشبه بملوك الطوائف وكل من حصل في يده بلد ملكها . فالبصرة وواسط والأهواز في يد عبد الله البريدي واخوته , وفارس في يد عماد الدولة بن بويه , والموصل وديار بكر وديار ربيعة وديار مضر بيد بني حمدان , ومصر والشام في يد الأخشيد بن طفج , والمغرب وافريقية في يد المهدي , والأندلس في يد بني أمية , وخراسان وما والاها في يد نصر بن أحمد الساماني , واليمامة وهجر والبحرين في يد أبي طاهر القرمطي , وطبرستان وجرجان في يد الديلم , فلم يبق بيد الراضي غير بغداد والسواد فعم الخراب بسبب ذلك ووهت أركان الدولة العباسية .
توفي الراضي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة عن اثنين وثلاثين سنة من عمره ودفن بالرصافة .

الحادي والعشرون من الخلفاء العباسيين


المتقي بالله أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر . بويع له بالخلافة بعد أخيه الراضي . كان ذا دين وورع , كثير الصوم والتهجد والتلاوة ولم يشرب مسكراً مدة حياته .
وفي أيامه سنة (( 331 )) وصلت الروم إلى ارزن وميافارقين ونصيبين فقتلوا وسبوا ثم طلبوا منديلاً في كنيسة الرها يزعمون أن المسيح مسح به وجهه فارتسمت صورة وجهه فيه فأرسلوه إليهم وأطلقوا الأسارى . توفي المتقي عن ست وأربعين سنة من عمره .

الثاني والعشرون من الخلفاء العباسيين
هو المستكفي بالله أبو القاسم عبد الله بن المكتفي , لم تطل مدته , توفي سنة (( 343 )) ومدته سنة وأربعة أشهر وهو ابن ست وأربعين سنة .

الثالث والعشرون من الخلفاء العباسيين
المطيع لله أبو الفضل القاسم بن المقتدر . بويع له بالخلافة سنة
(( 343 )) وفي أيامه سنة (( 344 )) زلزلت مصر زلزلة عظيمة دامت ثلاث ساعات . وفي سنة ((346 )) نقص البحر ثمانين ذراعاً فظهر فيه جبال وجزائر وأشياء لم نعهد .
توفي بدير العاقول سنة أربع وستين وثلاثمائة عن ثلاث وستين سنة ومدته تسع وعشرون سنة .

الرابع والعشرون من الخلفاء العباسيين

الطائع لله أبو بكر عبد الكريم بن المطيع , بويع له بالخلافة سنة أربع وستين وثلاثمائة . كان مربوعاً , أشقر , كبير الأنف , في خلقه حدة شديدة , شديد القوة , كريماً , شجاعاً , بطلاً ,جواداً , إلا أنه كانت يده قصيرة مع ملوك بني بويه .
توفي الطائع سنة ( 393 ) عن ثلاث وسبعين سنة ومدة خلافته سبع عشرة سنة .

الخامس والعشرون من الخلفاء العباسيين

القادر بالله أبو العباس أحمد بن اسحق بن المقتدر . بويع له بالخلافة سنة ( 381 ). كان أبيض , كبير اللحية , دائم التهجد , كثير الصدقات , له دين متين لكن ليس له من الخلافة إلا اسمها . توفي سنة اثنين وعشرين وأربعمائة عن ست وثمانين سنة ومدة خلافته إحدى وأربعون سنة .

السادس والعشرون من الخلفاء العباسيين
القائم بأمر الله أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله . بويع له بالخلافة يوم موت أبيه . كان ولي عهد في حياته , كان جميلاً , مليح الوجه , ديناً , ورعاً , زاهداً , عالما ً , قوي الدين , واليقين بالله , كثير الصدقات مؤثرا ً للعدل وقضاء الحوائج من خير الخلفاء لكن الوقت لم يعاونه وفي أيامه كان ابتداءُ الدولة السلجوقية وانقراض بني بويه .
وفي سنة ( 461 ) احترق الجامع الأموي بدمشق وزالت محاسنه وسقوفه المذهبة .
وفي سنة سبع وستين وأربعمائة مات الخليفة القائم ومدة خلافته خمس وأربعون سنة وله من العمر (( 77 )) سنة .

السابع والعشرون من الخلفاء العباسيين

المقتدي بأمر الله أبو القاسم عبد الله بن محمد بن القائم . بويع له بالخلافة يوم وفاة جده . كان ديناً , قوي النفس , علي الهمة نجيباً , نفى المغنيات والمومسات من بغداد , وخرب أبراج الحمام صيانة لحرم الناس , وتوفي فجأة عن ثلاث وثلاثين سنة ومدة خلافته ست وعشرة سنة .

الثامن والعشرون من الخلفاء العباسيين

المستظهر بالله أبو العباس أحمد بن المقتدي , بويع له بالخلافة يوم وفاة أبيه وعمره ست عشرة سنة , كان لين الجانب , كريم الأخلاق , سمحاً , جواداً , محباً للعلماء . 
وفي أيامه سنة ( 492 ) أخذت الافرنج بيت المقدس بعد حصار شهر ونصف وقتلوا به أكثر من سبعين ألفاً وهدموا المشاهد وجمعوا اليهود في كنيستهم وأحرقوها عليهم , وتمكنت الافرنج من الشام .
وفي سنة (518 ) نقل المصحف العثماني من مدينة طبرية إلى جامع دمشق خوفاً عليه من الكفار فخرج الناس لتلقيه فوضعوه في الخزانة الشرقية بمقصورة الجامع الأموي وهو بخط حسن في رق من جلد الابل . فأما عثمان رضي الله عنه فلم يعرف أنه كتب بخطه مصحفاً من هذه المصاحف بل كتبت بأمره فنسبت إليه .
وفي سنة أثني عشرة وخمسمائة توفي الخليفة المستظهر عن إحدى وخمسين سنة , ومدة خلافته خمس وعشرون سنة .

التاسع والعشرون من الخلفاء العباسيين

المسترشد بالله أبو منصور الفضل بن المستظهر , بويع له بالخلافة يوم موت والده بعهد منه . كان أشقر , شجاعاً ,بطلاً , ذا همة عالية وشهامة زائدة . ضبط أمور الخلافة ورتبها وأحيا رسومها ونشر أعلامها , كان يباشر الحروب بنفسه لكن الزمن لم يساعده , توفي سنة تسع وعشرين وخمسمائة عن أربع وأربعين سنة مدة خلافته سبع عشرة سنة .

الثلاثون من الخلفاء العباسيين

الراشد بالله أبو جعفر منصور بن المسترشد , بويع له بالخلافة بعهد من أبيه , كان شاباً , أبيض , مليحاً , تام الشكل , شجاعاً شديد البطش , حسن السيرة , كريماً ,جواداً , فصيحاً , توفي سنة ثلاثين وخمسمائة عن ثلاثين سنة ومدة خلافته سنة إلا أياماً .

الواحد والثلاثون من الخلفاء العباسيين
المقتفي لأمر الله أبو عبد الله محمد بن المستظهر , بويع له بالخلافة يوم وفاة ابن أخيه , كان آدم اللون , بوجهه أثر جدري , مليح الشيبة , عظيم الهيبة , سيداً , عالماً , ديناً , فاضلاً ,حليماً شجاعاً , فصيحاً , بيده أزمة المور لا يجري أمر إلا بتوقيعه . في أيامه سنة ( 543 ) حاصر الافرنج دمشق فوصل إليها نور الدين الشهيد محمود بن زنكي صاحب حلب يومئذ وأخوه غازي صاحب الموصل فنصر الله المسلمين بهما وانهزم الافرنج عنهما .
وفي أيامه كان ببلاد الشام زلازل عظيمة هدمت بها بلاد وبيوت كثيرة . وفي أيامه عادت بغداد والعراق إلى يد الخلفاء ولم يبق منازع وقبله كان الحكم للمتغلبين من الملوك وليس للخليفة إلا اسم الخلافة , فمن سلاطنيه أيام دولته السلطان سنجر صاحب خراسان , والسلطان نور الدين الشهيد محمود بن زنكي صاحب الشام ومصر توفي المقتفي سنة خمس وخمسين وخمسمائة عن ست وستين سنة ومدة خلافته ثلاث وعشرون سنة .

الثاني والثلاثون من الخلفاء العباسيين

المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بن المقتفي , بويع له بالخلافة بعد موت أبيه , قيل رأي المستنجد في منامه في حياة والده ان ملكا نزل من السماء فكتب له في كفه أربع خآءت فطلب معبراً فقال : تلي الخلافة سنة وخمس وخمسين وخمسمائة فكان كذلك . كان موصوفاً بالفهم الثاقب , والرأي الصائب , والذكاء لغالب , له شعر منه قوله :

عيرتني بالشيب وهو وقار ليتها عيرت بما هو عار
أن يكن شابت الذوائب مني فالليالي تزينها الأقمار
كان موصفاً بالعدل والرفق وكان شديداً على المفسدين .
توفي سنة ست وستين وخمسمائة عن ثمان وأربعين سنة وكانت مدة خلافته إحدى عشرة سنة .

الثالث والثلاثون من الخلفاء العباسيين

المستضيء بأمر الله أبو محمد حسن بن المستنجد , بويع له بالخلافة يوم مات أبوه , كان جواداً كريماً مؤثراً للخير كثير الصدقات . في أيامه انقرضت دولة العبيديين من مصر وعادت الخطبة فيها لبني العباس وفي سنة (574 ) بنى صلاح الدين تربة الإمام الشافعي رحمه الله . توفي المستضيء سنة خمس وسبعين وخمسمائة عن تسع وعشرين سنة وكانت مدة خلافته تسع سنين ونصف سنة .

الرابع والثلاثون من الخلفاء العباسيين


الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء , بويع له بالخلافة يوم وفاة أبيه , كان أبيض , حسن الوجه , أقنى الأنف , خفيف العارضين , أشقر اللحية ,رقيق المحاسن ,فيه شهامة وإزالة وله عقل ودهاء وفطنة . بسط العدل في أيامه وأمر بإراقة الخمور وترك الملاهي وإزالة المكوس فقويت البلاد وكثرت الأرزاق وقصدت الناس بغداد للتجارة حتى صاروا يتبركون به , كان يدور في الليل بالطرقات يتفقد البلد وهو أطول بني العباس خلافة. كان له عيون وارصاد عند كل سلطان يأتونه بالأخبار وكان في خلافته في عز وجلالة . كانت الملوك والأكابر بمصر والشام إذا ذكر خفضوا أصواتهم هيبة وإجلالاً له .
في أيامه فتح صلاح الدين بيت المقدس وافتتح كثيراً من البلاد الشامية . وفي سنة ( 597 ) حصلت زلزلة عظيمة بمصر والشام والجزيرة وانحسر البحر نحو فراسخ ثم رجع فخربت بلاد وأماكن كثيرة وخسفت قرية من قرى بصرى . وفي أيامه سنة (( 599 )) ظهر جنكيز خان من التاتار كان لا يتدين بدين فأفسد البلاد وأهلك العباد ودخل بخارى فخرب فيها ونهب الأموال وقتل أناساً كثيرة وقصد بلاد خراسان . ومات سنة (( 634 )) فقام ولده (( تولي خان )) : وبعده ولده (( هلاكو )) وبعده ولده (( تكدار )) فأسلم وتسمى بأحمد وكان انقراض دولتهم سنة (( 727 )) .
كان الناصر يؤتى له بالماء الذي يشربه من محل بعيد عن بغداد سبعة فراسخ ويغلى له سبع مرات ثم يوضع في الأوعية سبعة أيام ثم يشرب منه . وبعد ذلك ما مات حتى شق ذكره وأخرج الحصى منه فمات بهذا الداء يوم الأحد سلخ رمضان سنة اثنين وعشرين وستمائة عن سبعين سنة من عمره ومدة خلافته سبع وأربعون سنة .


الخامس والثلاثون من الخلفاء العباسيين

الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد بن الناصر , بويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه كان جميلاً , حسن الهيئة , محسناً للرعية , أبطل المكوس والمظالم , وأظهر العدل وأعاد سنة العمرين , وما ولي الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله أمر بجباية الخراج والأموال على الرسم القديم في العراق , وأرسل إلى القاضي عشرة آلاف دينار ليوفيها عن المعسر , وفرق على العلماء والصلحاء ليلة عيد النحر مائة ألف دينار . توفي سنة ثلاث وعشرين وستمائة . وكانت خلافته تسعة أشهر .

السادس والثلاثون من الخلفاء العباسيين

المستنصر بالله أبو جعفر منصور بن الظاهر , بويع له بالخلافة يوم وفاة أبيه كان أشقر , ضخماً , قصيراً قد خطه الشيب , أزج الحواجب , أدعج العينين , سهل الخدين , أقنى الأنف, قد نشر العدل في الرعايا وقرب أهل العلم والدين , وبنى المساجد والرباطات وحفظ الثغور وفتح الحصون فاجتمعت القلوب على محبته والألسن على مدحه ذا همة عالية وشجاعة وإقدام . استخدم عساكر كثيرة وقصدت التاتار البلاد فلقيهم وهزمهم هزيمة عظيمة .
توفي رحمه الله سنة أربعين وستمائة عن اثنين وخمسين سنة من عمره ومدة خلافته سبع عشرة سنة .

السابع والثلاثون من الخلفاء العباسيين

المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله بن المنتصر, بويع له بالخلافة يوم موت أبيه وهو آخر الخلفاء العباسيين بالعراق , كان كريماً , حليماً , سليم الباطن , قليل الرأي , مبغضاً للبدعة , متمسكاً بالسنة , ولما ولي الخلافة ركن إلى وزيره مؤيد الدين العلقمي الرافضي من سوء تدبيره واشتغاله بلعب الحمام وبما لا يليق , فكان الوزير يلعب بالخليفة كيفما شاء وشايع التتار في الباطن وأطمعهم في مجيئهم إلى العراق وأخذ بغداد ليستأصل شافة الدولة العباسية ويقيم خليفة من آل علي , فكان إذا جاءه أخبار من التتار كتمها عن الخليفة لكنه كان يطالع التتار بأخبار الخليفة والخليفة تائه في لذاته لا رأي له ولا تدبير .

فأشار الوزير على الخليفة بقطع أرزاق أكثر الجنود وان لا لزوم لكثرتها وحسن له أن مصانعة التتار وإكرامهم يحصل به المقصود , كل ذلك من الوزير خدعة وتسهيل للتتار فطمعوا في البلاد وبغداد فكان ذلك من الحوادث العظمى والمصائب الكبرى ما لم تصب المسلمون بمثله .
التتار بلادهم من أقصى بلاد االمشرق يسجدون للشمس عند طلوعها ولا يحرمون شيئاً , يأكلون جميع الدواب حتى بني آدم ولا يعرفون نكاحاً ولا زوجة مخصوصة لرجل .
وفي سنة ست وخمسين وستمائة وصل التتار إلى بغداد ومقدمهم هولاكو وهم قوم لا يحصون , وقد جاؤها وزحفوا عليها بقوة عظيمة وخيل وبقر وغنم ومؤنة فخرج إليهم عسكر الخليفة فهزموهم ودخلوا بغداد يوم عاشوراء فأشار الوزير خذله الله على الخليفة بمصالحتهم وقال : أخرج إليهم وأنا أصلح بينك وبينهم وملك التتار قد رغب في أن يزوج ابنته بابنك الأمير أبي بكر ويبقيك في منصب الخلافة كما كان أجدادك مع السلاطين السلجوقية وينصرف عنك بجيوشه , فليجب مولانا إلى هذا فإن فيه حقن دماء المسلمين ويمكن بعد ذلك أن نفعل ما نريد والرأي عندي أن تخرج إليهم .
فتعمم وتزين وأخذ بردة النبي صلى الله عليه وسلم على كتفه والقضيب بيده وخرج في جمع من العلماء والأعيان فلما اجتمع بكبير التتار أنزله في خيمة وحده , ثم خرج الوزير واستدعى العلماء والفقهاء ليحضروا العقد فكلما حضرت جماعة ضربت أعناقهم حتى قتل جميع من كان مع الخليفة , ثم مد الجسر وبذل السيف في بغداد واستمر القتل فيها نحو أربعين يوماً فبلغت القتلى أكثر من ألفي ألف وثلاثمائة ألف نسمة ولم يسلم إلا من اختفى في بئر أو قناة . وأمر أن يجوع الخليفة حتى بلغ منه الجوع مبلغاً عظيماً فسأله أن يطعم شيئاً فأرسل هلاكو له طبقاً فيه ذهب وطبقاً فيه فضة وطبقاً فيه جواهر وقيل له : كل هذا فقال : هذا لا يؤكل , فقال له :ان كنت تعلم أنه لا يؤكل فلم ادخرته فلو صانعتنا ببعضه واستخدمت به جيشاً لكنت لقيتنا به ثم أمر فأخذ البردة والقضيب منه فوضعهما في طبق نحاس وأحرقهما وذر رمادهما في دجلة وقتل الخليفة وولده بعد أن عذبهما أشد العذاب وذلك نهار الأربعاء رابع عشر صفر سنة تسع وخمسين وستمائة وعفى قبرهما , وكان عمر الخليفة خمسين سنة ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر . ثم قتل بقية أولاده وأسرت بناته فكان ذلك خاتمة الدولة العباسية بالعراق فكانت كل مدتهم خمسمائة سنة وأربعة وعشرون سنة والله الباقي .
خلت المنابر والأسرة منهم فعليهم حتى الممات سلام
ثم ان الوزير الملعون لم يتم له ما أراد في خداعه للخليفة فإنه ذاق من التتار غاية الذل والهوان فإن هولاكو استدعاه بين يديه وعنفه وكدره وأهانه على سوء ما فعله مع أستاذه ثم قتله شر قتلة . ثم انتشرت فتنة التتار فأخذوا بلاد الروم ورتبوا على ملكهم كل سنة أربعمائة ألف دينار . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك

  حسن التفهم والدرك لمسئلة الترك تأليف: أبي الفضل عبد الله محمد الصديقي الغماري تقديم الترك ليس بحجة في شرعنا … لا يقتضي منعًا ولا إيجابا فم...