نبي الله موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام
قال الله تبارك وتعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا}سورة مريم وقال تعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا}سورة مريم.
نسبه عليه السلام
هو مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهرَ بْنِ قَاهَثَ بْنِ لاَوى بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحَاقَ ابْنِ إبْرَاهِيمَ الخَليِلِ، واسم أمه يوْحَانِذُ، وقيل:”أياذخت” والله أعلم، وأما هارون فهو شقيق سيدنا موسى عليهما الصلاة والسلام.
عدد المرات التي ذكر فيها في القرءان الكريم
ذكر اسم موسى عليه الصلاة والسلام في القرءان مائة وستًا وثلاثين مرة في كثير من السور المباركة.
زمان مولد نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام
ولد سيدنا موسى عليه السلام في عهد الطاغية الوليد بن مصعب فرعون مصر عدو الله الذي اشتهر بالطغيان والجبروت وادعى الألوهية.
وفرعون كان لقب كل ملك من ملوك مصر كما أن كسرى لقب لكل ملك من ملوك بلاد فارس، وكما أن قيصر لقب كل ملك من ملوك بلاد الروم، ويقال إن فرعون هذا تولى الملك بعد موت أخيه “قابوس” فكان أعتى وأفجر وأشد عنادًا وطغيانًا منه، وقد ذاق بنو إسرائيل من أذاه وشرّه ما لم يذوقوه من قبل، يقول الله تبارك وتعالى:{نَتْلُوا عَلَيْك مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَان مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ *وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}سورة القصص.
فقد سُلط هذا الملك الطاغية المتكبر فرعون الذي عمّر مدة قيل تزيد على أربعمائة سنة على بني إسرائيل يُذيقهم العذاب يذبح أبناءهم ويستبقي نساءهم للخدمة ويستخدم الرجال منهم في أخس الصنائع والحرف وكان قد صنّفهم أصنافًا، فصنفٌ يبنون وصنف يحرثون وصنف يتولون الأعمال القذرة، ومن لم يكن منهم أهلًا للعمل كان يأخذ منه الجزية.
أراد الله سبحانه وتعالى أن يفرّج عن بني إسرائيل فبعث إليهم موسى بن عمران عليه السلام لينقذهم من شر هذا الملك ويخلصهم من ظلمه وطغيانه، فكانت بعثته عليه الصلاة والسلام رحمةً لبني إسرائيل وإنقاذًا لهم من ظلم هذا الملك.
سبب قتل فرعون أبناء بني إسرائيل وذبحهم
رأى فرعون مصر في منامه رؤيا منامية أفزعته فاهتمّ لها واغتمّ، فقد رأى كأن نارًا قد أقبلت من جهة بيت المقدس حتى وصلت إلى بلاد مصر، وأحاطت بدورها وبيوتها فأحرقتها وأحرقت الأقباط وتركت بني إسرائيل دون أذى، فلما استيقظ هالته هذه الرؤيا، لذلك جمع الكهنة والسحرة والمنجمين وسألهم عن تأويل هذه الرؤيا وتفسيرها، فقالوا له: هذا غلام يولد من بني إسرائيل يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه، ويكون ذهاب ملكك على يديه أيضًا، ويخرجك وقومك من بلدك ويبدل دينك، وقد أظلك زمانه الذي يولد فيه، لذلك أمر فرعون الطاغية أن يقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل، فجمع القابلات وقال لهن: لا يولد على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا تقتلنه وتوعدهنّ ووكّل بهن وكلاء، فكانت القابلة تنفذ أمر فرعون فكانت تقتل كل مولود ذكر من أطفال بني إسرائيل خوفًا من فرعون وبطشه، وأما الإناث فكن لا يُقتلن بل يبقين على قيد الحياة من أجل الخدمة والتسخير، قال تعالى:{يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ}سورة البقرة.
وأمر فرعون كذلك بقتل كل الأطفال الذين هم في زمانه وبقتل من بعدهم، وأخذ جنوده الأشرار يعذبون الحبالى من نساء بني إسرائيل حتى كانت المرأة منهم تسقط حملها خوفًا من التعذيب والتنكيل على أيدي جنود فرعون، ولما كثُر الموت في الشيوخ الكبار من بني إسرائيل، دخل وجهاء الأقباط ورؤساؤهم على فرعون وقالوا له: إن الموت قد وقع في مشيخة بني إسرائيل – أي الكبار منهم- وأنت تأمر بقتل صغارهم لهذا يوشك أن يقع العمل والخدمة علينا ولا يبقى أحد للخدمة غيرنا، لذلك أمر فرعون أن يقتل غلمان بني إسرائيل سنة ويتركوا سنة حتى لا يهلك جميع أبناء بني إسرائيل الذين كان فرعون يستخدمهم في أعماله.
مولد هارون وموسى عليهما السلام
هارون عليه السلام بعثه الله تبارك وتعالى معينًا لنبيه موسى عليه السلام حين أراد أن يبعثه إلى فرعون لدعوته إلى الإيمان، وقد دعا موسى عليه السلام ربه بدعوات حين أمره تعالى أن يذهب إلى فرعون لدعوته إلى الإيمان وقد استجاب الله دعوته، قال تعالى حكاية عن موسى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي *هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}سورة طه.
ولد نبي الله هارون عليه السلام بعد ولادة موسى بثلاث سنوات، وفي السنة التي لا يذبح فيها الأطفال، أي عام المسامحة عن قتل الأبناء فترك ولم يُذبح، وولد نبي الله موسى عليه السلام في السنة التي يذبح فيها الأطفال، فضاقت أمه به ذرعًا خوفًا من قتله وأخذت تأخذ حِذرها وحيطتها من أول ما حبلت به، ولم يكن يظهر عليها مخايل الحمل، ولما قرب وقت وضع الحمل حزنت حزنًا شديدًا واشتد غمها وكربها، فألهمها الله تعالى ألا تخاف ولا تحزن لأن هذا المولود سيكون له شأن عظيم وأنه سيحفظه من كيد فرعون ثم يجعله من المرسلين، وأمرها الله تبارك وتعالى أن ترضعه، حتى إذا خافت عليه تصنع له تابوتًا وصندوقًا من خشب ثم تضعه فيه وتلقيه في البحر ولا تخاف من الهلاك ولا تحزن لأنه سيكون في حفظ الله ورعايته وكفى به حافظًا ووكيلًا.
قال الله تبارك وتعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}سورة القصص.
ولدت أم موسى نبي الله موسى عليه السلام خفية، وجعلت ترضعه برأفة وحنان وهي واثقة من حفظ الله تبارك وتعالى له، ولما خشيت عليه من كيد فرعون وجنوده السفاحين، اتخذت صندوقًا وجعلت فيه قطنًا ثم وضعت فيه وليدها الصغير موسى عليه السلام، وربطت الصندوق في حبل وكانت دارها متاخمة لنهر النيل، فكانت ترضع وليدها موسى كل يوم فإذا خشيت عليه من أحد وضعته في ذلك التابوت والصندوق وأرسلته في البحر وأمسكت طرف الحبل عندها، فإذا ذهب هؤلاء الذين تخشى عليه منهم استرجعته إليها.
وذات يوم أرسلته وذهلت أن تربط طرف الحبل عندها فانطلق الصندوق وفيه موسى الرضيع عليه السلام مع نهر النيل، وانطلق الماء به يرفعه الموج تارة ويخفضه أخرى، حتى وصل إلى قصر فرعون، وبينما كانت الجواري في قصر فرعون يغتسلن على ضفاف نهر النيل أبصرن هذا الصندوق فأخذنه وظنن أن فيه مالًا وأشياء ثمينة، فحملنه على حالته إلى زوجة فرعون ءاسيا بنت مزاحم وكانت من بني إسرائيل، وكانت مؤمنة صالحة تقية على دين الإسلام، وكانت تكتم إسلامها خوفًا من فرعون وطغيانه، فلما فتحت باب التابوت والصندوق رأت فيه طفلًا جميلًا وسيمًا فألقى الله تعالى محبته في قلبها وأحبته حبًا شديدًا، فلما جاء فرعون ورءاه أراد قتله وأمر بذبحه فما كان من زوجته ءاسيا إلا أن دافعت عنه وطلبت منه أن لا يقتله لأنها كانت لا تلد، قال الله تعالى:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}سورة القصص{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} فما كان من فرعون إلا أن أجابها بقوله: يكون لك وأما أنا فلا حاجة لي فيه.
قصة رضاعة موسى عليه السلام
عاش المولود الصغير في دار فرعون عند زوجته ءاسية التي أحبته حبًا شديدًا وأخذت تعطف عليه مع فرعون لما شاهدا فيه من جمال وهيبة، وأخذت تبحث له عن مرضع ترضعه وتربيه، وكانت كلما أحضرت مرضعة لترضعه وتغذيه من لبنها يمتنع عن قبول ذديها، وحاروا في أمره حتى اشتد به الجوع وكثر منه البكاء وخشيت عليه من الهلاك، فأخذت تبحث بنفسها عن مرضع له عسى أن تجد مرضعًا يقبل ثديها ويتغذى بلبنها، وفي هذه الأثناء كان حنين أم موسى عليه السلام يشتد نحو موسى الذي صار في قصر فرعون، وكانت الأشواق تتأجج داخلها شوقًا إلى طفلها الصغير موسى عليه السلام حتى طلبت من أخته أن تتبعه وتقص ءاثاره عسى أن تأتيها بأخبار موسى عليه السلام في قصر فرعون فيشفى غليلها، وكانت قد سمعت أن فرعون قد أصاب صبيًا في تابوت ووضعه في قصره.
واستجابت أخت موسى لطلب أمها وصارت تتقصى وتتبع أخبار أخيها موسى عليه السلام في قصر ودار فرعون حتى أبصرته داخل القصر على بعد منها عنه لئلا يفطن فرعون لها، ولما تتبعت أخباره وأحواله علمت أنه ممتنع عن قبول ثدي أي مرضعة تأتي لترضعه وأنه كثير البكاء من الجوع، فقد قيل إنه بقي عليه السلام ثمانية أيام ولياليهن كلما أتي بمرضع لم يقبل ثديها حتى أهمهم ذلك واشتد عليهم.
عند ذلك دخلت أخت موسى القصر وتقدمت من ءاسية زوجة فرعون تعرض عليها أن تأتي لها بامرأة مرضعة أمينة تكفل وتتعهد هذا الرضيع الصغير في مقابل أجر لها فوافقت ءاسية على طلبها، وانطلقت أخت موسى بفرح وسرور إلى أمها تخبرها الخبر، وما إن سمعت هذا الخبر حتى عمّها الفرح والسرور وانطلقت إلى قصر فرعون، فلما دخلت ووضعت وليدها الصغير موسى في حجرها التقط موسى عليه السلام ثديها وأخذ يرضع منه حتى ارتوى، ففرحت ءاسية بذلك فرحًا عظيمًا وطلبت منها أن تمكث في القصر لترضع هذا الغلام، ووعدتها بأن تعطيها أنواع الهدايا وتكرمها بأنواع الإكرام، لكن أم موسى طلبت من ءاسية أن تسمح بها بأخذ الغلام إلى بيتها لتتعهده هناك بالعناية والرعاية لأنها لا تستطيع أن تترك بيتها وأولادها، وأمام هذا الأمر الواقع رضيت ءاسية بذلك على أن تأتي به إليها في القصر كل فترة لتراه ثم تعيده لها، وهكذا أعطى الله تبارك وتعالى أم موسى ما وعدها به وردّ لها ولدها موسى وكان وعد الله تعالى حقًا، يقول الله تبارك وتعالى:{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ* وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}سورة القصص.
وقال تعالى:{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى* إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ}سورة طه.
فائدة: في قوله تعالى:{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ}سورة القصص، قال المفسرون: هذا تحريم منع وليس تحريم شرع، فقد ألهم الله سبحانه موسى عليه السلام وهو طفل في المهد أن لا يرضع من المراضع التي كان يؤتى بهن إلى قصر فرعون ليرضعنه حتى جاءت أمه عليه السلام وأرضعته.
نشأة موسى عليه السلام وقتله للرجل القبطي
مكث موسى عليه السلام عند أمه ترضعه حتى فطمته ثم ردته إليهم، فنشأ عليه السلام في حجر فرعون وزوجته ءاسيا واتخذاه ولدًا، وشبّ عليه السلام في قصر فرعون وعاش فيه معززًا مكرمًا وكان يعيش عيشة أبناء الملوك فيركب مراكب فرعون ويلبس ما يلبس فرعون.
وترعرع عليه السلام بين قومه حتى إذا بلغ أشده ءاتاه الله تعالى حُكمًا وعلمًا، وذات يوم ركب فرعون مركبًا وليس عنده موسى عليه السلام فلما جاء موسى ركب في إثره يتبعه فأدركه المقيل في مدينة من مدن مصر القديمة، وبينما هو يتجول في طرقها وكان الوقت وقت ظهيرة والأسواق مغلقة والناس في بيوتهم وجد رجلين يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل والآخر قبطي من ءال فرعون اعتدى على ذاك الإسرائيلي، فلما مر موسى عليه السلام استغاثه الإسرائيلي ليخلصه من شر ذلك القبطي، فأقبل موسى عليه السلام نحو القبطي يريد أن يمنعه من الاعتداء ويدفع الأذى عن ذاك الإسرائيلي فوكزه موسى عليه السلام – ضربه بجمع يده- فقضى عليه وقتله وخرّ القبطي على الأرض ميتًا، فندم موسى عليه السلام على ذلك وكانت هذه معصية صغيرة من سيدنا موسى عليه السلام وذلك لأنه لا ينبغي لنبي من الأنبياء أن يقتل حتى يؤمر أو يؤذن له بالقتل، وتاب سيدنا موسى عليه السلام من هذا الذنب وقبل الله تعالى توبته وغفر له، يقول الله تبارك وتعالى إخبارًا عن نبيه موسى عليه السلام:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ}سورة القصص.
ولما قتل موسى عليه السلام ذلك القبطي الذي هو من أتباع فرعون أصبح عليه السلام في المدينة التي دخلها خائفًا على نفسه من فرعون وأتباعه ويترقب وينتظر سوءًا يناله منهم إذا علموا أن هذا القتيل إنما قتله موسى عليه السلام في نصرة رجل من بني إسرائيل فتقوى بذلك ظنونهم أن موسى منهم ويترتب على ذلك أمر عظيم، ولم يكن أحد من الناس قد رأى موسى عليه السلام يقتل القبطي إلا ذاك الرجل الإسرائيلي.
وكان الأقباط أتباع فرعون قد أتوا فرعون وقد غاظهم وأغضبهم قتل واحد منهم، وطلبوا منه أن يأخذ لهم بثأرهم من بني إسرائيل وقالوا له: إن بني إشرائيل قتلوا رجلًا منا فخذ لنا بحقنا، فقال لهم فرعون: ائتوني بقاتله ومن يشد عليه لآخذ لكم حقكم.
فبينما هم يطوفون يبحثون عن القاتل ويتلمسون الأخبار إذ وقعت حادثة أخرى بين ذاك الإسرائيلي وأحد الأقباط في اليوم الثاني وإذا موسى عليه السلام يمر فرأى ذاك الإسرائيلي يقاتل قبطيًا فرعونيًا ءاخر فاستغاثه هذا الإسرائيلي على خصمه الفرعوني، فتقدم موسى عليه السلام غاضبًا وهو يريد أن يبطش بذلك الفرعوني القبطي، ولكن لما رأى هذا الإسرائيلي غضب موسى عليه السلام ورأى ءاثار الغضب على وجهه وسمعه يقول معنفًا له على كثرة مخاصمته:{إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} ورءاه وقد همّ أن يبطش بهذا الفرعوني فظن أنه يريده فخاف على نفسه فقال لموسى عليه السلام حينئذ: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس، فسمع الفرعوني هذا الكلام وانطلق وذهب مسرعًا إلى فرعون وجماعته وأخبرهم أن موسى هو الذي قتل ذاك الرجل القبطي، فما كان من فرعون لما سمع هذا الخبر إلا أن أمر جنده أن يبحثوا عن موسى ويأتوه به ليقتله، حتى لا يتجرأ أحد من بني إسرائيل على قتل أحد من أتباعه الأقباط، فذهب الجند يفتشون ويبحثون عن موسى عليه السلام في طرقات المدينة، وكان رجل مؤمن من ءال فرعون يكتم إيمانه يقال إنه “حزقيل” قد علم بأمر فرعون بالإتيان بموسى ليقتله فما كان منه إلا أن سبقهم إلى موسى عليه السلام من طريق أقرب وأخبره بالخبر وبمؤامرة فرعون وجنده وطلب منه ناصحًا مشفقًا عليه أن يخرج من مصر خوفًا عليه من فرعون وجنوده، وقبل موسى عليه السلام نصيحته وخرج من مصر إلى أرض “مدين” ودعا ربه أن يهديه الطريق إليها وأن ينجيه من شر فرعون.
يقول الله تبارك وتعالى إخبارًا عن نبيه موسى عليه السلام:{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ * وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}سورة القصص.
خروج موسى عليه السلام إلى أرض مدين، واجتماعه بني الله شعيب عليه السلام
خرج سيدنا موسى عليه السلام من أرض مصر يريد النجاة من كيد فرعون وجنوده، ولم يكن خروجه جُبنًا لأن الأنبياء يستحيل عليهم الجبن، وتوجه عليه السلام إلى مدين ماشيًا على قدميه بغير زاد ولا دابة يركبها فكان يأكل ورق الشجر، ومدين هي المدينة التي أهلك الله تعالى فيها قوم نبيه شعيب، وبقي يمشي مسيرة ثمانية أيام حتى وصل إلى مدين وقد أثر به الجوع والتعب، فجلس تحت ظل شجرة فأبصر امرأتين وكانتا أختين ترعيان الأغنام وتريدان سقي أغنامهما من بئر كبيرة، كان الرعاة يسقون مواشيهم منها وكانت هاتان الأختان تحبسان غنمهما لئلا يختلط بغنم الآخرين، فأشفق موسى عليه السلام عليهما فسألهما عن سبب تعهدهما لرعاية الغنم بأنفسهما، فأخبرتاه بأن أباهما شيخ كبير وليس عنده من الأولاد الذكور من يرعى له هذه الأغنام، وكان موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وهو البئر وجد عليه جماعة من الرعاة يسقون أغنامهم منه فلما فرغوا أعادوا صخرة كبيرة عليه، وكانت هذه الصخرة لا يطيق رفعها إلا عشرة رجال، فلما حدثت هاتان الاختان خبرهما لموسى عليه السلام تقدم نحو الصخرة الكبيرة الموضوعة على فم البئر فرفعها وحده ثم استقى منها الماء وسقى لهاتين الفتاتين غنمهما ورد الحجر مكانه، فلما فرغ من ذلك انصرف إلى ظل شجرة وجلس تحتها يدعو الله تعالى ويشكره، يقول الله تبارك وتعالى إخبارًا عن نبيه موسى عليه السلام عندما خرج إلى مدينة مدين:{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}سورة القصص.
بعد أن سقى موسى عليه السلام غنم المرأتين رجعتا إلى أبيهما نبي الله شعيب عليه السلام مسرعتين وأخبرتاه بخبر موسى عليه السلام، وكيف سقى لهما غنمهما وأخبرتاه بقوته، وطلبتا منه أن يكرمه على هذا الصنيع الحسن معهما، فسُرّ شعيب عليه السلام لحسن صنيع موسى وبعث إحدى ابنتيه هاتين لدعوته إليه، فجاءت إلى موسى عليه السلام تمشي على استحياء ووقار وحشمة وطلبت منه أن يذهب معها إلى أبيها ليجزيه على عظيم صنعه معها ومع اختها وعلى سقيه غنمهما، فقام معها موسى عليه السلام وقال لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق فإني أمره أن تُصيب الريح ثيابك فتصف جسدك، فمشت خلفه تصف له الطريق حتى وصل إلى أبيها شعيب عليه السلام، فلما جاءه أخبره بأمره من حين وُلد والسبب الذي أخرجه من أرض مصر، فلما سمع نبي الله شعيب خبر موسى عليه السلام طمأنه قائلًا له: لا تخف نجوت من القوم الظالمين، لأنه لا سلطان لفرعون وجنده في أرض مدين.
يقول الله تبارك وتعالى:{فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}سورة القصص.
وطلبت إحدى الفتاتين من والدها شعيب عليه السلام أن يتخذ موسى عليه السلام أجيرًا عنده لقوّته وصدقه وأمانته قائلة له:{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}سورة القصص، وإنما سمته قويًا لرفعه الصخرة العظيمة وحده عن رأس البئر، وسمته أمينًا لأنه أمرها أن تمشي خلفها عندما جاءته تدعوه إلى المجيء إلى أبيها، وأخبرت أباها بما فعل معها عندما دعته إليه فسُرّ أبوها شعيب عليه السلام بأمانة موسى وورعه ورغب فيه وزوّجه ابنته التي أحضرته وقيل اسمها “صفورا” على أن يرعى له الغنم ثماني سنين يكون فيها أجيرًا عنده وإن شاء يتممها موسى عليه السلام عشرًا، ولكن موسى عليه السلام أتمّ المدة كلها وهي عشر تفضلًا منه، قال الله تبارك وتعالى إخبارًا عن موسى عليه السلام وما جرى بينه وبين شعيب عليه السلام:{قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}سورة القصص.
فائدة: اختلف في الشيخ المذكور في الآية فقيل هو شعيب نبي الله عليه السلام وهذا هو المشهور عند كثيرين، قال بعضهم: بأن شعيبًا عاش عمرًا طويلًا بعد هلاك قومه حتى أدركه موسى عليه السلام وتزوج بابنته، وقيل هو رجل اسمه شعيب وكان سيد الماء ولكن ليس بالنبي صاحب مدين، وقيل هو ابن أخي شعيب، وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب، وقيل غير ذلك. والله أعلم.
يتبع إن شاء الله في الجزء الثاني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق