بيان أن من السلف من إشتغل بعلم الكلام
ومن أبرز علماء السلف المشتغلين بهذا العلم الإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، فقد قال الحافظ البيهقي في كتابه "مناقب الشافعي " ما نصه (1): "وقرأت في كتاب أبي نعيم الأصبهاني حكاية عن الصاحب بن عباد أنه ذكر في كتابه بإسناده عن إسحاق أنه قال: قال لي أبي: كلَّم الشافعي يوماً بعض الفقهاء فدقق عليه وحقق، وطالب وضيق، فقلت له: يا أبا عبد الله: هذا لأهل الكلام لا لأهل الحلال والحرام، فقال: أحكمنا ذاك قبل هذا" اهـ.
وقال الربيع بن سليمان: "حضرت الشافعي وحدَّثني أبو شعيب إلا أني أعلم أنه حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد وحفص الفرد وكان الشافعي يسميه المنفرد، فسأل حفص عبد الله بن عبد الحكم فقال: ما تقول في القرءان، فأبى أن يجيبه فسأل يوسف بن عمرو،فلم يجبه وكلاهما أشار إلى الشافعي، فسأل الشافعي فاحتجَّ عليه الشافعي، فطالت فيه المناظرة فقام الشافعي بالحجة عليه بأن القرءان كلام الله غير مخلوق، وكفَّر حفصاً الفرد، قال الربيع: فلقيت حفصاً الفرد في المسجد بعدُ فقال: أراد الشافعي قتلي " (2) اهـ.
وللإمام أبي حنيفة رضي الله عنه: (الفقه الأكبر) و (الرسالة) و(الفقه الأبسط و (العالم والمتعلّم) ,و(الوصية).، واختلف في نسبتها إلى الإمام كثيراً، فمنهم من ينكر نسبتها للإمام مطلقاً ويزعم أنها ليست من عمله، ومنهم من ينسبها إلى محمد بن يوسف البخاري المكنى بأبي حنيفة وهذا قول المعتزلة لما فيها من إبطال نصوصهم الزائغة وادعائهم كون الإمام منهم- أي في المعتقد- كما في المناقب الكردرية. والإمام أبو حنيفة وصاحباه أول من تكلم في أصول الدين بالتوسُّع وأتقنها بقواطع البراهين على رأس المائة الأولى، وقد ذكر الأستاذ عبد القاهر البغدادي أن أو متكلمي أهل السنّة من الفقهاء أبو حنيفة والشافعي، ألّف فيه الفقه الأكبر والرسالة في نصرة أهل السنّة إلى مقاتل بن سليمان صاحب التفسير وكان مجسّماً، وقد ناظر فرقة الخوارج والقدرية والدهرية وكانت دعاتهم بالبصرة فسافر إليها نيفاً وعشرين مرةً، وفضَّهم بالأدلة الباهرة، وبلغ في الكلام- أي علم التوحيد- إلى أنه كان المشار إليه بين الأنام، واقتدى به تلامذته الأعلام.
وفي مناقب الكردري عن خالد بن زيد العمري أنه كان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وحماد بن أبي حنيفة قد خَصَمُوا بالكلام الناس أي ألزموا المخالفين وهم أئمة العلم. وعن الإمام أبي عبد الله الصيمري أن الإمام أبا حنيفة كان متكلم هذه الأمة في زمانه، وفقيههم في الحلال والحرام.
هذه الكتب الخمسة ليست من جمع الإمام أبي حنيفة، بل الصحيح أن هذه المسائل المذكورة في هذه الكتب من أمالي الإمام التي أملاها على أصحابه كحماد وأبي يوسف وأبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي وأبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي، فهم الذين قاموا بجمعها، وتلقاها عنهم جماعة من الأئمة كإسمعيل بن حمّاد ومحمد بن مقاتل الرازي ومحمّد بن سماعة ونصير بن يحي البلخي وشداد بن الحكم وغيرهم، إلى أن وصلت بالإسناد الصحيح إلى الإمام أبي منصور الماتريدي، فمن عزاهن إلى الإمام صح لكون تلك المسائل من إملائه، ومن عزاهن إلى أبي مطيع البلخي أو غيره ممن هو في طبقته أو ممن هو بعدهم صح لكونها من جمعه، ذكر ذلك الفقيه المحدّث اللغوي محمد مرتضى الزبيدي (3).
وقال العلامة الأصولي الزركشي في تشنيف المسامع: "إن الأئمة انتدبوا للرد على أهل البدع والضلال، وقد صنَّف الشافعيّ كتاب (القياس) ردَّ فيه على من قال بقدم العالم من الملحدين، وكتاب (الرد على البراهمة) وغير ذلك، وأبو حنيفة كتاب (الفقه الأكبر) وكتاب (العالم والمتعلّم) رد فيه على المخالفين، وكذلك مالك سئل عن مسائل هذا العلم فأجاب عنها بالطريق القويم، وكذلك الإمام أحمد"اهـ.
وقد صنّف سيد المحدّثين في زمانه محمّد بن إسماعيل البخاري - المتوفى سنة 256 هـ- كتاب (خلق أفعال العباد)، وصنَّف المحدث نعيم بن حماد الخزاعي وهو من أقران الإمام- المتوفى في حبس الواثق سنة 228 هـ- كتاباً في الردّ على الجهمية وغيرهم، وصنَّف المحدّث محمّد بن أسلم الطوسي- المتوفى سنة 242 هـ- وهو من أقران الإمام أحمد أيضاً في الردّ على الجهمية،
وقد ردّ على المعتزلة فأجاد بالتأليف ثلاثة- من علماء السنّة من أقران الإمام أحمد بن حنبل: الحارث المحاسبي، والحسين الكرابيسي، وعبد الله بن سعيد بن كُلاّب- المتوفى بعد الأربعين ومائتين بقليل- ويمتاز الأول بإمامته أيضاً في التصوف.
وقد صنَّف إماما أهل السنّة والجماعة في عصرهما وبعده إلى يومنا هذا أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي المصنفات العظيمة في الردّ على طوائف المبتدعة والمخالفين للإسلام مملوءة بحجج المنقول والمعقول، وامتاز الأول بمناظراته العديدة للمعتزلة بالبصرة التي فلَّ بها حَدَّهم وقلل عددهم. وكانت وفاة الأشعري في سنة أربع وعشرين وثلاثمائة للهجرة ، وتوفي الشيخ أبو منصور بعد وفاة الأشعري بقليل.
وصنَّف أتباعهما من بعدهما المئات من المجلدات في الردّ على المبتدعة والمخالفين للإسلام بالحجج الدامغة الكثيرة والمناظرات العديدة قطعوا بها المعتزلة الذين هم أفحل طوائف المبتدعة، كما قطعوا غيرهم من المبتدعة والدهريين والفلاسفة والمنجّمين، ورفعوا لواء مذهب الأشعري في الخافِقَينْ (4)
وأبرزهم في نشره ثلاثة: الأستاذ أبو بكر بن فُورَك، وأبو إسحاق الإسفراييني، والقاضي الإمام أبو بكر الباقلاني، فالأولان نشراه في المشرق، والقاضي نشره في المشرق والمغرب، فما جاءت المائة الخامسة إلا والأمة الإسلامية أشعرية وماتريدية لم يشذّ عنها سوى نذر من المعتزلة وشرذمة من المشبّهة وطائفة من الخوارج، فلا تجد عالماً محقّقاً أو فقيهاً مدققاً إلا وهو أشعري أو ماتريدي.
وإن حال هؤلاء المنكرين لعلم الكلام لهو الموصوف بقول الشاعر فيهم:
وإن حال هؤلاء المنكرين لعلم الكلام لهو الموصوف بقول الشاعر فيهم:
( البسيط)
عابَ الكلامَ أناسٌ لا عقولَ لهم.... وما عليه إذا عابوه من ضررِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق